منذ التحوير الوزاري، تعرف تونس أزمة سياسيّة غير مسبوقة تتّجه إلى أن تتحوّل إلى شلل كامل يضرب مؤسسات الدولة الأولى ويعطّل الحياة ويهدّد السلم الأهلي. وكان يمكن للتحوير الوزاري أن يمرّ مثلما مرّ غيره، سيّما وأنّ الدستور يسكت عن موضوع التحوير من جهة وجوب أداء اليمين. وقد ملأت منطقة الفراغ الدستوري والقانوني باجتهادات صارت أقرب إلى التقليد المرجعي.
ولكنّ تغيّرات صاحبت انتخابات 2019، وفي مقدّمتها صعود قيس سعيّد إلى رئاسة الجمهورية، خلقت مناخًا سياسيًّا جديدًا غلبت عليه السجالات الشكلانيّة في موضوع الصلاحيات، في ظاهر الأمر. وهي سجالات في طبيعة النظام السياسي ونصّه المؤسس (الدستور) وتجربة الانتقال إلى الديمقراطيّة، في حقيقة الأمر.
تغيّرات صاحبت انتخابات 2019، وفي مقدّمتها صعود قيس سعيّد إلى رئاسة الجمهورية، خلقت مناخًا سياسيًّا جديدًا غلبت عليه السجالات الشكلانيّة في موضوع الصلاحيات
- تجاذبات حادّة
يبدو التحوير الوزاري سبباً مباشراً في الأزمة الحاليّة. وهي أزمة مختلف في تحديد أطرافها. فهناك من يرى فيها صورةً من تجاذب الصلاحيات بين رأسي السلطة التنفيذيّة. وهناك من يرى حقيقتَها في صراع بين رئيس مجلس نواب الشعب ورئيس الجمهوريّة. بل هو عند بعضهم صراعٌ بين راشد الغنوشي وقيس سعيّد. وهناك من يذهب بالأزمة إلى المنظومة السياسيّة التي أفرزتها تجربة التأسيس المبتورة. وكأنّ ما حدث ثورةٌ جذرية أتيح فيها لمن تمّ تفويضه باسمها بأن ينزّل فكرته كاملةً وبيسر.
وهذا التجاذب، في حقيقته، قديم عرفته التجربة السياسيّة بعد 2011 مع المجلس الوطني التأسيسي و"الدستور الصغير" وما ضبطه من صلاحيات للرئاسات الثلاث: رئاسة المجلس، رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهوريّة. وقد عرفت العلاقة بين السلطتين التنفيذيّة توتّرًا لكنّه لم يصبح شأنًا إعلاميّاً تتداوله وسائل الإعلام المختلفة وتنصب له البلاتوهات، وبقي أمرًا في أعلى مؤسسات الدولة قد ترشح من حين لآخر بعضٌ من أخباره.
عاد هذا التجاذب مع الرئيس الباجي قايد السبسي، بعودة القديم إلى السلطة في 2014، وكان الانقلاب على النظام شبه البرلماني ليُحوّل إلى نظام رئاسوي مع حكومة الحبيب الصيد. ومع يوسف الشاهد كان التوتّر الذي أفضى، بعد أزمة غير هيّنة في صلب الدولة وفي أعلى مؤسساتها، إلى استعادة النظام شبه البرلماني. وهذا ما وقع للرئيس قيس سعيّد مع المشيشي.
اقرأ/ي أيضًا: كيف تحوّلت "حكومة الرئيس" إلى حكومة تدعمها النهضة وقلب تونس؟
فالمشيشي الذي اختاره قيس سعيّد رئيسًا للحكومة من خارج الأحزاب بسبب مناهضته المبدئيّة للمنظومة الحزبيّة التي تؤسس الديمقراطيّة، اختلف مع الرئيس قبل توجّه الحكومة المشكّلة إلى البرلمان لنيل الثقة. وما نتج عنه من تغيير جذريّ في الموقف من الحكومة. فمن كانوا إلى جانب قيس سعيّد و"حكومة الرئيس" من الكتلة الديمقراطيّة (الشعب والتيار) ويتهيّؤون لمنح الحكومة الجديدة الثقة صاروا من مناهضيها وداعين إلى حجب الثقة عنها.
في حين غيّر من كانوا معارضين لتدخّل رئيس الجمهوريّة في تشكيل الحكومة ورأوا فيه خرقًا فاضحًا لصريح الدستور ولم يكونوا راضين عن الحكومة وتركيبتها، موقفهم الأوّل وصاروا متحمّسين لمنحها الثقة. وفي أيام قليلة انقلبت الصورة رأسًا على عقب. وصرنا إلى حكومة مستقلّة بحزام حزبي أساسه النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة، بعد أن كانت أقرب إلى "حكومة قيس سعيّد".
كان للتحوير الوزاري كلّ هذا التأثير بسبب ما صحبه من نتائج سياسيّة أهمّها نهاية "حكومة الرئيس"، وتصحيح النظام السياسي، واتساع حزام الحكومة البرلماني وما حفّ به من معاني الاستقرار
- انحدار ملموس
كان للتحوير الوزاري كلّ هذا التأثير بسبب ما صحبه من نتائج سياسيّة أهمّها نهاية "حكومة الرئيس"، وتصحيح النظام السياسي، واتساع حزام الحكومة البرلماني وما حفّ به من معاني الاستقرار. لذلك كانت ردّة "أنصار حكومة الرئيس" وفي مقدّمتهم الرئيس نفسه عنيفة تعمّدت إرباك المؤسسات الأولى في الدولة وعطّلت سيرها العادي.
كان يمكن أن يمرّ التحوير الوزاري مثل ما سبق من تحويرات وعلى ضوء الاجتهاد الإجرائي نفسه، غير أنّ توسّع آثار الاختلاف حوله إلى كلّ مؤسسات الدولة، وما انفتح من سجال حوله صار "درسًا قانونيًّا" مفتوحًا تناطح فيه أساتذة القانون الدستوري وقالوا حوله وأطالوا ينبّهون إلى ما استَجَدّ مع انتخابات 2019 التشريعيّة والرئاسيّة.
كانت الفكرة الغالبة على قراءة انتخابات 2019 أنّها تعبير عن مزاج قريب من "الصف الثوري". وأنّ هذه الانتخابات لا تخرج، من جهة نتيجتها، عن قانون التناوب بين القديم والجديد في مراحل الانتقال الديمقراطي. وأنّ التقدّم في الانتخابات يكون جولة بجولة.
فلئن كانت الانتخابات التأسيسيّة في 2011 فوزًا ساحقًا للجديد أمام قديم مربَك لم تُتَح الفرصة له لمشاركة فعليّة، مثّلت انتخابات 2014 فوزًا للقديم صاعقًا للقديم. ولم يكن لهذا الانتصار إلاّ رسالة واحدة: قدرة القديم على التجدّد وعجز الجديد على الاستمرار. غير أنّ ما عرفه حزب نداء تونس ـ واجهة القديم السياسيّة ـ من تشقّق وتحلّل مهّد الطريق أمام الجديد للعودة القويّة.
فكان فوز قيس سعيّد التاريخي في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسيّة علامة على جولة يكسبها الجديد. وتأكيد هذا التناوب على الفوز بين القديم والجديد رغم ما تعرفه الجهتان من تغيّرات مستمرّة تؤثّر عميقًا على توازنات المشهد السياسي.
كانت ردّة "أنصار حكومة الرئيس" وفي مقدّمتهم الرئيس نفسه عنيفة تجاه التعديل الوزاري وتعمّدت إرباك المؤسسات الأولى في الدولة وعطّلت سيرها العادي
مع انتخابات 2019 يمكن الحديث عن انحدار حقيقي عرفه المشهد السياسي. انحدار توضّح مع المشاكل التي عرفتها حكومة الفخفاخ أثناء تشكيلها، وفي المدّة التي قادت فيها البلاد، وما تلى سقوطها. فلئن اجتمعت في 2014 عوامل تواصل المسار الانتقالي متمثّلة في إجماع على فكرة الدولة والتقاء بين قوّتي الاعتدال في القديم والجديد، إلى جانب مؤسسة أمنيّة وعسكريّة خارج رهانات السياسة والحكم، فإنّه مع انتخابات 2019 بدأت ملامح مسار مضادّ.
فقد عرف المشهد فراغًا وسط المشهد السياسي باندثار حزب نداء تونس وتراجع حركة النهضة الكبير مقابل صعود القوى الجذريّة والطرفيّة من الجهتين (الدستوري الحر، ائتلاف الكرامة). وعرف صراع القديم والجديد تحولاً في طبيعته ببروز قوّتين جديدتين على المشهد السياسي هما الشعبويّة (قيس سعيّد) والفاشيّة (الدستوري الحر). ويتقاطع المكوّنان في مناهضة علنيّة للديمقراطيّة ومسارها رغم اختلاف المنطلقات.
عرف صراع القديم والجديد تحولاً في طبيعته ببروز قوّتين جديدتين على المشهد السياسي هما الشعبويّة (قيس سعيّد) والفاشيّة (الدستوري الحر) ويتقاطع المكوّنان في مناهضة علنيّة للديمقراطيّة ومسارها
اقرأ/ي أيضًا: التحوير الوزاري ونهاية حكومة الرئيس
- تعطّل شامل
لم تعرف مؤسسات الدولة إرباكًا بالحجم الذي عرفته هذه الأيّام. وغدا أمن البلاد القومي على قارعة صفحات التواصل الاجتماعي. من ذلك ما نشرته صفحة رئاسة الجمهوريّة من مداولات مجلس الأمن القومي في آخر اجتماع له. فضلاً عن "قصّة الطرد المسموم" وما أثارته من سخرية داخليّة وخارجيّة هي في إطلالتها النهائيّة إساءة بليغة إلى مؤسسة رئاسة الجمهوريّة ومنزلتها ودورها في الدولة ومسًّا من مكانة رئيس جمهوريّة في تجربة سياسية ظلّت لستّة عقود تحت نظام رئاسوي في ظلّ الاستبداد التابع ونظام الحزب الواحد.
وفي مقابل الأزمة الماليّة والاقتصاديّة والصحيّة المتفاعلة وضرورة مواجهتها، تقوم سجالات قانونيّة ورسائل صارت موضوع تندّر. ولكنّها تعبّر في حقيقتها عن القطيعة التي صارت بين مؤسسات الدولة الأولى ولا سيّما قطيعة بين رأسي السلطة التنفيذيّة. وما كان لها من دور في تعطّل شامل لمؤسسات الدولة السياديّة الأولى. ومثل هذه القطيعة انعكس على سير الحكومة وعدم تمكّن الوزراء المتحصّلين على ثقة البرلمان من أداء القسم لمباشرة أعمالهم.
لم تعرف مؤسسات الدولة إرباكًا بالحجم الذي عرفته هذه الأيّام وغدا أمن البلاد القومي على قارعة صفحات التواصل الاجتماعي
وأمّا على المستوى الإقليمي والدولي فإنّ غياب الديبلوماسيّة التونسيّة في المستويين الاقتصادي (التغيّب عن مؤتمرات وندوات اقتصاديّة دوليّة وأفريقيّة مهمّة) وفي السياسة الخارجيّة ( الملف الليبي) ضاعف من تهميش بلادنا وأضاع عليها فرصًا كانت ستساعد سياسيًّا واقتصاديًّا على مواجهة الأزمة الماليّة الاقتصاديّة وآثار كورونا المدمّرة على الحياة الاقتصاديّة والمعيشيّة.
إنّ ما يقوم من قطيعة بين رأسي السلطة التنفيذيّة ليس من طبيعة قانونيّة كما يلحّ الرئيس قيس سعيّد بقدر ما هو من طبيعة سياسيّة. ولئن بدا للخلاف بين رأسي المؤسسة التنفيذيّة أسبابه وطنيّة مباشرة، فإنّ السجال الدائر بين المؤسستين يكشف صراحة عن امتداد إقليمي ودولي له. ولتقريب الصورة نشير إلى ما كان من اختلاف بين الفاعلين السياسيين في مشهدنا حول الملف الليبي وحول ما يعرفه السياق الليبي من تحولات.
على المستوى الإقليمي والدولي فإنّ غياب الدبلوماسيّة التونسيّة في المستويين الاقتصادي وفي السياسة الخارجية (الملف الليبي) ضاعف من تهميش بلادنا وأضاع عليها فرصًا
اقرأ/ي أيضًا: تونس: تحوّلات محلية وإقليمية وصعوبات في مسار بناء الديمقراطية
- حقيقة بلادنا ليست في بلادنا
لا يمكن درء حجم التدخّل الدولي في مجالنا ومنه منطقة المغرب العربي. وفي تونس تبدو الصورة على قدر كبير من الوضوح. ويمكن تلخيص الأمر في أنّ حقيقة بلادنا ليست كلّها في بلادنا. وهذا داع كاف للأسى.
وبالعودة إلى الملف الليبي يمكن تبيّن موقفين في مشهدنا السياسي: موقف قريب من المحور الإماراتي المصري والفرنسي الذي كان يدفع نحو الحسم العسكري والدخول إلى طرابلس، وموقف قريب من المحور التركي القطري وكان يدفع نحو الحل السياسي. ولو كان هناك إجماع على مرجعيّة الديمقراطيّة ومسارها لكان هناك موقف واحد في بلادنا ينتصر للحل السياسي في ليبيا ولمسار جديد في بناء الديمقراطيّة على قاعدة الاختيار الشعبي الحر.
المعطى الدولي حاضر بقوّة فيما يعرفه المشهد السياسي عندنا من انقسام. وما تعرفه مؤسسات الدولة من سجال وإرباك. ولا يخفى انعكاس هذا الإرباك على وحدة الدولة واستمرارها وعلى مسار بناء الديمقراطيّة، وعلى السلم الأهلي. وهو ما يسمح بتبيّن وجهتي نظر: وجهة نظر تدفع بالإرباك إلى أقاصيه. وتجد لها سندًا في فرنسا وفيما تعرفه بعض دول الجوار من ترتيبات جديدة في مستوى السلطة بدأت بعض انعكاساتها الأمنيّة على بلدنا. ويبدو أنّ الغاية من كلّ هذا أن يكون إرباك الوضع في تونس ورقة بيد البعض في الملف الليبي قد تخفّف من خسارته التاريخيّة في ليبيا.
المعطى الدولي حاضر بقوّة فيما يعرفه المشهد السياسي عندنا من انقسام. وما تعرفه مؤسسات الدولة من سجال وإرباك. ولا يخفى انعكاس هذا الإرباك على وحدة الدولة واستمرارها وعلى مسار بناء الديمقراطيّة، وعلى السلم الأهلي
في حين لا تُخفي وجهة النظر الثانية المسنودة من الولايات المتّحدة وبعض الدول الأوروبيّة خوفها من الإرباك وما يمثّله من تهديد للدولة والسلم الأهلي. وأنّ عمليّة الإرباك تضعف من الشروط المحليّة (وإن كانت قليلة) في مقاربة وطنيّة لعلاقات بلادنا التقليديّة في منطقة المتوسّط التي تعرف صراعًا شرسًا بأفق إعادة ترتيب الأدوار وإعادة توزيع المواقع والمصالح.
إنّ المجال العربي ومكانته الاستراتيجيّة، وخاصّة بعد ما عرفه مع الربيع العربي من براكين سياسيّة وحروب أهليّة لا يقلّ دمارها عن دمار الحرب العالميّة الثانية وضياع لثروات ضخمة، صار موضوعًا لـ"مخطّط مارشال" جديد عند بعض القوى الدوليّة الغربيّة تنبئ به سياساتها الحاليّة لتجعل منه بوّابة إلى أفريقيا وسدًّا في وجه الزحف الأصفر. وهذا ما سيجعل من هذه المنطقة مجالاً لمشاريع ضخمة تشكّل أساس القاعدة الاقتصاديّة نحو أفريقيا والعالم. وفي هذا السياق يأتي دعم الاستقرار والتجارب الديمقراطيّة.
انقسام القوى السياسيّة في مشهدنا بين هذين التوجّهين الأمريكي والفرنسي، يجعل من الجميع مشاركا في حرب بالوكالة. فهل يبقى لمرجعيّة الديمقراطيّة ومسارها من قدرة على إحداث الفارق السياسي والأخلاقي في ظلّ شروط صراع لا نملك منها إلاّ القليل؟؟
اقرأ/ي أيضًا: