يبدو أن المقولة الشهيرة "إذا كنا نحب الحياة نذهب إلى السينما" كانت المعين الذي ألهم المخرج السينمائي رضا الباهي مدير الدورة 31 لأيام قرطاج السينمائية لسنة 2020 حتى ينجز وفريقه هذه النسخة من 18 إلى 23 ديسمبر/كانون الأول الجاري، التي كادت أن تعصف بها جائحة كورونا وتمحوها من الخريطة التاريخية لدورات أحد أعرق المهرجانات السينمائية في إفريقيا والعالم العربي وإحدى القلاع الهامة في العالم لسينما المؤلف والتفكير بالسينما وحولها.
إنّ الإبقاء على الدورة في هذا الظرف الاستثنائي اعتبره أغلب المتابعين للشأن الثقافي والسينمائي تحديًا من إدارة الأيام ووزارة الشؤون الثقافية التي ترعى هذا المهرجان منذ نشأته سنة 1966 على يد أباء السينما التونسية يتقدمهم الراحل الطاهر شريعة.
تضمن الافتتاح قسمًا تكريميًا شمل الفنانة الراحلة "السيدة نعمة" والضيف الوحيد الذي دعته الأيام وهو الممثل المصري القدير "عبد العزيز مخيون" المعروف بأدواره السينمائية والمسرحية الشجاعة
لقد كان الإبقاء فقط من أجل إبهاج التونسيين والرفع من معنوياتهم وكسر الرتابة التي يعيشونها منذ أشهر جراء تداعيات كورونا وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، وهذا ما أكدته الهيئة المديرة في تصريحاتها الإعلامية هنا وهناك معتبرة أن المهرجان له أدوار نضالية متعددة الأبعاد، وبالتالي هو مطالب بالحضور بقوة في ظل جائحة كورونا للتأكيد أن الفعل الفني والثقافي هما فعلًا إرادة وتحدٍّ وخلق إبداعي من أجل تجميل الحياة واستمرارها في أوج العواصف التي قد تداهم المجتمعات فتعصف باستقرارها وسكينتها.
هذه الإرادة التي غمرت إدارة أيام قرطاج السينمائية في دورتها 31 جعلتها شديدة الاتزام ببروتوكول صحي خاص يحقق التباعد الجسدي والسلامة الصحية للسينمائيين وأحباء السينما وذلك بالالتزام بقاعدة الثلاثين بالمائة من حجم طاقة استيعاب القاعات والتخلي تمامًا عن شبابيك بيع التذاكر الورقية وتحويلها إلى شبابيك افتراضية.
تكريم الممثل المصري عبد العزيز مخيون
حفل الافتتاح الذي احتضنته قاعة مسرح الأوبرا بمدينة الثقافة الشاذلي القليبي بالعاصمة تونس مساء 18 ديسمبر/كانون الأول الجاري في غير الموعد الذي جرت العادة أن تنطلق فيه سهرات الافتتاح احترامًا لمقتضيات حظر الجولان الذي تعيشه تونس منذ أشهر، خرج من انجذابات السجاجيد الحمراء وعاد إلى تقشفه وبساطته وانقسم إلى قسمين أساسيين:
- قسم تكريمي شمل الفنانة الراحلة "السيدة نعمة" فتمت استعادة عقد من رصيدها الغنائي بصوت الموسيقية "ليلى حجيّج" وتكريم الضيف الوحيد الذي دعته الأيام وهو الممثل المصري القدير "عبد العزيز مخيون" المعروف بأدواره السينمائية والمسرحية الشجاعة بمواقفه المساندة للحريات والديمقراطية ونصرته للقضية الفلسطينية. وقد نوّه مخيون وهو على ركح الافتتاح بمسرح الأوبرا بالسينما التونسية ودور المهرجان وعراقته وتقديره للشعب التونسي في تجربته الجديدة.
اقرأ/ي أيضًا: وسط إجراءات استثنائية.. الدورة 31 لأيام قرطاج السينمائية تحتفي بذاكرة المهرجان
- أما القسم الثاني فقد تضمن عرضًا خاصًا لستة أفلام قصيرة تتراوح مدتها بين 10 و15 دقيقة وهي مستلهمة من أعمال توّجت سابقًا على مرّ تاريخ المهرجان وقد موّلها "المركز الوطني للسينما والصورة بتونس". وهذه الأعمال هي: "المصباح المظلم في بلاد التررني" لطارق الخلادي و"الوقت الذي يمرّ" لسنية الشامخي و"على عتبات السيدة" لفوزي الشلّي و"الماندا" لهفيل بن يوسف و"سوداء 2" لحبيب المستيري و"السابع" لعلاء الدين بوطالب.
نوستالجيا ضرورية من أجل مأسسة الذاكرة
وما دامت النوستالجيا هي قوام هذه الدورة الاستثنائية من أيام قرطاج السينمائية، فإن ذلك يمثل فرصة لجمع ذاكرة هذه التظاهرة الفنية الأساسية في المشهد الثقافي التونسي والعربي والإفريقي بإنقاذ أرشيفها المشتت بين الإدارات والأفراد، وذلك بتشريك المؤسسات المختصة في الأرشفة وصون الذاكرة على غرار مؤسسة الأرشيف الوطني ودار الكتب الوطنية والمتحف الوطني ومتحف السينما والمعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر والمجتمع المدني المختص مثل الجامعة التونسية لنوادي السينما وغيرها من الجمعيات والمنظمات.
ستقدم النسخة الحالية لأيام قرطاج السينمائية 34 فيلمًا طويلًا و66 فيلمًا قصيرًا من جملة الأفلام المتوجة والمعروضة على مر التاريخ التظاهرة منذ الدورة الأولى سنة 1966 إلى حدود دورة 2019
وضمن هذا الإطار العام من مراجعة الذاكرة، ستقدم النسخة الحالية لأيام قرطاج السينمائية 34 فيلمًا طويلًا و66 فيلمًا قصيرًا من جملة الأفلام المتوجة والمعروضة على مر التاريخ التظاهرة منذ الدورة الأولى سنة 1966 إلى حدود دورة 2019.
تعويض المسابقة الرسمية بالعروض الأولى لافلام تونسية وعربية وإفريقية
كما ارتأت الدورة الحالية أن تلغي استثنائيًا قسم المسابقات وتعويضها بالعروض الأولى لستّة أفلام نالت جوائز هامة بمهرجانات عربية ودولية منها ثلاثة أفلام تونسية هي: "الرجل الذي باع ظهره" لكوثر بن هنية و"المستطدنسي" لحمزة العوني و"الهربة" لغازي الزغباني وشريط من دولة الكوت دي فوار لفليب لاكوت وعنوانه "ليلة الملوك" وشريط من دولة فلسطين للمخلرج أمين نايفة عنوانه "200 متر".
"منتدى قرطاج" وأهمية التفكير حول السينما ومستقبلها
ومن أبرز أقسام هذه الدورة نجد "منتدى أيام قرطاج السينمائيّة: الماضي، الحاضر، المستقبل" وهي جلسات تفكير ونقاش ستكون مفتوحة للعموم وسيحضرها أبناء قطاع السينما من مخرجين وتقنيين وممثلين ومنتجين وموزعين، بخصوص مخرجات أربع ورشات هامة سبق أن قدّمت خلال الأشهر المنقضية.
وقد طرحت الورشة الأولى موضوع الفيلم العربي والإفريقي صناعته وتوزيعه، وتطرقت الثانية إلى موضوع إشعاع المهرجان عربيًا وإفريقيا، أما الورشة الثالثة فقد تناولت موضوع أرشيف الأيام المكتوب والسمعي البصري وتقديم تصور عملي لأرشفة المهرجان ورقمنته وأخيرًا ذهبت الورشة الرابعة إلى مستقبل أيام قرطاج السينمائية وكيفية تطوير المهرجان.
منصة قرطاج للمحترفين لدعم الأعمال الأولى عبر شبكة وتكميل
وحافظت الدورة 31 لأيام قرطاج السينمائية على قسم هام من أقسامها وهو "منصة قرطاج للمحترفين" بورشتيها "شبكة" و"تكميل" وهي منصة تهدف أساسًا إلى تقديم منح دعم ومساعدة لإتمام المشاريع السينمائية، وخاصة للشباب الذين يواجهون صعوبات في تمويل أعمالهم الأولى.
إن أيام قرطاح السينمائية، كمَعلم ثقافي رمزي تونسي وعربي وإفريقي، أرادت لنفسها تحدي جائحة كورونا إيمانًا منها بأن الحياة تستمر بالفن أسوة بقولة نيتشه "علينا بالفن كي لا تميتنا الحقيقة"
وقد تقرر خلال هذه السنة وبشكل استثنائي دعم الأفلام الأولى والثانية لمخرجيها، وانتقت لجنة خاصة 13 مشروعًا سينمائيًا لمخرجين عرب وأفارقة وتونسيين من أجل دعمهم.
ويذكر أن ورشة "تكميل" التي بعثت سنة 2014 قد دعمت إلى حد الآن 44 عملًا سينمائيًا في مراحل ما بعد الإنتاج. ومن جهتها، دعمت ورشة "شبكة" 9 مشاريع سينمائية منذ إنشائها سنة 2018.
كما قامت أيام قرطاج السينمائية بإنشاء "راديو جي سي سي" بالشراكة مع "راديو إي آف آم"، وسيبثّ طيلة أيام المهرجان فقط انطلاقًا من السابعة مساءً إلى حدود العاشرة ليلًا من مقره بمدينة الثقافة وسيتسضيف الفاعلين السينمائيين ويطرح المواضيع الحارقة المتعلقة بقضايا السينما والصورة، كما سيُمتّع المستمعين بأجمل أغاني الأفلام.
إن أيام قرطاح السينمائية، كمَعلم ثقافي رمزي تونسي وعربي وإفريقي، أرادت لنفسها تحدي جائحة كورونا إيمانًا منها بأن الحياة تستمر بالفن أسوة بقولة نيتشه "علينا بالفن كي لا تميتنا الحقيقة" ويبدو أنها نجحت في ذلك.
اقرأ/ي أيضًا:
حصاد الثقافة في تونس سنة 2020: كورونا تقسو على قطاعات وتنعش أخرى