مقال رأي
على خلاف المحطات الانتخابية التي عرفتها تونس خلال السنوات الماضية، تأتي الانتخابات التشريعية ليوم 17 من ديسمبر/كانون الأول الجاري في ظروف سياسية مختلفة نزعت عنها زخم الدعاية والتواصل مع الجماهير وقللت من حضورها في حياة المواطن التونسي داخل الأحياء وفي الشوارع وفي الفضاء الإعلامي بمختلف محامله، غير أن الحملة الانتخابية الباهتة بسبب مقاطعة جزء مهم من المشهد السياسي، لا تعني أن هذه الانتخابات ستكون دون رهانات حقيقية بين الرئيس التونسي قيس سعيّد وبين معارضات تعتبرها لاغية لأنها جاءت على غير الصيغ الدستورية والقانونية.
على خلاف المحطات الانتخابية التي عرفتها تونس خلال السنوات الماضية، تأتي الانتخابات التشريعية ليوم 17 من ديسمبر في ظروف سياسية مختلفة نزعت عنها زخم الدعاية والتواصل مع الجماهير وقللت من حضورها في حياة المواطن
- استكمال البناء وهاجس الشعبية
تتعلق هذه الانتخابات بخارطة الطريق التي بدأها الرئيس قيس سعيّد بعد إعلانه إلغاء دستور سنة 2014 وإقرار ما أسماها "التدابير الاستثنائية" وفق الأمر 117 المؤرخ في 22 سبتمبر/أيلول 2021 والذي بموجبه أصبحت تونس تعيش في مرحلة يكون فيها الرئيس هو المؤسس والمشرع لسياق دستوري وسياسي جديد.
ويعتبر الرهان الأساسي لقيس سعيّد وهو يطوي صفحات المرحلة السابقة هو استكمال تشييد البناء السياسي الذي يرغب من خلاله في حكم الدولة التونسية في السنوات المقبلة، فالواضح أنه كان يضمر هذا التغيير عندما قرر الترشح للانتخابات الرئاسية لسنة 2019 وذلك بالعودة إلى التصريحات القليلة التي نقلت عن الرجل في بعض وسائل الإعلام حيث كان رافضًا للبناء الدستوري القائم وكان يتحدث عن تآكل الأجسام الوسيطة وعن ضرورة البحث عن نخبة سياسية جديدة تعوض القديمة التي شابها الفساد، وفق تقديره، وأصبحت لا تفكر إلا في مصالحها الضيقة بعيدًا عن هموم الشعب. وجزء من رهان سعيّد تحقق يوم مسك بزمام كل السلطات وأصبح الطريق معبدًا لتشييد "بنائه الجديد".
جزء من رهان سعيّد تحقق يوم مسك بزمام كل السلطات وأصبح الطريق معبدًا لتشييد "بنائه الجديد"
ورغم أن المراحل السابقة للانتخابات التشريعية الحالية هي محطات عرفت ارتباكًا يصل إلى الإخفاق في عدد منها إلا أن قيس سعيّد واصل في طريق التأسيس الخاص به، فالكل يعرف أن الاستشارة الإلكترونية التي بنى عليها الرئيس التونسي آمالاً كبيرة من أجل إسناد مشروعه بزخم شعبي كبير لم تتجاوز المشاركة فيها 600 ألف مواطن وهو ما اعتبر وقتها بمثابة فشل ذريع في أولى خطوات سعيّد في تأسيس جمهوريته الجديدة.
غير أنه تجاهل كل ما وجه من سهام نقد من قبل المجتمع السياسي المعارض ومضى لتغيير الدستور بدستور جديد استدعى له لجانًا، جزء منها لم يجتمع قط ولكن في النهاية حتى اللجنة التي اشتغلت بقيادة العميد الصادق بلعيد، قد تخلى عن أعمالها وأخرج قيس سعيّد دستوره وفق الرؤية التي تخدم مشروعه ومرره على الاستفتاء الذي مرة أخرى أثبت أن جزءً هامًا من الجسم الانتخابي التونسي لم يعبر عن موقفه من كل ما يحدث سواء كان ذلك في الاستشارة الوطنية أو في الاستفتاء وهو ما كان يعوّل عليه سعيّد كثيرًا حتى يغلق نهائيًا قوس المعارضة التي تصفه بالمنقلب.
تمثل الانتخابات التشريعية في 17 من ديسمبر ختام خارطة الطريق التي وضعها سعيّد وحتى وإن كانت نسبة المشاركة فيها ضعيفة أو غير منسجمة مع توقعاته فالتجربة أثبتت أنه لا يبالي بهذا الأمر كثيًرا
لذلك تمثل الانتخابات التشريعية في 17 من ديسمبر ختام خارطة الطريق التي وضعها سعيّد وحتى وإن كانت نسبة المشاركة فيها ضعيفة أو غير منسجمة مع توقعاته فالتجربة أثبتت أنه لا يبالي بهذا الأمر كثيًرا لتغيير أو تعديل مساره لكنه ضمنياً يراهن في هذه المحطة على مشاركة قوية من أنصاره لأنه يعتبر أن نسبة المشاركة هذه المرة ليست رسالة فقط للداخل التونسي بل هي بالأساس رسالة إلى الخارج وأن الانتخابات كانت ناجحة وفي مناخ ديمقراطي.
لذلك تواتر خروج قيس سعيّد إلى الشارع في الآونة الأخيرة وهو الذي لم يتنقل مثلاً في فاجعة جرجيس وغيرها، وهو ما يعتبر وكأنه يقود حملة انتخابية باعتبار أن الانتخابات في ذهنه هي انتخابات على شعبيته الشخصية التي تتحدث المعارضة عن تراجعها بسبب العجز عن توفير الحلول الاقتصادية والاجتماعية. في المقابل، فإن الرئيس الذي يترأس السلطة التنفيذية، سواء وفق الأمر 117 أو وفق دستور 2022، يعنيه كثيرًا أن تنجح الانتخابات التشريعية سواء تنظيميًا أو من خلال نسبة المشاركة للمساعدة في إعطاء الضوء الأخضر لصندوق النقد الدولي حتى يوافق على منح قرض للحكومة التونسية تدخل من خلاله في ما تُطلق عليه "إصلاحات اقتصادية" مع بداية السنة القادمة، رغم محاولته في أكثر من مناسبة وعند الحديث إلى رئيسة الحكومة الظهور بمظهر المعارض لهذه الإجراءات.
تواتر خروج قيس سعيّد إلى الشارع في الآونة الأخيرة وهو الذي لم يتنقل مثلاً في فاجعة جرجيس وغيرها، هو انخراط في الحملة الانتخابية باعتبار أن الانتخابات في ذهنه هي انتخابات على شعبيته الشخصية
- رهان المقاطعة... هل ينجح؟
بينما يوجه سعيّد في كل مناسبة يخرج فيها للحديث إما مع ضيوفه في قصر قرطاج أو من خلال لقائه بالمواطنين في الشارع، سهام النقد للمعارضة وفي ذلك محاولة للتذكير بخطر العودة الى الوراء، تتجه المعارضة التي بدأت تتجمع في أجسام سياسية مثل جبهة الخلاص الوطني والحزب الدستوري الحر بالإضافة إلى الأحزاب الاجتماعية الخمس، إلى مقاطعة الانتخابات مثلما حدث في محطة الاستفتاء على الدستور وإن لم ينجح رهان المقاطعة في المحطة السابقة فإن المعارضة تواصل في اعتماد نفس التمشي الذي لم يغير في مسار سعيّد شيئًا في الفترة السابقة.
ويبدو أن رهان المعارضة على قلب المعادلة انطلاقًا من تحدي سعيّد وتبيان الحجة عليه بضعف المشاركة وغياب الزخم الانتخابي لا يمكن أن يحدث في المدى القريب وبذلك هي مطالبة بأن يكون لها نفس طويل حتى لا تتلاشى بفعل فرض سياسة الأمر الواقع التي تعيش على وقعها البلاد.
رهان المعارضة هو قلب المعادلة انطلاقًا من تحدي سعيّد وتبيان الحجة عليه بضعف المشاركة وغياب الزخم الانتخابي لكن يجب أن يكون لها نفس طويل حتى لا تتلاشى بفعل فرض سياسة الأمر الواقع التي تعيش على وقعها البلاد
ويعتبر الرهان على المعطى السياسي، الأرضية التي يحبذ سعيّد أن ينازل فيها خصومه بينهما تعجز المعارضة التونسية عن جلب غريمها إلى حلبة المعركة الاقتصادية والاجتماعية رغم أن الظروف كانت مناسبة في الفترة الماضية لمحاولة خوض جولة من جولاتها مع فقدان عدد من المواد الأساسية في السوق وارتفاع نسبة التضخم إلى 9.8 بالمائة مع نهاية شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي والزيادة في أسعار المحروقات وتردي عديد الخدمات، ولأن المعركة تفترض كسب الجولات عندما تتاح الفرصة فإن المعارضة فوتت على نفسها فرصًا كانت واضحة لتسجيل أهداف.
- مسك الحجة
في المقابل، وعلى خلاف جبهة الخلاص الوطني والأحزاب الاجتماعية الخمس، تتخذ رئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي من محطات قيس سعيّد حجة قانونية عليه حيث بدأت في مسارات قضائية ضد كل الإجراءات التي تتخذها هيئة الانتخابات وكذلك الحكومة وتعتبر أن الانتخابات التشريعية باطلة قبل أن تجرى وهو سلاح لم تغيره موسي كثيرًا فقد رفعت قضايا سابقًا ضد رئيس مجلس نواب الشعب راشد الغنوشي وضد حركة النهضة فيما يعرف بملف "التسفير إلى بؤر التوتر".
بحكم تكوينها القانوني، تعتبر عبير موسي أن المنظومة الدستورية والقانونية التي وضعها سعيّد غير شرعية وإنما أتت لتعطل وصولها هي وحزبها إلى الحكم وهي التي كانت قريبة منه بعد تصدرها استطلاعات الرأي قبل 25 من جويلية/يوليو 2021، كما أن عبير موسي بقدر تعويلها على إثبات الاختلالات القانونية والدستورية على مشروع قيس سعيّد بقدر تمسكها بضرورة الذهاب إلى انتخابات رئاسية قد تعجل برحيل رئيس الجمهورية الحالي وفقها.
على خلاف جبهة الخلاص والأحزاب الاجتماعية، تتخذ عبير موسي من محطات قيس سعيّد حجة قانونية عليه وقد بدأت في مسارات قضائية ضد كل الإجراءات التي تتخذها هيئة الانتخابات
- ماذا بعد...؟
بما أن الحزب الدستوري الحر أو جبهة الخلاص أو الأحزاب الاجتماعية وغيرها من شتات المعارضة يقاطع الانتخابات التشريعية فإن النتيجة ستكون تغييرًا شبه كلي في المشهد النيابي القادم وقد نرى جبهات سياسية تحت قبة البرلمان ستمثل إسناداً لمشروع قيس سعيّد وظهر ذلك من خلال بداية تشكل كتلة برلمانية تشارك مجتمعة في الانتخابات وتعبر في مواقفها عن "المرجعية السعيدية".
قد نرى في ما بعد الانتخابات بداية ملامح المشهد السياسي الجديد والذي قد يخوض جزء منه حربًا بالوكالة عن الرئيس ضد خصومه
وبالتالي قد نرى في ما بعد الانتخابات بداية ملامح المشهد السياسي الجديد الذي يحاول دفن القديم وهنا قد يخوض جزء من هذا المشهد حربًا بالوكالة عن الرئيس ضد خصومه، مع إمكانية ضمان غرفة ثانية تكون بمثابة مجلس المستشارين في نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي ومن ثمة يجري وفق برنامج سعيّد القضاء على المشهد الحزبي التقليدي باستعمال طريقة الموت الرحيم وهو ما صرح به في حوار صحفي قبل الانتخابات الرئاسية لسنة 2019 عندما سئل عن المشهد الحزبي واعتبر أن زمن الأحزاب قد ولى، لذلك فهو لا يعتمد طريقة الإجراءات الصادمة التي كان يمكن أن تذهب إلى حل بعض الأحزاب إنما إلى الإجهاز عليها باعتماد عاملي الوقت والمنعرجات السياسية. لكن هل ستقبل الأحزاب وخاصة المعارضة منها بهذا المصير؟
الواضح أن هذه الأحزاب لا تزال تتعامل مع قيادة قيس سعيّد لهذا المسار بمنطق ردة الفعل أي أنها لم تأخذ بزمام المبادرة منذ أن أعلن سعيّد عن إجراءاته الاستثنائية فبعد مرحلة البهتة المعممة لمدة أشهر ظلت قياداتها تواجه الواقع الجديد بأسلوب محللي البرامج السياسية دون قدرة لا على المناورة ولا على الصدام لاختلال موازين القوى وربما هي الآن تقف بين منزلتين، منزلة الإنكار لواقع يتغير في كل لحظة وليس في صالحها على كل حال، ومنزلة العصفور الذي يرفض معيشة القفص وبابه مفتوح ويرفض المغادرة لأن قطًا ينتظره في خارجه، وهي مرحلة تسبق العجز وتتعامل مع الحياة السياسية كحدث يومي نعلق عليه ولا يمكننا تغييره.
يبدو أن الانتخابات القادمة على قدر أهميتها لضمان جرعة إضافية لنظام سعيّد إلا أنها قد تكون بمثابة نهاية مرحلة بالنسبة إلى جزء مهم من المعارضة التقليدية
وبين كل هذا يبدو أن الانتخابات القادمة على قدر أهميتها لضمان جرعة إضافية لنظام الرئيس قيس سعيّد على المواصلة إلا أنها قد تكون بمثابة نهاية مرحلة بالنسبة إلى جزء مهم من المعارضة التقليدية، قد تترك مكانها لمعارضة اجتماعية ومدنية.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"