وردت عبارة "الثورة الثقافيّة" في خطاب رئيس الجمهورية قيس سعيّد بعد أداء اليمين الدستورية، وقد كان "خطاب قِيَم" بامتياز يأتي في مرحلة تعرف فيها السياسة وإدارة الشأن العام تطبيعًا غير مسبوق مع الفساد، وقد بات سوسًا ينخر أهمّ دعامات التجربة الجديدة.
وإلى جانب التلقّي الإيجابي للعبارة لورودها في كلمة تستعيد مرجعيّة الثورة وأهدافها في أعلى مؤسسات الدولة وأقواها رمزيّة عند التوانسة، انطرح سؤالٌ مهمٌّ كان يجب أن ينطرح حول "الثورة الثقافيّة": هل هي واقع متحقّق مثلما أشار "خطاب القيم" أم هي فكرة للتحقّق أم هي بين هذا وذاك مسار انطلق يُرجَى أن يبلُغ غاياته، وأنّ التفويض التاريخي مع الدور الثاني للانتخابات الرئاسية قد يكون مقدّمتَه الضروريّة وخطوتَه الأولى؟
اقرأ/ي أيضًا: خطاب قيس سعيّد بعد آداء اليمين رئيسًا لتونس.. حماسة وتحديات كبرى منتظرة
الثورة الثقافيّة ومرجعيّتها في التجارب الثوريّة
ترتبط العبارة، كما هو معلوم، بسياقات التغيير الجذري في العالم، وتنحدر من معجم الثورات الوطنيّة التي اندلعت في محيط الغرب الأوروبي الناهض وأفقه الاستعماري، وتحديدًا في التجربة الصينيّة مع زعيمها التاريخي ماو تسي تونغ. وتُعتبر من إضافات الثورة الماويّة إلى معجم الثورة الحديث.
غير أنّ العبارة، لم تكن موسومة بالإيجاب في كلّ الحالات، سواء داخل التجربة الصينيّة أو في صداها القوي في العالم ومنه أوروبّا. فقد عرفت انتشارًا واسعًا لحركات الشباب الماويّة في ستينيّات القرن الماضي ومنها حركة ماي/آيار 68 بفرنسا التي انطلقت طلابيّة لتشمل كلّ المجتمع الفرنسي وتهزّ أسس الجمهوريّة الخامسة المؤسساتيّة والقيميّة. وقد قال عنها أحد صحفيي لوموند وكان من رموزها: "هي ثورة ثقافيّة بتعابير سياسيّة".
ترتبط عبارة "الثورة الثقافية" بسياقات التغيير الجذري في العالم، وتنحدر من معجم الثورات الوطنيّة التي اندلعت في محيط الغرب الأوروبي الناهض وأفقه الاستعماري، وتحديدًا في التجربة الصينيّة مع ماو تسي تونغ
الذين تتبّعوا أطوار الثورة الثقافيّة في الصين، من الكتّاب والصحفيين المحقّقين، يدركون أنّها انطلقت إثر خلاف داخل الحزب الشيوعي الصيني بعد حملة "دع ألف زهرة تزهر". وكان هدف ماو منها استعادة النظام الاجتماعي بعد حرب أهليّة مدمّرة. ورغم ما كان للإصلاح الزراعي والتخطيط الاقتصادي الجديد من نتائج مذهلة من النموّ الاقتصادي، فإنّ التوجّس من الانحراف نحو الليبرالية بدَل تحقيق "تحوّل اشتراكي سلس" للحياة الاقتصاديّة تسبّب في انعطافة جديدة سُمّيت" القفزة الكبرى إلى الأمام" انتهت بالتخلّي عن ليبراليّة "المائة زهرة". وكان لهذه القفزة نتائج كارثيّة من مظاهرها ما عرفته البلاد من مجاعة بين 60 و61 أُطِلق عليها مجاعة القرن، وقد أفضت إلى هلاك أكثر من عشرين مليون.
أمام هذا الوضع تنازل ماو لـ"ليو شاوشي" أحد القادة التاريخيين على قيادة الحزب والدولة دون أن يفقد زعامته، وهو ما مكّنه من إزاحة لياو "الليبرالي" فيما بعد باسم الثورة الثقافيّة في دعوة من ماو لرفاقه بأن "لا ينسوا الصراع الطبقي" ودعوته إلى "ثورة داخل الثورة"، فكانت "الثورة الثقافيّة" أقرب إلى القرار السياسي.
وإذا كان منطلق الثورة الصينيّة النظريّة الماركسيّة بوجهيها الفلسفي (الماديّة الجدليّة) والمنهجي (الماديّة التاريخيّة) فإنّ خصوصيّة الصين بامتدادها القارّي وديمغرافيتها التي تضمّ أمَمًا شتّى وديانات لا حصر لها. جعلت مع تجربتها مع الماركسية كتابًا مفتوحًا ليس من السهل تصفّحه، ولكن يمكن القول إن الزعيم الصيني أفضل من ترجم بعيون كونفيشيوسيّة النظريّة الماركسيّة خارج مجالها المعرفي الأوروبّي، لا يضاهيه في هذا إلاّ "لاهوت التحرّر" و"اليسار البوليفاري" في أمريكا اللاتينيّة.
كانت تجربته "فكرة للتطبيق" وليس "فكرة مطبّقة"، وهذا خلاف ما كان عليه الحال في المجال العربي وفي تجارب أخرى كثيرة من العالم. ويبدو أنّ هذا النجاح هو الذي ولّد العداء بين الماويّة والستالينيّة في الاتحاد السوفياتي السابق حول من الأوفى منهما للمتن المرجعي. فقد كانت الستالينيةّ تعيّر الصين الماويّة بغلبة الطابع الفلاحي عليها (أربعة أخماس السكان من الفلاحين)، وطبقة الفلاحين في التصور المادّي التاريخي طبقة محافظة تنظر إلى السماء، ولا سيما في السياق الأسيوي، وهي غير قادرة على تغيير علاقات الإنتاج الإقطاعيّة، وأقصى ما يمكنها فعله هو إعادة إنتاجها.
لئن مثّلت الثورة الثقافيّة الممتدّة في الصين ما بين 1966 و1969 توجّهًا إلى تغيير شامل في الإدارة والفنون وعلاقات الإنتاج والتعليم ومحاسبة جذريّة للقديم فإنّ هاجس الانحراف إلى الليبراليّة ظلّ ملازمًا
ولكن الذي يهمّنا من كلّ هو الهزّة التي أحدثتها التجربة في العالم الصينيّ الممتدّ، وأثر هذا العالم نفسه على القيادة الصينيّة بزعامة ماو ورغبتها في تحديث الصين مند اندلاع الثورة في 1949. ولئن مثّلت الثورة الثقافيّة الممتدّة ما بين 1966 و1969 توجّهًا إلى تغيير شامل في الإدارة والفنون وعلاقات الإنتاج والتعليم ومحاسبة جذريّة للقديم فإنّ هاجس الانحراف إلى الليبراليّة ظلّ ملازمًا.
تفاصيل لا حدّ لها في هذه التجربة المثيرة وعلاقتها بثقافة الشعوب الصينيّة، ذكرناها لتقريب الفكرة، غير أنّه يمكن الاكتفاء بالوقوف عند مفارقة تعلّقت بهذ التجربة من جهة مآلاتها وتتمثّل فيما قام من تعارض بين مقدماتها ونتائجها. فقد أفضت الروح البروليتاريّة التي سكنت الثورة وقياداتها إلى "تحوّل الصين إلى منبر تصنيعي لاقتصاد عالمي ليبرالي" (ريتشارد كيرت كراوس: الثورة الثقافيّة الصينيّة).
كانت لي فرصة لزيارة الصين في 2013 في إطار ندوة الأحزاب العربيّة (معظمها شيوعيّة)، وكانت هناك فرصة للّقاء بقيادات من الحزب الشيوعي الصيني، والصين يومها في أوج "حلمها" الذي أطلقه الرئيس "شي جين بينغ"، وكان عنوان الحلم "الاشتراكيّة على الطريقة الصينيّة". فسألت، في إحدى الندوات، أحد المحاضرين: هل الوجه الآخر لـ"الاشتراكيّة على الطريقة الصينيّة" هو "رأسماليّة على الطريقة الصينيّة". فاجأه السؤال مثلما فاجأتني الإجابة التي كانت بالإيجاب. وقد كنّا لاحظنا في مختلف الجلسات العلميّة وجود توجّهين، توجّه تمجيدي لسيرة الزعيم ماو وفكره وتوجّه نقدي لها لا يخلو من حدّة. فقد كان أحد الجامعيين صارمًا في تقييمه عندما سئل عن تراث ماو، فقال "للزعيم ماو إيجابيات وسلبيّات وسلبياته، في تقديري، غلبت إيجابيّاته" معتبرًا الثورة الثقافيّة أفدح أخطائه (عصابة الأربعة).
الثورة الثقافيّة والسياق التونسي
الثورة الثقافيّة ليست حدثًا يتم الإعلان عن تحقّقه أو الإخبار عن انطلاقه، وإنّما هي حالة شاملة من الصعب تحديد بدايتها يبلغها المجتمع عبر تحولات طويلة الأمد تمتدّ إلى منظومة التقاليد ونظام العلاقات الاجتماعيّة والفنون والأداب والمؤسسات وهويّة الانتظام السياسي. وغير هذا لا يعدو أن يكون قرارًا سياسيًا قد يكون إحدى المقدّمات المهمّة للثورة الثقافيّة. وهذا ما حاولنا تبيّنه من التجربة الصينيّة في ستينيّات القرن الماضي، ومتابعة ما تولّد عنها من تغيّرات جذريّة عرفها المجتمع الصيني المتعدّد ومن تحوّلات ثقافيّة في ظلّ الدولة وما كان من تحديث وتحولات اقتصاديّة جعلت من الصين قوّة عظمى في صدارة القوى المؤثّرة في حاضر المجتمع البشري وربّما في مستقبله.
في ما يخصّ "الثورة الثقافيّة" الواردة بـ"خطاب القسم" فإنّ تبيُّن مضمونها مرتبط بما عرفته البلاد مع الثورة، وإذا استعدنا مفهوم الثقافة بمعناه الواسع فإنّ ثورة الحريّة والكرامة، وإن كانت من منظور السياسة موصولة بأحداث مباشرة أفضت إلى الانتفاض الجذري للهامش، فإنّها من منظور الثقافة خلاصة لتحولات بعيدة في الفكر والثقافة والتجارب السياسيّة عرفتها الدولة كما عرفها المجتمع انطلاقًا من دولة البايات، وحركة الإصلاح، ودخول الاستعمار، وتجربة دولة الاستقلال على مدى ستّة عقود.
الثورة الثقافيّة ليست حدثًا يتم الإعلان عن تحقّقه أو الإخبار عن انطلاقه، وإنّما هي حالة شاملة من الصعب تحديد بدايتها يبلغها المجتمع عبر تحولات طويلة الأمد تمتدّ إلى منظومة التقاليد ونظام العلاقات الاجتماعيّة
ولتتوضّح الصورة أكثر نشير إلى اختلاف مهمّ بين نسق السياسة ونسق الثقاقة. فالأوّل سريع، وهو أقرب إلى إيقاع الحياة العادي ومادته الأحداث اليوميّة، في حين يتميّز إيقاع الثقافة بالبطء الشديد. فقد تتغيّر السياسة بتغيّر النظام السياسي وما يصاحبه من خطاب الثورة والتغيير الجذري ولكنّ الثقافة تبقى كما هي، وقد تحدث تحوّلات ثقافيّة مهمّة في ظل نظم الاستبداد التي تعمّر طويلًا فتزدهر الفنون وتظهر فيها أجناس ثوريّة ويكثر التأليف في شتّى العلوم ومختلف أصناف الفكر التحرّري. وهذا النهوض الثقافي يكون مقدّمة لاجتماع سياسي أكثر عدلًا وإنسانيّة.
اقرأ/ي أيضًا: تونس: المشهد السياسي في ضوء نتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية (تقدير موقف)
الثورة التي انطلقت من بلادنا "ثورة سياسيّة" بالمعنى العميق للسياسة، ونعني أنّها طرحت على بساط الدرس هويّة الانتظام السياسي وأثره في تحديد هويّة المجتمع الثقافيّة والسياسيّة والاقتصاديّة. وبأكثر دقّة، طرحت الثورة في تونس أزمة الدولة الحديثة. وكان كثير من فلاسفة أوروبّا ومن بينهم الفرنسي "ألان باديو"، تابعوا الثورة التونسيّة وامتداداتها في المجال العربي، وكانوا يبحثون في أطوارها وتقلّباتها عن أجوبة للأزمة المذكورة. واسترعى انتباههم الجموع التي خرجت دون أن تكون وراءها تنظيمات وأحزاب كما كان عليه الأمر في القرن الماضي. وشدّهم احتلالها للميادين حتّى جاز تسميتها بـ"ثورة الميادين" وفي ذلك تكثيف لصراعها مع الدولة على الفضاء العام بعد أن سيّجته بقوانينها وأسَرَتْه بمركزيّتها. وهذا ما حدا بـ"ألان باديو" بإطلاق تسمية "شيوعيّة الجموع" على الثورة التي عرفها المجال العربي انطلاقًا من تونس.
هي ثورة سياسيّة غايتها الإجابة على السؤال الأبدي: كيف للإنسان أن يعيش حرّا وفي جماعة في آن؟ وهذا يعني أنّ الإجابات القديمة ومنها نموذج الدولة بمفهومها الحديث والديمقراطيّة التمثيليّة لم تعد كافية. الثورة التي انطلقت من تونس غطّت كلّ المجال العربي وبلغ صداها إلى ضفّة المتوسّط الشماليّة، فكان لها أثرها على إسبانيا وإيطاليا وفرنسا، وعبرت الاطلسي إلى مركز المال والأعمال في "وول ستريت" في رمزيّة قويّة إلى نظام المال المعولم.
فالرسالة السياسيّة التي أطلقتها الثورة من تونس مزدوجة، فهي رسالة في مواجهة الاستبداد في المجال العربي تشهد بقدرة الجموع العزلاء على إسقاط أعتى الدكتاتوريات، وأنّ العربي الذي قيل عنه بأنّ له ثقافة في مقاومة الاستعمار ولكن لا ثقافة له في مقاومة الاستبداد بفعل الإرث الثقافي الموروث أثبت بإمكانه امتلاك الثقافتين.
وما تعرفه الثورة من تجدّد في الجزائر والسودان والعراق ولبنان تشهد بهذا المعنى، رغم ما كان من الثورة المضادّة. ففي العراق ولبنان المطيّفيْن تخترق انتفاضة الحشود "الطائفي" لتطالب بالمواطنة الكريمة وتؤسس لوطنيّة جديدة حتّى المقاومة عرفت فرزًا بين الوظيفي منها والعضوي، فكان تلازم المواطنة والمقاومة منوالًا جديدًا لتحرير الإنسان والأوطان.
وأما رسالتها الثانية فكانت إلى الغرب المهيمن، منبّهة إلى أنّ الديمقراطيّة التي ابتدع نشأت ومازالت مشروطة بالاستعمار، وأنّ الدولة الحديثة التي ظهرت في مجاله السياسي لم تتجاز كونها وسيطًا يحتكر المعنى والقوّة، وأنّها ليست سدرة منتهى يحطّ عندها التاريخ، وأنّ ابتداع أشكال أرقى منها أحفظ للكرامة وللمشاركة الواسعة ممكن، وأنّ ما تقترحه ديمقراطيّة مشروطة بالحريّة. وقد تكون مرحلة التخفيف من هذا الوسيط ذي الجذور الدينيّة العميقة خطوة نحو تجاوزه في مرحلة متقدّمة. وهذا الأفق يلتقي مع ما طرحه خطاب القيم من عناوين تكثّفت في "الشعب يريد"، وهو لا يريد غير فعل مباشر ينفع الناس بلا وسائط.
ما يعرفه العالم من تحولات لا يجعلنا نتردّد البتّة في أن ما انطلق من تونس هو ثورة الألفيّة الثالثة التي قد تستغرق وقتًا طويلًا حتّى يستقرّ نموذجها في الحريّة والعدل والانتظام الأفقي
هذه بعض عناوين "الثورة السياسيّة" غير المتحقّقة بعد، وأمّا الثورة الثقافيّة فهي الأفق الذي نتقدّم نحوه، ومن علامات بلوغها، في مستوى العالم، النجاح في العبور من "إدارة الصراع" إلى "إدارة التعارف"، ولا يعني هذا أن يتحوّل الناس إلى ملائكة وتصبح المجتمعات جنات، وإنّما المقصود القدرة على مراجعة العلاقات التي انبنى عليها "المجتمع الدولي" وهي علاقات ناتجة عن ميزان قوى أفرزته الحرب العالميّة الثانية وارتبطت به مؤسسات (الأمم المتحدة) علاقتها بالمواثيق الدوليّة وبثقافة حقوق الإنسان وبالعدل والكرامة ضعيفة.
تبدو هذه الأمال عريضة أمام ما نعيشه في بلادنا، على سبيل المثال، من تعثّر في تأسيس ديمقراطيّة تمثيليّة مستهلكة. ولكن ما يعرفه مجالنا، وما يعرفه العالم من تحولات لا يجعلنا نتردّد البتّة في أن ما انطلق من تونس هو ثورة الألفيّة الثالثة التي قد تستغرق وقتًا طويلًا حتّى يستقرّ نموذجها في الحريّة والعدل والانتظام الأفقي.
يقول جاك قودي في كتاب " العقل الخطاطي" (في سبعينيات القرن الماضي): "لعلّ تطوّر وسائل التواصل سيكون أهم وأخطر من تطوّر وسائل الإنتاج"، وهذا هو أحد الشروط التي نعيشها بالثورة التواصلية المتعاضمة في العالم والتي ستدمج المراحل وتجعل ما تحقق في قرن قد يتحقق في عشرية أو عشريّتين. فهكذا تكون الثورة الثقافية أفقًا نتقدم نحوه قد نبلغه به وقد نقصر دونه.
اقرأ/ي أيضًا:
قيس سعيّد رئيسًا: "هبّة الصّندوق" وأسئلة السّلطة الثلاثة.. سؤال الدّاخل (1)
قيس سعيد رئيسًا: "هبة الصندوق" وأسئلة السلطة الثلاثة.. سؤال الجوار المغاربي (2)