من منا لا تغمره سكرات الحنين إلى طفولته فيجد نفسه يبعثر ورقات ذاكرته علّه يجد فيها لحظة سعادة جمعته ذات يوم بعائلته أو أصدقائه؟ ومن منا يكبح جماح نفسه من الابتسام عند مشاهدة رسوم متحركة كان يحرص على متابعتها عندما كان طفلًا أو مسلسلًا تلفزيًا تونسيًا أو مكسيكيًا رافقه أيام الطفولة أو المراهقة؟
الحنين إلى الماضي أو الطفولة هو أحيانًا هروب من واقع صعب نعيشه وفي أحيان أخرى بحث عن لحظات أمان تقينا وحدة الحاضر وقسوته، وهو أمر طبيعي ويعيشه المرء من وقت إلى آخر سواء كان بمفرده أو في حديث مع قريب أو صديق يجمعهما ماض مشترك.
اقرأ/ي أيضًا: افتتاح أول مقهى نسائي في حي التضامن!
الحنين إلى الطفولة.. أو الهروب إلى الماضي
إلا أن اللافت للانتباه هو موجة "الحنين" إلى الماضي، والتي باتت تعيش على وقعها فئات وشرائح واسعة ومتنوعة من المجتمع التونسي خلال الأيام الأخيرة، وهو بالتحديد حنين استيقظ فجأة لدى من ولدوا أو عاشوا في فترة الثمانينيات والتسعينيات، أو ما يصطلح على تسميته في تونس بـ"الجيل الذهبي"، الذي يعتبر أفراده أنهم يستحقون هذا اللقب عن جدارة، فهو الجيل الذي خبر اللعب في الشوارع وشهد الثورة التكنولوجية وما رافقها من تطور، وهو الجيل الذي كانت له فرصة مشاهدة ما يعدّ أفضل الصور المتحركة ومسلسلات تلفزية وأفلام سينمائية. هو الجيل الذي عاش أبناؤه طفولة متشابهة، فجلّهم أبناء الطبقة الوسطى والمدرسة العمومية التونسية ونشأوا على قيم تكاد تصبح معدومة اليوم.
سياسيون، ممثلون، فنانون، صحفيون، موظفون، مدرّسون، أساتذة جامعيون، محامون، أطباء، وغيرهم، اجتمعوا فجأة في مجموعة فيسبوكية تحمل اسم "Ya Gdim"، وشاركوا فيما بينهم كل ما يمثل أو يرمز إلى طفولتهم، فهذا ينشر صورة للعبة قديمة، وتلك تنشر أغنية قديمة، وأولئك ينشرون أغنيات شارات صور متحركة أو مسلسلات تلفزية، والبعض الآخر نشر صور فنانين كانت لهم شهرة واسعة في فترة الثمانينيات والتسعينيات، أو صورًا لكتب ومجلات كانت رائجة في ذلك الوقت.
معاذ بن نصير (باحث في علم الاجتماع) لـ"ألترا تونس": النوستالجيا" هي آلية نفسية للدفاع عن الذات والتأقلم مع الحاضر التعيس
ولئن كانت مجموعة "Ya Gdim" قديمة وتمّ إحداثها منذ حوالي 8 سنوات، إلا أن الإقبال عليها جدّ خلال اليومين الأخيرين، فتجاوز عدد أعضائها الـ300 ألف في أقل من ثلاثة أيام، علمًا وأنه قبل ذلك كان عدد أعضائها في حدود الخمسين ألفًا. هذه الهبة الفجئية على هذه المجموعة والإقبال بكثرة على نشر مواد متنوعة فيها من قبل جلّ أعضائها، تثير عدة أسئلة حول أسباب هذا الاستيقاظ المفاجئ لنوبة الحنين التي شملت شرائح مختلفة ومتنوعة من المجتمع التونسي، وأفرادًا من انتماءات سياسية وفكرية وإيديولوجية متباينة.
وفي هذا السياق، يعتبر الباحث في علم الاجتماع معاذ بن نصير، في تصريح لـ"ألترا تونس"، أن العودة إلى الماضي عبر إنشاء مجموعة "Ya Gdim" له عدة أسباب، من بينهما تأزم الوضع الاجتماعي والاقتصادي الحالي بتونس، وارتفاع منسوب خيبة الأمل لدى البعض من التونسيين الذين يرون أن الماضي كان أفضل بكثير من الحاضر، حسب تعبيره.
اقرأ/ي أيضًا: للنساء في تونس نصيب من سياقة "التاكسي سكوتر"
وبيّن بن نصير أن الماضي يُعتبر السعادة والحب اللامتناهي، وبساطة المعيش اليومي ورفعة الأخلاق ورقي المعاملات الإنسانية والاجتماعية، مضيفًا أن التونسي يعيش اليوم حالة من التصحّر الاجتماعي والنفسي وحالة من الاغتراب لواقعه. وأبرز أنه كاستراتيجية لتحقيق نوع من التوازن النفسي يبحث داخل ماضيه عن السعادة عبر استحضار الصور والأشخاص والمدرسة القديمة، والأصدقاء والحي والبطحاء وكل المتغيرات الاجتماعية التي كانت يومًا ما سببًا لسعادته.
وأوضح محدثنا أن "النوستالجي" هي آلية نفسية للدفاع عن الذات والتأقلم مع الحاضر التعيس، مؤكدًا أن "النوستالجيا" ليس بمرض نفسي بقدر ما هي دواء للفرد التعيس والفرد المغترب اجتماعيًا ومهنيًا، على حدّ قوله. وقال إن العودة لمجموعة "Ya Gdim" هي هروب من واقع التكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة المعقدة والعلاقات الاجتماعية والأسرية والزوجية شبه المنعدمة، إلى جانب البحث، عبر الماضي، عن مظاهر الاستقرار الاجتماعي التي عاشها أغلب التونسيين في سنوات الثمانينيات والتسعينيات.
وختم بن نصير بالتأكيد على أن هوس القديم والماضي بذكرياته هي حالة صحية للتونسي الذي يعاني اليوم من أزمة سياسية واجتماعية واقتصادية زادت من حدة توتره واضطرابه النفسي، وفق تقديره.
أسامة عويدات (قيادي بحركة الشعب) لـ"ألترا تونس": عند استرجاع ذكريات الطفولة نشعر بالسعادة
مما لا شكّ فيه أن مجموعة "Ya Gdim" والذكريات التي ساهمت في استحضارها تمثل هروبًا من الواقع، وهو ما يؤكده عدد كبير من أعضائها على غرار القيادي في حركة الشعب أسامة عويدات، الذي قال لـ"ألترا تونس" إن كل إنسان حين يصل إلى سن معيّنة يحنّ "نفسانيًا" إلى مرحلة الطفولة.
ويضيف عويدات "أننا نعيش الضغط اليومي ونسق الحياة والقلق الوجودي والانتظارات والأهداف التي لم تتحقق بعد، وكلّ ذلك يجعلنا نشعر، عند استرجاع ذكريات الطفولة وما ترمز إليه من براءة ومرح وعدم إحساس بأي ضغوطات أو مسؤوليات، باستثناء ترقب ما يملأ أوقاتنا من برامج تلفزية وألعاب مع الأصدقاء والجو في الحي، نشعر بكم من السعادة لا نفتقده إلا بعد الابتعاد عنه، خاصة عند تذكر برنامج تلفزي أو لعبة ترحل بنا إلى الماضي"، وفق تصريحاته.
طارق اللموشي لـ"ألترا تونس": من الجيد أننا عدنا لنوستالجيا طفولة وشباب الأشخاص الذين تجاوزوا الثلاثين والأربعين سنة
من جهته، يعتبر الكاتب والمدرب في تقنيات واستراتيجيات التواصل والمناصرة، طارق اللموشي (وهو عضو بـ"Ya Gdim")، أنه "من الجيد أننا عدنا لنوستالجيا طفولة وشباب الأشخاص الذين تجاوزوا الثلاثين والأربعين سنة، وجعل كل واحد من الموجودين يتذكر مئات التفاصيل الصغيرة التي كانت تملأ حياته ولكن تم الإلقاء بها في دُرج خزانة قديمة في ذاكرته وتفرّغ لمسائل أخرى.
وأضاف اللموشي، لـ"ألترا تونس"، أن الجيّد أيضًا أن الأشخاص تعبّر وتتفاعل مع بعضها البعض دون حسابات أو تعقيدات، وعادوا إلى الموروث الذي جعلهم موحّدين، بعيدًا عن الاختلافات التي خلقتها السياسة وغيرها. وعن أسباب الإقبال المفاجئ على المجموعة، يقول محدثنا إنه من المرجّح أن هؤلاء الأشخاص ملّوا في درجة أولى، وثانيًا وجدوا أمرًا يجمعهم، وثالثًا جميهم لديهم الرغبة في العودة إلى مرحلة الطفولة والمراهقة.
ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا!
بدوره، يشير النائب بالبرلمان ياسين العياري (وهو أيضًا عضو بالمجموعة)، في تصريح لـ"ألترا تونس"، إلى أسعد أيام الإنسان هي طفولته معتبرًا أن الحديث عن مسائل تتحدث عن الطفولة والذكريات من شأنها أن تبعد كل أنواع التوتر والضغط.
وأكد العياري أن هناك أشخاصًا لا يمكن أن يلتقوا أبدًا إلا أن هذه الذكريات تجمعهم فهي تعني زمن ما قبل التعصّب بعيدًا عن كلّ أنواع الضغط والتوتر. وأضاف أن التركيز في مجموعة "Ya Gdim" على ما يجمع أكثر من التركيز على ما يفرّق على غرار الضحك على أغنية قديمة نعرفها جميعًا.
ياسين العياري لـ"ألترا تونس": أي مزايدة أو توظيف أو استثمار لمجموعة "Ya Gdim" سيفسدها
وردًا على سؤالنا حول إمكانية تطوير المجموعة وتحويلها إلى لقاء قد يجمع بين أعضائها، عبّر محدثنا عن رفضه لهذا المقترح معتبرًا أن أي مزايدة أو توظيف أو استثمار لهذه المجموعة سيسيء إليها و"يفسدها".
في المقابل، تؤكد إيمان، إحدى العضوات النشطات في مجموعة "Ya Gdim"، لـ"ألترا تونس"، أن لقاء أو حفلًا يجمع أعضاء المجموعة سيكون بالنسبة إليها فرصة متميّزة للقاء أبناء جيلها، لافتة إلى أنه من الوارد أيضًا أن تعثر على أصدقاء فقدت أثرهم على امتداد سنوات. وتستدرك بالقول إن تفاصيل إقامة الحفل، أو "البوم"، في إشارة إلى الحفلات التي كانت تقام بين المراهقين في فترة الثمانينيات والتسعينيات، ومكانه، مسألة مهمة جدًا بالنسبة لها مع التزاماتها اليوم.
وتبيّن محدثتنا أنها اكتشفت المجموعة صدفة من خلال تعليقات بعض الأصدقاء، لتقوم إثر ذلك بإرسال طلب للانضمام إليها فكان الأمر شبيهًا بدخولها كبسولة الزمن والعودة إلى أفضل الفترات في حياتها، على حدّ قولها. وتضيف "كم هائل من الذكريات تعود إليك في لحظة من الزمن وتطلق بك العنان للخوض في خبايا دفترك".
إيمان (عضو بمجموعة "Ya Gdim") لـ"ألترا تونس": المجموعة أصبحت ملجأ لي وسط ازدحام يومي فأصبحت أقاوم من خلالها ضغط العمل وإرهاق الجسد
وتؤكد أن "الجيل الذهبي" هو جيل محظوظ عاش ثراء اجتماعيًا وثقافيًا كبيرًا بين مسلسلات وصور متحركة وأغان وألعاب حرمت منها الأجيال التي تلته واندثر الكثير منها، موضحة أن مجموعة "Ya Gdim" أصبحت ملجأ لها وسط ازدحام يومها فأصبحت تقاوم من خلالها ضغط العمل وإرهاق الجسد.
وتختم بالقول "كم جميل أن تكتشف أنك ما زلت تحافظ على ذلك الطفل الصغير داخلك، طفل وإن لم ينشأ في رغد العيش بل في ظروف معيشية صعبة بالنسبة لي، إلا أنه تشبّع باللهو واللعب والضحك، على عكس ما يعيشه أبنائي اليوم الذين يفتقدون للحظة انتشاء بكل عفوية وبساطة".
أثارت مجموعة "Ya Gdim" جدلًا واسعًا وأسالت كثيرًا من الحبر، إلا أنها أيقظت موجة من الذكريات التي كانت محفوظة في أدراج ذاكرة جمعية تمسّ فئات واسعة ومتنوعة من المجتمع التونسي من مشارب واتجاهات فكرية وسياسية وإيديولوجية، لكن توحّد بينهم طفولة ومراهقة متشابهة في ملامحها إلى درجة تنمحي معها كل الخلافات والاختلافات التي ولدتها الظروف السياسية والاجتماعية وغيرها.
اقرأ/ي أيضًا:
الأمازيغ في تونس.. استعادة للموروث الثقافي ومطالبة بدعم الدولة
عودة برنامج تعليم الكبار.. كبار السن إلى مقاعد الدراسة مجددًا