بتجاوز عددها الـ35 ألفًا، تختزل بعض المواقع الأثرية في تونس تاريخ حضارة تفوق 3 آلاف سنة، لكن يبدو أنّ أغلبها خارج حسابات الدولة وميزانيتها، فيما ظلّ العديد منها مهملًا قد يندثر يومًا ما بسبب النسيان.
ورغم الموارد المالية الكبيرة التي تخصصها الدولة لحماية التراث، إلاّ أنّ ذلك لم يحم أغلبها من النهب والاعتداءات المختلفة. كما شهدت بعض المواقع الأثرية تقلصًا في مساحتها بسبب الزحف العمراني، إلى جانب أن تداخل المهام بين مختلف الفاعلين في مجال الآثار من بيئة وتجهيز وبلدية ومجتمع مدني ومعهد وطني للتراث ووكالة وطنية لحماية التراث يزيد من حدّة عدم تحديد مسؤولية كل طرف وضبط مجالات تدخله.
دائرة المحاسبات: المعهد الوطني لحماية التراث ضبط قائمة تتضمن 100 معلم أثري مهدّد يستوجب تدخلًا عاجلًا
اقرأ/ي أيضًا: مائدة يوغرطة.. تاريخ تونس القديم المرشح للائحة التراث العالمي
وقد ذكرت دائرة المحاسبات في تقريرها الصادر لسنة 2014 أنّ المعهد الوطني لحماية التراث تولى فيما تعلّق بصيانة المعالم التاريخية والمواقع الأثرية خلال سنة 2006، ضبط قائمة تتضمن 100 معلم مهدّد يستوجب تدخلًا عاجلًا، إلا أنّه لم يتمّ إلى غاية ماي 2013 وضع أو تنفيذ مشاريع لإنقاذها. وذكر التقرير أن التدخلات المنجزة في هذا المجال لا تنصهر في إطار تصور شامل يضمن استغلال هذه المعالم بعد ترميمها، ويقتصر إعداد الدراسات الأولية المنجزة خلال الفترة بين 2009 و2012 أحيانًا على تشخيص مقتضب لحالة المبنى ووصف عام للتدخلات.
كما أكد التقرير أنّ أعمال صيانة القطع الأثرية وخاصة المخطوطات المودعة بالمخبر الوطني لصيانة وترميم المخطوطات بالقيروان والتي تعتبر أهمّ رصيد في العالم الإسلامي، تستوجب مزيد التنظيم لهذا الهيكل، ودعمه بوسائل العمل الضرورية بما يضمن صيانتها وفقًا لمعايير اليونسكو في هذا المجال وضبط طريقة مناولتها والمحافظة عليها حماية لها من التلف أو السرقة، مثلما تمّ تسجيله خلال سنة 2009 حيث تعرضت المخطوطات إلى عملية سرقة شملت 39 ورقة منها ورقتان من الرقّ الأزرق.
كما تمّ تنفيذ مشاريع ترميم التراث بجهة القيروان خلال الفترة بين 2009 و2012 بصفة شبه كلية عبر جمعية صيانة مدينة القيروان وفي غياب كلّي لإدارة المعهد رغم تكليفه بالإشراف على هذه المشاريع بصفته صاحب المشروع أو السلطة العلمية والفنية المختصة. وقد شهد تنفيذ هذه المشاريع إخلالات على المستوى المالي والفني.
[[{"fid":"99179","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":399,"width":600,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]
غياب برامج تهيئة المواقع والمعالم
وفيما يتعلق بإحياء التراث الأثري، ذكر التقرير أنّه تبيّن غياب برامج إحداث وتهيئة المتاحف والمواقع والمعالم وعدم الدقة في تحديد الحاجيات والدراسات الأولية لبعض المشاريع وعدم إنجاز الأشغال المبرمجة في الآجال المضبوطة، ومن ذلك إيقاف أشغال إعادة تهيئة المتحف الأثري بسوسة لفترة 758 يومًا والترفيع في كلفة الأشغال بما قدره 2.288 مليون دينار والتمديد في آجال الإنجاز.
كما تمكن فريق العمل بدائرة المحاسبات من الوقوف على جملة من النقائص تعلقت بحماية كلّ من المعالم التاريخية والمواقع الثقافية والمنقولات الأثرية وبدراسة ملفات التراخيص من قبل المصالح المكلفة بالتّراث. ولئن وافقت اللجنة الوطنية للتراث خلال الفترة بين 2002 و2010 على ترتيب 28 معلمًا وحماية 7 معالم أثرية، فإنه وإلى غاية شهر ماي 2013 لم يتم إصدار أي أوامر ترتيبية في شأنها.
وبلغ عدد المعالم التي صدر في شأنها قرار حماية 6 معالم فقط. ويرجع التأخير في إصدار أوامر ترتيبية وقرارات الحماية إلى عدم توفّر وثائق أساسية تتعلق بالوضعية العقارية للمعالم، وإن كانت حماية المنقولات الأثرية تتم طبقًا لمجلة التراث بقرار من الوزير المكلف بالتراث وذلك بعد أخذ رأي اللجنة الوطنية للتراث. كما لم يتم حماية أي منقولات أثرية على ملك خواص إلى غاية ماي 2013، فيما لا يتوفّر بالمعهد الوطني للتراث قائمة شاملة في تجار القطع الأثرية ما يجعل من الصعب مراقبتهم طبقا لأحكام مجلة التراث.
مدير صيانة المواقع الأثرية السابق لـ"الترا تونس": أغلب المواقع الأثرية تفتقد إلى حراس بسبب انعدام الميزانية
كما تبيّن وفق التقرير أنّ المعهد يحلّ محلّ الوزير المكلف بالتراث في إبداء رأيه في التراخيص الخاصة بترميم أو تغيير صبغة المواقع الأثرية مما يجعل قرارات إسناد هذه التراخيص أو رفضها قابلًا للطعن.
ولم يكن تقرير الأعمال الرقابية الوحيد الذي أكد الإهمال المتعلّق بحماية وصيانة الآثار في تونس أو ضعف الميزانية المخصصة لذلك. فقد صرّح مدير صيانة المواقع الأثرية السابق فتحي البيحري لـ"الترا تونس" أنّ أغلب المواقع الأثرية تفتقد إلى حراس بسبب عدم الحصول على ميزانية للغرض منذ أكثر من 3 سنوات، حيث "تودع إدارة الصيانة سنويًا ملفًا لكنّه يجابه بالرفض من قبل وزارة المالية" وفق تأكيده.
الصيانة أيضًا تراجعت وفق محدّثنا، إذ انخفضت ميزانية دائرة الصيانة التابعة للمعهد الوطني للتراث بين سنتي 2013 و2014 بحوالي 70 في المائة، فيما تراجعت بين سنتي 2014 و2015 بـ39 في المائة.
كما أكد ممثل معهد الآثار في تطاوين علي الثابتي لـ"الترا تونس" أن المنطقة الأثرية سهل الرومان بالذهيبة من ولاية تطاوين مهددة بالاندثار. ويضمّ الموقع الأثري مقبرة تعود إلى القرن الثالث ميلادي، وقد أقيمت فيها حفريات من طرف قادة عسكريين فرنسيين في فترة الاستعمار بين سنتي 1907 و1912، حيث تم العثور على رسم لآلهة الأموات وضريحين إضافة إلى عدة قبور أخرى، ولكنها بقيت مهملة خارج الوجهات السياحية أو التظاهرات الثقافية، وفق تأكيد محدّثنا.
اقرأ/ي أيضًا: كسرى.. زهرة الصخور الفاتنة التي تشكو الإهمال
علي الثابتي ممثل معهد الآثار في تطاوين لـ"الترا تونس": المنطقة الأثرية سهل الرومان بالذهيبة من ولاية تطاوين مهددة بالاندثار
الآثار الرومانية بمنوبة طالها هي الأخرى الإهمال، مثل الآثار الموجودة في الأنصارين والدخيلة والمسرح الروماني في طبربة، ومع ذلك لا تدرج تلك الأماكن في برامج الزيارات السياحية أو حتى الرحلات الترفيهية الداخلية التي تقوم بها بعض وكالات الأسفار.
كما غطى سد وادي الزرقة من ولاية باجة الواقعة في الشمال الغربي من الجمهورية التونسية عددًا كبيرًا من المساحات الأثرية الرومانية. فيما أصبح الحصن الأثري برج زوارة مصبًّا للفضلات، وتحوّل بدوره برج سيدي مسعود بطبرقة إلى مصبّ للفضلات والأوساخ، مما دفع بقوات الجيش الوطني إلى تشديد الرقابة على الحصن الجنوبي منه بعد تعرضه للنهب، ومنعت زيارته إلا بترخيص في الغرض من وزارة الدفاع الوطني.
[[{"fid":"99180","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"2":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":400,"width":600,"class":"media-element file-default","data-delta":"2"}}]]
لم يتم استغلال المواقع الأثرية للترويج السياحي
لقد ظلّت أغلب الآثار تشهد إهمالًا كبيرًا، ولا يزورها السياح أو حتى أبناء البلد، وباتت مسجّلة فقط في كتب التاريخ والحضارات كمعالم أثرية تختزل تاريخًا عريقًا، لكن أغلبها بعيد عن واقع السياحة والثقافة. وهو ما دفع بالمختصين في حماية التراث إلى المطالبة بتطوير إجراءات مراقبة المداخل السياحية، وتكثيف حماية المتاحف والمناطق الأثرية.
قصر العواديد، وقصر أولاد عون، وقصر أولاد سلطان، وقصر أولاد بوبكر وغيرها من عشرات القصور الأخرى في تطاوين وغيرها في ولاية مدنين ومنطقة مطماطة بولاية قابس، هي قصور تختزل مئات أو آلاف السنين من حياة التونسيين وتراثهم. إذ لا تزال رمزًا من رموز الثراء الثقافي والحضاري للجنوب التونسي، وهي حصون بناها البربر أواسط القرن الحادي عشر لتستعمل كمخازن للمؤونة هجرها أصحابها لكنها باتت اليوم رمزًا من رموز الثقافة التونسية تقام فيها سنويًا التظاهرات الثقافية والمهرجانات.
ومع ذلك، لم يقع إدراجها في قائمة المعالم الأثرية، ولم تتم المطالبة بذلك وفق ما أشار إليه حبيب علجان رئيس جمعية صيانة التراث بغمراسن لـ"الترا تونس". حيث قال إنّ عدد القصور تراجع من 160 إلى 100 قصرًا فقط، مضيفًا أن أغلبها "يفتقر إلى الترميم مما يهددها بالاندثار، وحتى بعد الترميم تبقى مهجورة دون حراسة، ولا تعود الحياة إليها إلا في المواسم الثقافية".
تمتلك تونس، إجمالًا، معالم أثرية هامة تستطيع التعويل عليها في استقطاب أسواق جديدة من السياح المهتمين بالثقافة وتاريخ الحضارات، ولكن على السلطات التونسية أن تعي أهمية النهوض بهذه المعالم والاعتناء بها عوض التهميش والإهمال الذي تعاني منه، وذلك مع ضرورة العمل على إدراجها في لائحة التراث العالمي.
اقرأ/ي أيضًا: