دعا رئيس الجمهورية قيس سعيّد الحكومة إلى التقشف في المال العام خلال استقباله الوزراء الشهر الماضي. وأكد قيس سعيّد "ضرورة التعويل على القدرات الوطنية قبل البحث عن موارد من الخارج. والتقشف في المال العام وضرورة أن يشعر جميع المواطنين بأنهم معنيون بالسياسات التي تنتهجها الدولة".
وحسب بيان رئاسة الجمهورية، تطرّق اللّقاء إلى "مسألة العدالة الجبائية في قانون المالية التكميلي لسنة 2021، وفي مشروع قانون المالية لسنة 2022، فضلًا عن تأكيد ضرورة مواصلة بذل الجهود للتصدّي لكلّ المحتكرين والمضاربين".
فهل باتت الدعوة إلى التقشف ملجأ أغلب المسؤولين السياسيين كلما تعمّقت الأزمة الاقتصادية في البلاد؟ وهل بات التمويل الخارجي شبه مستحيل؟ وهل يمكن لحكومة أن تعد بتحسين الصحة والتعليم والنقل فيما تتحدث في نفس الوقت عن التقليص في نفقات الدولة.
اقرأ/ي أيضًا: في لقائه ببودن.. سعيّد يجدّد الدعوة إلى "التقشّف في المال العام"
أثارت تصريحات الرئيس جدلًا كبيرًا بين من يعتبرها خطوة مهمة نحو الحد من الدين الخارجي، ومن يراها مجرّد كلام عام لا يستند على برنامج متكامل وواضح، لاسيما وأن قيس سعيّد لم يوضح في خطابه الخطوط العريضة لهذا التقشف، أو كيفية التقليص في النفقات العمومية.
- التقشف لحل الأزمة الاقتصادية
التقشف هو مكافحة التضخم المالي والحدّ من عجز ميزانية الدولة. هو مصطلح سياسي اقتصادي. وتضع الحكومة عادة برنامجًا واضحًا يهدف إلى التقليص من نفقات الدولة، أو الرفع من الضرائب.
وقد سبق أن أكد يوسف الشاهد، رئيس الحكومة السابق، في جلسة نيل الثقة أمام البرلمان على أن مديونية الدولة بلغت 56 مليار دينار مقابل 25 مليار دينار في 2010. وأكد أنه في حال لم يتم اتخاذ الإجراءات اللازمة، ستجبر الدولة على اتباع سياسة التقشف وستجبر على تقليص مصاريفها في الصحة والضمان الاجتماعي وستكون مضطرة إلى تسريح آلاف العمال ورفع الضرائب وإيقاف الاستثمار في التنمية والبنية التحتية.
أثارت دعوة الرئيس للتقشف جدلًا كبيرًا بين من يعتبرها خطوة مهمة نحو الحد من الدين الخارجي، ومن يراها مجرّد كلام عام لا يستند على برنامج متكامل وواضح، لاسيما وأن سعيّد لم يوضح الخطوط العريضة لهذا التقشف
تصريحات أثارت انتقادات كبيرة وجدلًا آنذاك لدى الرأي العام الذي يرى أنّ الطبقة الهشة ستكون أكثر تأثرًا بسياسة التقشف. نفس الأمر ذهب إليه البعض اليوم بسبب عدم وضوح مقصد قيس سعيّد بالتقليص في النفقات العمومية، لاسيما وأنه تحدث فقط عن توريد السيارات وعن وصولات البنزين والسيارات العمومية الوظيفية.
وفي هذا الإطار، يؤكد الناطق الرسمي باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، رمضان بن عمر، في تصريح لـ"الترا تونس" أن سياسات التقشف انطلقت بأكثر "وحشية" منذ سنة 2016 وتعددت الإجراءات التقشفية ذات المنحى الانكماشي، والتي تمثلت في تعطل المفاوضات الاجتماعية والرفع من الضغط الجبائي العام والضغط على كتلة الأجور وتأجيل التزامات اجتماعية عديدة للدولة وغيرها، ونتج عن ذلك انعكاسات سلبية على الفئات الأكثر هشاشة ساهمت في تردي الخدمات العمومية وانهيارها وانخفاض القدرة الشرائية وارتفاع نسب الفقر، ناهيك عن تبعات تداعيات جائحة كوفيد".
اقرأ/ي أيضًا: هل يعني التقشف التخفيض في الأجور؟ أنيس الوهابي يوضح لـ"الترا تونس"
كما أضاف أن "التقشف يستلزم حسن التصرف في الإدارة والمالية العمومية، إضافة إلى الحرص على جودة الخدمات ومردودية الإدارة. فالحرص على المال العام يشترط حسن أداء الموارد البشرية العاملة بالإدارة العمومية وتحسين مستوى الإنتاجية لديها"، مستدركًا القول إن "في تونس يصبح الحديث عن التقشف مرعبًا لجميع المواطنين باعتباره أصبح يعني لها صعوبات جديدة تهم كل مناحي الحياة".
رمضان بن عمر لـ"الترا تونس": حديث الرئيس عن التقشف ينسف محاولات تصوير المشهد السياسي الجديد بأنه في قطيعة مع مسارات ما قبل 25 جويلية، بما أنه لا يقترح حلولًا بديلة لمواجهة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية
وتابع بن عمر أن "حديث رئيس الجمهورية عن التقشف والتضحية استدعاء لقاموس سياسي سابق في مواجهة الأزمات الاقتصادية كلما تعلّق الامر بإجراءات موجعة للفئات الأكثر هشاشة. وهو ينسف محاولات تصوير المشهد السياسي الجديد بأنه في قطيعة مع مسارات ما قبل 25 جويلية، بما أنه لا يقترح حلولًا بديلة لمواجهة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية"، معتبرًا أن "طبيعة الأزمة تستوجب إنفاقًا أكثر من الدولة من أجل تحسين الخدمات العمومية ودفع النمو الاقتصادي وإعادة تأهيل البنية التحتية والرفع من ميزانيات التنمية خاصة الموجهة للجهات الداخلية وإعادة تطوير المؤسسات العمومية".
على صعيد آخر، أشار الناشط الحقوقي إلى أن "الخروج من الأزمة ممكن عبر إجراءات عاجلة تستهدف استرجاع الدولة لمستحقاتها الجبائية والديوانية لدى المتهربين والمهربين والتخفيف من الإعفاءات والامتيازات الجبائية، ومقاومة التهرّب الجبائي بصرامة وإخضاع بارونات ومافيات التجارة الموازية والاقتصاد الريعي والعمل على إحداث ضريبة على الثروة ومحاربة الفساد بكل جرأة ومقاومة تهريب الأموال ومراجعة قانون استقلالية البنك المركزي والعمل الديبلوماسي على تعليق الديون التونسية لمدة بين 3 و5 سنوات"، على حد تقديره.
عز الدين سعيدان لـ"الترا تونس": إذا كان المقصود بالتقشف التقليص من النفقات العامة غير المجدية والترفيع في نفقات الاستثمار والإصلاحات، فهذا يعني أنّ التقشف سيكون حلًا من الحلول للأزمة الحادة
ومن جهته، اعتبر النائب في البرلمان التونسي والخبير في الشأن الاقتصادي هشام العجبوني، في تدوينة نشرها على حسابه الخاص بموقع التواصل فيسبوك في 21 أكتوبر/تشرين الأول 2021، أن "سياسة التقشف ستنعكس سلبيًا على الخدمات العمومية، على غرار التعليم والصحة والنقل".
وأضاف: "يبدو أن هنالك خلطًا بين التقشف في النفقات العمومية وترشيد التوريد في علاقة بعجز الميزان التجاري والضغط على مخزون العملة الصعبة نتيجة التوريد العشوائي (مثال السيارات الفاخرة بمئات الملايين الذي ذكره رئيس الجمهورية). والحلّ الوحيد لأزمة المالية العمومية هو العمل على منوال اقتصادي يخلق النموّ والثروة وكذلك القيام بإصلاحات هيكلية متعلقة بالتأجير العمومي ومنظومة الدعم والمنشآت العمومية والجباية والاقتصاد الموازي ومجلة الصّرف والمديونية"، حسب رأيه.
- تقشف غير واضح
وقد أشار الخبير الاقتصادي عز الدين سعيدان لـ"الترا تونس" إلى أنّ "رئيس الجمهورية لم يوضح بالضبط في خطابه ما المقصود بالتقشف، فإذا كان المقصود به ترشيد نفقات الدولة والتقليص من النفقات العامة غير المجدية والترفيع في نفقات الاستثمار الذي سلمت فيه الدولة، والترفيع في نفقات الإصلاحات التي تتطلب طبعًا موارد مالية، فهذا يعني أنّ التقشف سيكون حلًا من الحلول للأزمة الحادة".
وأردف: "لا بد لرئيس الجمهورية أن يوضح بالضبط ما المقصود بالتقشف. وقد أوصلنا المعلومة إليه بكون التقشف الحقيقي والمجدي هو التقشف الذي يؤدي إلى ترشيد نفقات الدولة، أي النفقات التي لا بد من التنقيص منها والتي أثقلت كاهل الميزانية، وأن تُوجه تلك الموارد للاستثمار العمومي والإصلاحات المتعلقة بالتعليم والصحة والقضاء والجباية".
آرام بالحاج لـ"الترا تونس": الحديث عن سياسة التقشف في تونس لا يستقيم، خاصة في ظل وجود نسبة هائلة من ميزانية الدولة في شكل مصاريف إلزامية كالأجور والتدخلات والاستثمار وتسديد الديون
من جهته، أشار الخبير الاقتصادي آرام بالحاج، في تصريح لـ"الترا تونس" إلى أن الحديث عن سياسة التقشف في تونس لا يستقيم، خاصة في ظل وجود نسبة هائلة من ميزانية الدولة في شكل مصاريف إلزامية كالأجور والتدخلات والاستثمار وتسديد الديون. في المقابل، يمكن الحديث عن ترشيد بعض نفقات التصرف، خاصة مع تعليق أشغال بعض المؤسسات وإدماج بعض الوزارات. والذهاب في طريق التقشف بما ينتج عن ذلك من خفض النفقات الإلزامية بصفة عامة، نفقات الاستثمار بصفة خاصة، ستكون له عواقب كارثية على الاقتصاد التونسي"، حسب توقعاته.
لذا يبقى التقشف الذي تحدّث عنه رئيس الجمهورية غير واضح المعالم وسط مخاوف من أن يعمّق التقشف من الأزمة وأن يؤثر خاصة على الفئات الهشة ويجدد الاحتقان الاجتماعي لاسيما فيما يتعلّق باتباع منهج الحكومات السابقة في علاقة بالتشغيل وإيقاف الانتدابات في الوظيفة العمومية مع تجميد الأجور...
اقرأ/ي أيضًا:
"وثيقة مسرّبة" لمشروع قانون مالية 2022: مختصون اقتصاديون يتفاعلون
حوار| آرام بلحاج: تعهدات تونس مع صندوق النقد قد تؤدي إلى انفجار اجتماعي