مقال رأي
كم كان محمود درويش صادقًا حين كتب: "ما أوسع الثورة، ما أضيق الرحلة.. ما أكبر الفكرة ما أصغر الدولة!". بضع عبارات تلخّص حقيقة الواقع المتعثر لرحلة الثورة التونسية، التي ظلت، رغم عرجها وترنّحها، تكابد من أجل بقائها كـ"معنى" رغم محاولات دحرها بـ"إلغاء" ذكراها من "مجلّد التواريخ الوطنية".. ربما كان من السهل شطبها كعيد رسمي من المجلة الرسمية لتونس، لكن أنّى لهذا الموعد التاريخي أن يُمحى من أفئدتنا قبل ذاكرتنا؟
تطالعنا الذكرى الـ12 لثورة تونس والثانية التي لا يُحتفل بها رسميًا بعد أن قرر سعيّد إلغاء تاريخ 14 جانفي كعيد للثورة ربما في مسعى منه لوأد "المعنى" في رمزية التاريخ الذي ارتبط في ذاكرة التونسيين بقطع دابر الاستبداد
تطالعنا الذكرى الـ12 لثورة تونس المجيدة، والثانية التي لا يُحتفل بها رسميًا بعد أن قرر الرئيس التونسي قيس سعيّد، في إحدى شطحاته، إلغاء تاريخ 14 جانفي/يناير كعيد رسمي يُحتفل فيه بالثورة التونسية وتعويضه بـ17 ديسمبر/كانون الأول الذي كان قد مثّل في شتاء 2010 تاريخ إضرام محمد البوعزيزي النار في جسده.
ربما كان في تغيير "التاريخ" مسعًى من الرئيس لوأد "المعنى" في رمزية التاريخ الذي ارتبط في ذاكرة التونسيين بقطع دابر الاستبداد، لكنّه اتضح جليًا في الموعدين اللذينْ تليا قراره أنّ المسألة ليست بالبساطة التي خُيّلت له.. قد يكون بإمكانه أن يشطب ما شاء من كلمات من المجلة الرسمية الناطقة باسمه، لكن أيظنّ أن ما آتاه نفسه من صلاحيات يُعطيه القدرة على نزع المعنى منّا؟
ليس من السهل على التونسيين وقد تجرعوا من كأس الحرية والديمقراطية لسنوات بعد أن لفظوا منظومة الاستبداد البائدة أن يتقبلوا العودة لذات المربّع، للنقطة الصفر
أول ذكرى ثورة مسلوبة كانت سنة 2022، بعد أشهر قليلة من إجراءات 25 جويلية/يوليو 2021 الشهيرة، الذكرى التي عرّت عن مدى فظاعة المنظومة الجديدة في التعاطي مع الحقوق والحريات ومدى لا محدودية يد السلطة في استعمال القوة. لعلّ تلك الذكرى مثّلت أحد أبرز المواعيد التي مُورست فيها شتّى الانتهاكات لصد المتظاهرين الذين خرجوا احتفاءً بذكرى الثورة رغم إلغائها واحتجاجًا على المسار السياسي لسعيّد، من ضرب وغاز مسيل للدموع واستعمال لخراطيم المياه الباردة في شتاء جانفي القارس وإيقافات لعشرات المحتجين، وغيرها من الممارسات التي وصفها سياسيون وحقوقيون، على الصعيد المحلي والدولي، بـ"الشنيعة" و"غير المسبوقة".
ليس من السهل على التونسيين، وقد تجرعوا من كأس الحرية والديمقراطية لسنوات بعد أن لفظوا منظومة الاستبداد البائدة، أن يتقبلوا العودة لذات المربّع، للنقطة الصفر. ودليل ذلك هو عدم خنوعهم وقبولهم بالأمر الواقع الذي فُرض عليه لسلبهم آخر ما تبقى لهم من ثورتهم: تاريخها. ذلك المعنى/ الرمز الذي لا بدّ أن يظلّ ثابتًا من أجل بقاء الأمل، وإن خفُت بريقه.
الشارع الذي جمع ذات جانفي 2011 التونسيين بتنوّعهم من أجل إنهاء حقبة سلطة الرجل الواحد، هاهو اليوم بعد عقدٍ وسنتين يجمعهم من جديد على اختلاف مشاربهم السياسية منادين بـ"إسقاط هذه المنظومة"
تطالعنا هذه الذكرى الـ12 للثورة، والبلاد في أضنك أحوالها وقد اشتدّ بشعبها القنط وضاقت به السبل، لكن مع ذلك لا يزال التعطّش للحرية وللسير في درب الديمقراطية أحد ثوابت هذا الشعب، في نسبة كبيرة منه، التي تدفعه إلى مواصلة الخروج لشارع الحبيب بورقيبة/شارع الثورة يوم 14 جانفي/يناير رافعًا "الحرية والكرامة الوطنية" مطلبًا أزليًا أبديًا.
الشارع الذي جمع ذات جانفي/يناير 2011 التونسيين، بتنوّعهم، من أجل إنهاء حقبة سلطة الرجل الواحد، هاهو اليوم بعد عقدٍ وسنتين من ذلك التاريخ يجمعهم من جديد، على اختلاف مشاربهم السياسية، من اليمين إلى اليسار، منادين بنفس المطالب في مقدمتها "إسقاط هذه المنظومة"، المنظومة التي أرعبتها بيانات الأحزاب الداعية للتظاهر قبل أن يصلها صوتها، فاستبقت في محاولة يائسة بأن ترفض الترخيص لبعضها وأن تغيّر مواعيد وأمكنة البعض الآخر بالشكل الذي لا يسمح بتلاقيها، ولم يشفِ ذلك غليلها بل إنها زادت الوصفة بهارًا بأن أصدرت وزارة الداخلية بيان تهديد ووعيد لكلّ من يخالف الترتيبات الواردة في التراخيص.
أيُخيّل لهذه المنظومة أنّ، بتقييدها حق التظاهر وبتهديداتها الضمنية، بإمكانها ردع من تعرضوا لضخ المياه الباردة في جانفي 2022 ومن خاضوا شتى أشكال النضالات قبل الثورة وبعدها والحيلولة دون نزولهم للشارع؟
لكن أيُخيّل لهذه المنظومة أنّ، بمحاولاتها تقييد الحق في التظاهر عبر رفض الترخيص للمظاهرات وبتهديداتها الضمنية، بإمكانها ردع من تعرضوا لضخ المياه الباردة في جانفي 2022 ومن خاضوا شتى أشكال النضالات قبل الثورة وبعدها والحيلولة دون نزولهم للشارع؟ المسألة ليست بتلك البساطة التي تُهيّأ للحاكم، فـ"الثورة فكرة.. والفكرة لا تموت".
هنا يكمن سرّ المعنى المتأصّل والثابت واللامفهوم في الآن ذاته لرمزية الثورة، التي وإن تعثرت خطاها لا بدّ أن يأتي يومٌ لها لتستأنف طريقها بخطًى رتيبة سرمدية.. طال الزمن أم قصر!
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"