17-سبتمبر-2024
istockphoto اكتئاب

"يفصل الأطباء النفسيون بين ما يعرف بـ"البيبي بلوز" و"اكتئاب ما بعد الولادة

 

بالتأكيد أن عنوان التقرير كشف أننا سنخوض في موضوع "اكتئاب ما بعد الولادة"، فإذا كنت امرأة، هناك احتمال أنك مررت بهذه التجربة وستقرئين جزءًا من قصتك بين الأسطر القادمة، أما إذا كنت رجلاً فهذا المقال لك.

قد لا يبدو مصطلح "البيبي بلوز" ومصطلح "اكتئاب ما بعد الولادة"، غريبين بعد كل ما كتب وقيل في هذا الشأن، ولكن كم عدد الأشخاص الذين خبروا كيفية التعامل مع من يمر بهذه المرحلة أو الأسباب التي تعمّق من حدتها؟

في هذا التقرير شهادات لأمهات عشن فترات صعبة بعد الولادة كانت عصية على النسيان، وتحدثن عنها بحرقة لـ"الترا تونس"، كما كان لنا تواصل مع أخصائيين نفسيين في تونس، للإنارة العلمية بشأن هذه الحالة.

بعض الأمهات اللواتي عشن فترات نفسية صعبة بعد الولادة قدّمن شهادات لـ"الترا تونس" وتحدثن خلالها عن المعاناة النفسية التي مررن بها 

تقول "جيهان" التي بلغت عقدها الثالث من العمر لـ"الترا تونس": "كل ما كُنت أشعر به أنني مستاءة من الجميع ومن نفسي أولاً، أليس من المفترض أن تكون هذه لحظات سعادة قصوى؟ كانت المشاعر السلبية تُسيطر عليّ، دائمة البكاء وعديمة الحركة وكثيرة التفكير في كل شيء وفي لا شيء، أهيم بالنظر لطفلي ساعات كثيرة وأشعر بذنب كبير تجاهه، أما زوجي فلم يكن يكف عن الصراخ والتذمّر".

"حتى أن كثرة الانتقادات من حولي لكل ما يصدر عني من أقوال أو أفعال تجاه طفلي الأول، وجبل النصائح الذي يداهمني من كل حدب وصوب، كانت كفيلة لتعشيش شعور ثقيل بالذنب داخلي، لم أكن أعبّر عن استيائي وحزني الشديدين، ويوم انتفضت لأعبر عن حزني أو غضبي -حقيقة لم أكن أدرك حقيقة ما أشعر به ولكنني قررت أن أتحدث فقط-، قيل لي إنني أضخم الأمور وأتخيل أشياء لا تحدث -رغم أن حديثي كان عن مشاعر تتملكني-، وقيل لي إنني قوية وليس من المفترض أن أمر بمشاعر مماثلة، أفيقي فهذه لحظات الفرح!".

 

اكتئاب

 

قد يبدو ما تحدثت عنه جيهان لـ "الترا تونس"، من حالة نفسية مرت بها بعد أول ولادة وتجربتها الحديثة في عالم الأمومة، غريبًا للوهلة الأولى، ولكنها حقيقة سردت أعراض اكتئاب ما بعد الولادة، الذي تم تشخيصه لديها في مراحل متقدمة.

ففي حديثنا مع الأخصائي النفساني صدقي الشيخ والباحث في علم النفس العصبي للطفل في جامعة "باريس أنجيه"، أكد لـ"الترا تونس" أن "الأم التي تتملكها مشاعر حزن طيلة أكثر من أسبوعين بعد الولادة، تكون مصحوبة بالخمول والرغبة الضعيفة في الحركة والنشاط، وصعوبات في النوم ونقص في الشهية أو انعدامها بصفة تامة، مع رغبة في الانسحاب من المجموعة والعزلة والانطواء، إضافة إلى الإحساس بالذنب والبكاء الشديد والمتكرر، كلها أعراض تؤشر إلى إصابتها باكتئاب ما بعد الولادة، وقد تصل هذه الأعراض حدّ تواتر الأفكار الانتحارية وتعريض نفسها وطفلها للخطر".

هنا قد يكون الحديث عن أعراض انتحارية صادمًا لدى البعض، خاصة وأن المخيال الشعبي يصوّر تجربة الأمومة، على أنها مفعمة بسعادة وحنان رباني، يُبعث في المرأة بعثًا، إلاّ أن الحقائق قد تكون مختلفة.

أخصائي نفساني لـ"الترا تونس": أعراض اكتئاب ما بعد الولادة لدى الأم قد تصل حدّ تواتر الأفكار الانتحارية وتعريض نفسها وطفلها للخطر

"فرح" (أم لطفلتين/ذات 38 سنة)، مرت بهذه التجربة وتحدثت عنها لـ"الترا تونس"، فقالت: "كانت الأفكار السوداوية تداهمني وكنت أفكر في طريقة أتخلّص بها من حياتي وأضع بها حدًا للشعور بالذنب خاصة وأن طفلتي الثانية ولدت ولادة مبكرة وكانت تعاني من مشاكل صحية عديدة استوجبت إقامتها في المستشفى لفترة ليست بقليلة".

وتابعت فرح: "مررت باكتئاب ما بعد الولادة بعد ولادة ابنتي الأولى، وكانت تجربة قاسية جدًا، خضعت خلالها للعلاج النفسي والطبي، وتمكنت من تجاوزها وعاهدت نفسي على أن أكون أكثر صمودًا بعد ولادة طفلتي الثانية، ولكن فور إعلامي بأنها تحتاج إلى الإقامة في المستشفى وتعاني مشاكل في الغدد وفي القلب، دخلت دوامة الشعور بالذنب تجاهها وأحسست بالندم لأنني أنجبتها".

 

اكتئاب

 

يعيدنا حديث فرح، إلى ما صرّح لنا به الأخصائي النفسي، أنس العويني بشأن أهمية التاريخ العائلي والشخصي للصحة النفسية للمرأة، إذ أكد أن "التجارب الصعبة أثناء الولادة والمرور بحالة اكتئاب أو بحالة اكتئاب ما بعد ولادة سابقة فضلاً عن وجود مشاكل صحية تمر بها الأم أو الرضيع والتغيرات الهرمونية الكبيرة وسقف التوقعات العالي الذي يُبنى منذ البداية يضع الأم أمام مسؤولية جبّارة، قد لا تكون قادرة على مجاراتها ما يتسبّب في أن تصبح عرضة أكثر من غيرها من الأمهات للإصابة بهذه الحالة المرضية، التي تستوجب العلاج".

وشدد الأخصائي النفسي أنس العويني في حديثه مع "الترا تونس"، على الأهمية القصوى التي يجب إيلاؤها للجانب النفسي للأم خلال فترة ما بعد الولادة، معتبرًا أن "كثرة الانتقادات لتصرفاتها وشكلها يمكن أن يؤدي إلى زيادة شعورها بالضغط وتدني ثقتها بنفسها، وهو ما يدفعها إلى العزلة ويتسبب في إضعاف فرص حصولها على الدعم الاجتماعي والعاطفي الذي تحتاجه خلال تلك الفترة".

أخصائي نفسي  لـ"الترا تونس": التجارب الصعبة أثناء الولادة والمرور بحالة اكتئاب سابقة وسقف التوقعات العالي يضع الأم أمام مسؤولية جبّارة، قد لا تكون قادرة على مجاراتها

كما لفت إلى أن "تسليط الضوء على الفشل بصفة مستمرة يجعل المرأة أكثر خوفًا من المسؤولية، وأكثر شعورًا بالإحباط والحزن، ما قد يعمق معاناتها النفسية، خلال فترة هشاشة تمر بها، وقد يتسبب في ظهور مشاكل زوجية أو مشاكل عائلية على نطاق أوسع".

يتردّد على أسماعنا دائمًا، من مدربي التنمية البشرية أن "السعادة معدية وأحط نفسك بالأشخاص الإيجابيين"، ومع الأسف الشديد "الاكتئاب أيضًا هو حالة مرضية معدية"، وفق ما أكده الأخصائي النفسي أنس العويني، والذي شدد على أن "الأمراض النفسية عمومًا تؤثّر على كل المحيطين بالشخص المعني، ما قد يخلّف حالة خوف وصدمة ويُحدث اضطرابًا داخل العائلة".

 

اكتئاب

 

وهذا ما سردته علينا "أمينة" (ذات 42 سنة/أم لطفلين)، والتي قالت في تصريحها لـ"الترا تونس" إن "المشاحنات العائلية التي عاشتها بعد ولادة طفلها الأول كادت أن تتسبب في انفصالها عن زوجها، كانت نوبات الصراخ والبكاء حالة يومية أمر بها، فزادت خلافاتي مع زوجي ثم مع عديد أفراد العائلة، بسبب كلمات صدرت مني أو تصرفات لم ترق لهم، دون أن يدركوا أو أدرك أنا نفسي أنني أمر بحالة اكتئاب".

وتضيف محدثتنا: "بعد كل الظروف الصعبة التي مررت بها منذ أكثر من 10 سنوات، أدرك اليوم جيدًا أنني تخلصت من الآثار النفسية السلبية التي خلفتها حالة اكتئاب ما بعد الولادة، والفضل كله لمقالة قرأتها بعد أن استمعت لطبيبة مختصة تذكر هذا المصطلح في إحدى القنوات التلفزية، بعد مرور بضع سنوات على ولادتي، كنت أقرأ عن الأعراض والأسباب وأنهمر في البكاء، وكأنني أتذكر ما حصل منذ يومين وكأن السنوات لم تمر، حملت هاتفي في تلك اللحظة واتصلت بأخصائي نفساني وجدت رقمه على الأنترنت، وبعد متابعتي أكد لي أن ما مررت به هو بالتأكيد اكتئاب ما بعد الولادة، وواصلت المتابعة النفسية للتخلص من آثار ما مررت به". 

أخصائي نفساني لـ"الترا تونس": كل تجربة نفسية هي شخصية وبالتالي تختلف مدة اكتئاب ما بعد الولادة من شخص إلى آخر

ورغم أن دراسة بريطانية أكدت أن اكتئاب ما بعد الولادة يمكن أن يستمر طيلة سنوات، إلا أن الأخصائي النفساني صدقي الشيخ، لفت في حديثه مع "الترا تونس" إلى أن "كل تجربة نفسية هي شخصية وبالتالي تختلف مدة اكتئاب ما بعد الولادة من شخص إلى آخر"، وأكد في ذات الصدد "الأثر الكبير الذي تخلّفه هذه الحالة النفسية التي تمر بها الأم على طفلها، ليعيش بعض الرضع حالة تسمى بـ"اكتئاب الرضيع" فيفقد رغبته في الأكل مما يؤثر على صحته الجسدية والنفسية أيضًا".

وشدد على "أهمية العلاج والتفطن إلى المعاناة النفسية والحديث عنها، خاصة وأن كل مشاكل الصحة النفسية في تونس وفي الوطن العربي عمومًا تعد من المواضيع المسكوت عنها والمحظورة تقريبًا، نظرًا لارتباطها بالوصم الاجتماعي، إذ أن معظم المجتمعات العربية تنظر للمشاكل النفسية على أنها عار، يستوجب السكوت عنه وإنكاره".

 

اكتئاب

 

وقال إن "دور العائلة محوري ورئيسي في خروج المرأة من حالة الاكتئاب أو تعميقها، وخاصة دور الزوج، المسؤول الأول على رعاية الأم التي تكون في حالة مرضية"، وفقه، وأوضح أن "العلاج المتوفر ينقسم إلى علاج سلوكي معرفي يركز على تدريب الأم على مجاراة عواطفها والتحكم فيها، وكذلك التربية النفسية التي تشمل توعية المرأة بحقيقة مشاعرها وكيف يمكن أن تتطور مستقبلاً وكيف يمكنها أن تتعامل معها، لأنها في الحقيقة غير قادرة على تفسير ما تمر به، وينصح أيضًا بالعلاج النفسي الاجتماعي الذي يشمل المحيط العائلي للأم المصابة باكتئاب ما بعد الولادة، نظرًا للدور المهم الذي يلعبه المحيطون بها في رحلة العلاج".

أخصائي نفساني لـ"الترا تونس": كل مشاكل الصحة النفسية في تونس وفي الوطن العربي عمومًا تعد من المواضيع المسكوت عنها والمحظورة تقريبًا نظرًا لارتباطها بالوصم الاجتماعي

وفيما يتعلق بوصف الأدوية، لفت الأخصائي النفسي أنس العويني، إلى "أنه يمكن وصف بعض الأدوية ومحسنات المزاج، إذا كانت الحالة الصحية للأم تستوجب ذلك، وهو ما يقدّره الطبيب المتابع لحالتها الصحية، دون غيره".

وفي الجانب الوقائي، أكد الأخصائي النفساني، صدقي الشيخ، أن "الجانب التثقيفي التوعوي، مهم جدًا، في تجاوز اكتئاب ما بعد الولادة، الذي تعاني منه عدد من الأمهات، رغم عدم توفر إحصائيات دقيقة في تونس".

وتحدث عن "أهمية وعي المرأة بالأعراض والتدرب على مجاراتها وتثقيف المحيطين بها أيضًا، لتمر من طور الضحية إلى طور العلاج".

 

اكتئاب

 

وهذا ما أجمع عليه أيضًا الأخصائي النفسي أنس العويني، بقوله إن "التثقيف وفهم التغيرات النفسية والعاطفية يمكن أن يهيئ المرأة على مواجهة كل ما تعيشه من صعوبات نفسية بعد الولادة فضلاً عن التواصل الإيجابي والدعم الذي تتلقاه من المحيط العائلي، وخفض سقف التوقعات وخاصة الاستشارة المبكرة للمختص والطبيب النفسي"، حسب تعبيره.

ويفصل أطباء الأمراض النفسية بين الاكتئاب النفاسي أو ما يعرف بـ"البيبي بلوز" واكتئاب ما بعد الولادة، إذ تقول الدكتورة في الأمراض النفسية والعصبية أميرة تجموت وفق ما ورد في المجلة الطبية لموقع "ماد. تي أن"، إن "الحالة الأولى فيزيولوجية وغير مرضية تصيب نسبة كبيرة من الأمهات وتبدأ منذ اليوم الأول للولادة وتستمر أسبوعين على أقصى تقدير ثم تختفي عادةً دون الحاجة إلى تدخل علاجي، فيما يعد اكتئاب ما بعد الولادة حالة مرضية تمس من 12% إلى 16% من الأمهات وتبدأ منذ الولادة وقد تستمر إلى سنة كاملة ويكون أوجها بين الشهرين الثالث والسادس".

يفصل أطباء الأمراض النفسية بين الاكتئاب النفاسي أو ما يعرف بـ"البيبي بلوز" واكتئاب ما بعد الولادة الذي يعدّ حالة مرضية تمس من 12% إلى 16% من الأمهات تقريبًا

ويذكر أن دراسات علمية حديثة، أشارت إلى أن بعض الآباء يصابون أيضًا باكتئاب ما بعد الولادة، وإن كان بنسب ضعيفة، إلا أنهم يحضون بفرص أقل للتمتع بالمتابعة الطبية نظرًا لأن الأمهات هن اللاتي يتلقين المتابعة الطبية للكشف عن إصابتهن باكتئاب ما بعد الولادة في هذه الدول.

أما في تونس وفي البلدان العربية عمومًا، حيث الصمت المطبق فيما يتعلق بالصحة النفسية، فإن المسألة أكثر تعقيدًا، إذ تواجه العائلة مصيرها دون توجيه ومتابعة طبية في معظم الأحيان سواء بسبب الخوف من الوصم أو لغياب الوعي والإدراك بهذه الحالة ومدى خطورة نتائجها في حال تركها للمجهول.

 

واتساب