28-أغسطس-2024
النسيج اليدوي في تونس.. هُويّة وحرفة تشغّل العشرات

مريم بريبري إحدى أبرز الحرفيات التي خيّرت الحفاظ على النسيج التقليدي المعبّر عن الهوية التونسية

 

يأبى فن النسيج التقليدي والرسم على الصوف والقماش والحايك الاندثار من عدّة جهات اشتهرت منذ عشرات السنوات بتلك الحرفة، التي أتقن فنّها وتفاصيلها العديد من النسوة كما الرجال. 

ولا يقل وصف هؤلاء الحرفيين والحرفيات عن وصف أي فنان أتقن بفرشاته إطلاق العنان لرسوماته على محامل مختلفة. فهؤلاء أبدعوا من جهتهم في الرسم على النسيج بجميع أنواعه يدويًا، وحافظوا على تلك الحرفة بالرغم من ظهور النسيج الاصطناعي.

حرفيون وحرفيات أبدعوا في الرسم على النسيج بجميع أنواعه يدويًا، وحافظوا على تلك الحرفة من الاندثار بالرغم من ظهور النسيج الاصطناعي

في تكرونة، تلك القرية البربرية الشامخة في هضبة بمنطقة النفيضة، ماتزال بعض النسوة هناك يحافظن على النسيج اليدوي بواسطة "السداية" التي تنتشر في عدّة مناطق ريفية وحتى حضرية، طالما أنّها كانت الوسيلة الأولى والوحيدة لنسج المفارش والأغطية في تونس خلال الستينات والسبعينات وحتى إلى بداية الثمانينات. لكن ما تزال تلك الحرفة حكرًا على كبار السن إذ لم تعد تجد إقبالًا للتعلم عليها، بعد انتشار الصناعات الحديثة.

 

النسيج اليدوي في تونس.. هُويّة وحرفة تشغّل العشرات
يأبى فن النسيج التقليدي والرسم على الصوف والقماش والحايك الاندثار من عدّة جهات اشتهرت منذ عشرات السنوات بتلك الحرفة (مريم الناصري/الترا تونس)

 

تقول فاطمة (67 سنة) لـ"الترا تونس"، إنّها تنسج على "السداية" المفارش والأغطية من الصوف منذ أكثر من ثلاثين سنة. ولا تزال تجد إقبالًا كبيرًا على منسوجاتها التي تحمل رسومًا وأشكالًا تقليدية قديمة تعبّر عن الهوية التونسي".

فاطمة (67 سنة) لـ"الترا تونس": أنسج المفارش والأغطية من الصوف على "السداية" منذ أكثر من 30 سنة. ولا أزال أجد إقبالًا كبيرًا على منسوجاتي التي تحمل رسومًا وأشكالًا تقليدية قديمة

تدلي حبالها وخيوطها الرقيقة على تلك القطع الخشبية، لتطلق العنان لإبداعاتها في الرسوم التي تكون راسخة في ذهنها لتنسج لوحات فنية بخيوط من الصوف ملونة ومصبوغة أغلبها أيضًا بطرق تقليدية.

 

النسيج اليدوي في تونس.. هُويّة وحرفة تشغّل العشرات
أمجد الساحلي (حرفي نسيج) لـ"الترا تونس": أبدأ في النسج على النول مباشرة دون أن تكون لي رسمة أمامي، فكل شيء طبع في الذهن (مريم الناصري/الترا تونس)

 

تقول إنّها "لم تعد تستطيع الحصول على الخيوط المصبوغة يدويًا وبطرق تقليدية، بسبب اندثار تلك الحرفة. ولكنها باتت تعتمد بالأساس على كل ما يباع في الأسواق من عدّة أنواع من الخيوط المستوردة". مضيفة أنّ ذلك لا يشكّل فرقًا كبيرًا في نسيج مفروشاتها، طالما أنّها تصنعها بالطريقة نفسها التي تعلمتها عن جدّاتها، وطالما أنّ الرسوم في تلك المنسوجات تعبّر بالأساس عن الهوية التونسية، التي تميّز تقريبًا كل الجهات، مع بعض الاختلافات البسيطة بين سكان الشمال والجنوب، لا سيما من خلال بعض الألوان المعتمدة، وبعض الرسوم".

حرفية (67 سنة) لـ"الترا تونس": لم أعد أستطيع الحصول على الخيوط المصبوغة يدويًا وبطرق تقليدية، بسبب اندثار تلك الحرفة، فأصبحت أعتمد بالأساس على كل ما يباع في الأسواق من خيوط مستوردة

قد تستغرق فاطمة في القطعة الواحدة أيامًا قليلة أو حتى بضعة أشهر، حسب حجم القطعة. وتبيع أغلب ما تنسجه إلى تجار بيع المفارش، أو إلى بعض أصحاب المقاهي والنزل ممن يخصصّون أماكن لحرفائهم تكون مزوقة بطابع تقليدي.

لم تظل تلك الحرفة حكرًا على النساء البارعات في النسيج على "السداية" فقط. فقد حافظ العديد من الحرفيين على حرفة النسيج على "النول" خصوصًا في المناطق الساحلية، على غرار ولاية المنستير وصفاقس وسوسة خصوصًا في المدن العتيقة. لا سيما وأنّ العديد من المواطنين يقبلون على المنسوجات التي تصنع يدويًا بطرق تقليدية. وحتى بعض الحرفيات والخياطات ممّن يحكن ملابس تقليدية، يفضلن الاعتماد على ما ينسج يدويًا لأنّه الأقرب للطابع التقليدي، ولأنه يعتمد على خامات طبيعية من الصوف والقطن والحرير. كما أنّها منقوشة برسوم ورموز وأشكال تجريدية مستوحاة من الحليّ التونسي والموروثات الشعبية.

أمجد الساحلي (حرفي نسيج) لـ"الترا تونس": مازال العديد من التجار يفضلون التجارة في البضائع المصنوعة يدويًا وبطرق تقليدية لأنها ما تزال تلقى رواجًا كبيرًا حتى في السوق الخارجية

يبحث أغلب أولئك الحرفيين عن الخيوط الصوفية والحريرية ذات الجودة، في بعض الأسواق القديمة خصوصًا، لصنع منسوجات مختلفة كالسجاد والبرنس والمفارش وغيرها، وتلقى بضاعتهم رواجًا كبيرًا رغم انتشار السلع المهرّبة أو تلك التي تصنع في بعض المصانع.

يقول أمجد الساحلي أحد حرفيي النسيج، إنّه يعمل على "النول" منذ أكثر من ثلاثين سنة. وما يقوم به من أعمال يدوية ليس مرتبطًا بزمان أو مكان، بل ينسج ما تعود على نسجه منذ سنوات بطرق تقليدية. فبمجرد أن يستقر على رسمة محددة مستمدة مما تعودّه، يبدأ في نسجها على النول مباشرة. دون أن تكون له رسمة أمامه، فكل شيء طبع في الذهن، وفق قوله. مضيفًا: "مازال العديد من التجار يفضلون التجارة في البضائع المصنوعة يدويًا وبطرق تقليدية. لأنها ما تزال تلقى رواجًا كبيرًا حتى في السوق الخارجية".

 

النسيج اليدوي في تونس.. هُويّة وحرفة تشغّل العشرات
 يسعى عديد الحرفيين إلى المحافظة على بعض تفاصيل الطرق التقليدية لإنتاج منسوجات تعبر عن الطابع التونسي (مريم الناصري/الترا تونس)

 

وعلى الرغم من أنّ الهلاليين كانوا في الماضي يصبغون الصوف تقليديًا من خلال النباتات على غرار قشور الرمّان ونبتة القرّيصة ودباغ الشّجر وغيرها، فإنّ الخيوط اليوم باتت تُصبغ بطرق عصرية ولكن الحرفيين لا يزالون يحافظون على نسجها بنفس الطريقة التقليدية التي تميز منسوجاتنا التي تباع في كامل المدن والقرى. وتبقى تلك القديمة التي نسجت منذ عشرات السنوات تباع بأسعار باهظة نظرًا لطبيعة المادة التي صنعت منها، ولكونها تعتبر قطعًا فريدة لم تعد تحاك أو تنسج بنفس الكيفية.

ويسعى عديد الحرفيين إلى المحافظة على بعض تفاصيل الطرق التقليدية لإنتاج منسوجات تعبر عن الطابع التونسي.

مريم بريبري  (حرفية نسيج) لـ"الترا تونس": أؤمن بضرورة الحفاظ على النسيج التقليدي المعبّر عن هويتنا التونسية التي لا يجب أن تندثر بسبب انتشار الملابس العصرية

مريم بريبري إحدى أبرز الحرفيات التي خيّرت الحفاظ على اللباس التقليدي ومحاولة الاعتماد بالأساس على بعض الأقمشة أو المنسوجات المصنوعة يدويًا. خصوصًا ذات الطابع البربري الذي يعبّر عن الهوية التونسية بالأساس.

تقول مريم إنّها "تتعامل مع عدّة حرفيات في الحياكة ممكن يتقنّن عدّة مهارات في الخياطة والتطريز يدويًا وبطرق تقليدية لرسم تلك الرسوم التي ألفناها في لباس جداتنا". مضيفة أنّها تؤمن بضرورة الحفاظ على النسيج التقليدي الذي يعبّر عن هويتنا التي لا يجب أن تندثر بسبب انتشار الملابس العصرية. كما لا يجب أن تكون تلك الملابس حكرًا على المناسبات والأعراس، لا سيما وقد استطاعات إنتاج ملابس تعبر عن الهويتة التونسية وفي الوقت نفسه تُلبس يوميًا ولا تمثل عائقًا خلال العمل سواء للنسوة أو الرجال"، وفقها.