13-أبريل-2021

دعوة لإقرار 26 من جانفي يومًا وطنيًّا للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة (صفحة فيسبوك منسيناش 26 جانفي)

 

شاشة تعرض الفيلم الوثائقي "عالبار" الذي يسترجع حقبة زمنية من الذاكرة الوطنيّة يقلّ الحديث عنها، وسط جمع من الوجوه النقابيّة العمّالية من أجيال مختلفة، فيهم من جاء به فضوله ليكتشف خفايا يومٍ طالما سمع عنه ولكنّه يجهل تفاصيله، وفيهم من جاء يسترجع ذكريات ملحميّة تؤرّخ لشباب أمضاه في النضال ورفع فيه شعار المقاومة.

هكذا كانت الأجواء في قاعة الندوات بجامعة جندوبة التي احتضنت مؤخّرًا تظاهرة "ما نسيناش 26 جانفي" بالشراكة مع الاتحاد الجهوي للشغل بجندوبة وجمعية تنمية السينما بجندوبة ضمن سلسلة من العروض التي انطلقت من ولاية بنزرت وأجّلت أغلبها بسبب الوضع الوبائي في البلاد.

مراوحة بين اللعبة السياسية واللعبة الكرويّة جعلت الحاضرين يغوصون في تفاصيل "الخميس الأسود". وعلى امتداد 96 دقيقة تتغيّر الحالة النفسية للمشاهدين ما بين فرحة وخيبة أمل، بين تذمّر ونقد وتنهيدات لا تنقطع.

تضمن الفيلم الوثائقي "عالبار" مراوحة بين اللعبة السياسية واللعبة الكرويّة جعلت الحاضرين يغوصون على امتداد 96 دقيقة في تفاصيل ما صار يعرف بـ "الخميس الأسود"

"الترا تونس" عاش الفيلم على وقع أنفاس العم يوسف، رصد تغيّرات ملامحه على امتداد مدّة العرض، لامس إحساسه بالفخر تارة وبالألم تارة أخرى. كيف لا وقد عايش كلّ هذه الأحداث أيّام كان شابًّا؟

تجدون في هذا التقرير تفاصيل هذه الحقبة الزمنيّة في جهة جندوبة، والدعوة إلى أن يكون 26 من جانفي/ يناير من كل سنة يومًا وطنيًّا للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة.

  • يوسف خميري: "إن كنّا مخلصين للشهداء، فيجب أن نخلّد ذكراهم"

"شيئان في بلدي قد خيّبا أملي: الصدق في القول والإخلاص في العمل" هكذا استهلّ النّقابي يوسف بن علي خميري حديثه لـ"ألترا تونس"، بكلمات خالدة لشاعر الحريّة منوّر صمادح. العم يوسف، كما يحلو لأبناء جهة جندوبة مناداته، من أشهر الوجوه النقابيّة لمنطقة "سوق الأربعاء" حيث بدأ نشاطه منذ سنة 1973.

ترعرع يوسف بن علي في نفس "دوّار" الأمين العام للحزب الشيوعي التونسي آنذاك محمد النافع السعيدي، وهو ما غذّى حبّه للنضال. ويسترجع ذكريات انطلاقة مسيرته النضاليّة قائلًا: "كان عمري عشر سنوات عندما أقيمت أوّل انتخابات برلمانيّة سنة 1959. وكان الحزب الدستوري والحرس الوطني يتجسّسان على السعيدي، فكان يرسلنا لطردهم وضربهم بالحجارة، ومن هنا وُلدت داخلي رغبة المقاومة بالإضافة إلى انتمائي الطبقي والعائلي، فأنا ابن عائلة تفلح الأرض لتعيش".

عرض فيلم "عالبار" لسامي التليلي في جندوبة (صفحة "ما نسيناش 26 جانفي" على موقع التواصل "فيسبوك")

 

انتظم العم يوسف سياسيًا داخل حزب الشعلة، وأكد أنّه تنظيم يختلف عن المشاريع السابقة التي طرحها اليسار وأنّه المشروع الوطني الديمقراطي الذي كانوا ينتظرون أن يجمع الشعب التونسي المؤمن بتحقيق السيادة الوطنية والاستقلال الحقيقي والعدل الاجتماعي. وكان هذا البديل الذي حمله بين أضلعه وسعى لتحقيق أهدافه مع رفقاء مسيرته. حديثه عن حزب الشعلة كان يرفقه الأسى والحسرة، خاصّة وأنّ ندوب هذا الانتماء ما زالت عالقة بجسده الذي وقع تعذيبه.

وفي حديثه عن تفاصيل أوّل إضراب عام في البلاد التونسيّة قال العم يوسف: "قبل 26 جانفي/يناير كان مكتب الاتحاد الجهوي لجندوبة رافضًا للإضراب، وحاول إفشال كلّ شيء. فقامت مجموعة من الشباب والناشطين ومعهم أجزاء من اليسار التقدمي بالحثّ على إنجاح الإضراب فانتشروا في الضيعات الفلاحية والمعامل، دافعين لضرورة الإضراب العام إلى حدود ليلة 26 جانفي".

اقرأ/ي أيضًا: تاريخ الإضرابات العامة في تونس.. من الخميس الأسود إلى إضراب الوظيفة العمومية

أمضى النقابيون ليلتهم في مقر الاتحاد وهيّؤوا برنامجًا كاملًا حول كيفيّة تنظيم المسيرات والتظاهرات والتخطيط لمكان الانطلاق، مسار التحرّكات وكيفية مواجهة المليشيات.

حديث الذاكرة فيه سحر لا يوصف، حاول فيه محدّثنا ألّا يُغفل أيّ تفصيل أو جزئيّة تتعلّق بهذا الحدث، إذ تذكّر التحاق المناضل نور الدين الورغي للمجموعة عند الساعة التاسعة ليلًا والذي قدم من تونس حاملًا معه وثائق مهمة تساعدهم ليكون التحرّك أكثر تنظيمًا.

يوسف بن علي خميري لـ"الترا تونس": مشاهد رهيبة لا تغيب عن ذاكرتي، جرحى وتوقيفات ودماء متناثرة حفرت في ذهني. أذكر خاصّة المليشيات الذين كانوا حاضرين "بالقشاشب" و"الدبابيس" وعنّفوا المتظاهرين

صبيحة يوم الإضراب العام، كان الانطلاق الرئيسي من "معمل الياجور" بجندوبة وانضمّ إليهم مواطنون من بعض الأحياء المجاورة ومن الضيعات الفلاحية. في الطريق إلى وسط المدينة اعترضتهم الدبّابات وبدأت الصدامات التي تحدّث عنها يوسف بن علي بكلّ ألم: "فور وصولنا وسط المدينة بدأت المواجهات. مشاهد رهيبة لا تغيب عن ذاكرتي، جرحى وتوقيفات ودماء متناثرة حفرت في ذهني. أذكر خاصّة المليشيات الذين كانوا حاضرين "بالقشاشب" و"الدبابيس" وعنّفوا المتظاهرين...".

تظاهرة "ما نسيناش 26 جانفي" بقاعة الندوات بجامعة جندوبة (إيمان السكوحي/الترا تونس)

سكت العم يوسف برهة وتساءل: "عندما أتذكّر الشهداء والعمال وعديد الأسماء التي قُبرت ولم تُذكر، لا أعرف إن كنّا اليوم ما زلنا مُخلصين لهم أم لا؟ إذا كنّا نحن النقابيون مخلصين ونريد من الذاكرة الوطنية أن تحفظ التاريخ الحقيقيّ، وجب أن نقدّم اعترافًا للشهداء ونجعل من هذا اليوم عيدًا وطنيًا".

  • دعوة لإقرار 26 جانفي يومًا وطنيًّا للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة

وقال الكاتب العام للاتحاد الجهوي بجندوبة خالد العبيدي من جهة أخرى إنّ الهدف من هذه التظاهرة، إحياء هذه الذكرى ليقف الشباب النقابي والحقوقي وشباب تونس الذي لم يعش تلك المرحلة على حيثيات هذا الحدث بصفة جليّة، ويكتشف حقيقة هذا التاريخ، سواءً من حيث الأسباب والدوافع أوالنتائج، على حد تعبيره.

وأكد العبيدي أنّ في هذا التاريخ وقع اغتيال العمّال بالرصاص وسجن عديد القيادات النقابية وأطردت أخرى من العمل، ووُضع الأمين العام للاتحاد الحبيب عاشور في الإقامة الجبريّة، مضيفًا: "هذا حدثٌ هام وكبير، ولا بدّ أن نؤرّخ له من أجل تخليده. لذلك أردنا أن نقوم بحملة داخل الاتحاد بالشراكة مع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية و"دوك هاوس" من أجل دفع التونسيات والتونسيين إلى التوقيع على عريضة تطالب بإقرار يوم 26 جانفي/يناير من كل سنة يومًا وطنيًا للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وهذه العريضة الآن بصدد الإعداد من طرف المنظمات المشاركة بقيادة الاتحاد".

  • السينما لتوثيق الذاكرة الجماعية

جمعيّة تنمية السينما بجندوبة كانت من ضمن الحاضرين في تنظيم هذه التظاهرة، وأكّد رئيس الجمعيّة شكري المديوني أنّ تظاهرة "ما نسيناش 26 جانفي" حدث يحمل وجهًا ثقافيًا وفنيًا ووجهًا ثانيًا يحمل الذاكرة الجماعية، مضيفًا أنّها محطّة تاريخية لم يقع التطرق إليها وتكاد أن تكون غائبة عن ذاكرة التونسيين، على حدّ قوله.

رئيس جمعية تنمية السينما بجندوبة لـ"الترا تونس": المخرج سامي التليلي استطاع بذكائه تصوير فترة أحداث "الخميس الأسود" من زاوية نظر فنية، وكل من يشاهد الشريط سيجد فيه جزءًا منه سواءً كان مرتبطًا بتاريخه أو أفكاره أو زاوية نظره لتلك الفترة التاريخية

وقال المديوني، الذي كان طفلًا صغيرًا بعدُ عندما وقعت أحداث "الخميس الأسود": "هذا التاريخ أثّر في جميع العائلات التونسية لأنّها كانت ردّة فعل لواقع عايشوه بتراكماته. وقتها كنتُ صغيرًا ولم يكن لديّ الوعي الكافي لتفكيك رموز الواقع، ولكنّي كنتُ أحسّ بأنّ الوضع غير طبيعيّ، وكنتُ أرصد حركات أبي وخالي اللذين كانا يمتنعان عن الكلام عند دخولي. وحتّى أختي كانت ضمن المجموعة التي سجنت في مجموعة جريدة الشعب السريّة ولم أكتشف الأمر إلّا في السنوات الأخيرة".

وفي حديثه عن فيلم "عالبار" الذي وقع عرضه خلال التظاهرة، قال المديوني إنّ المخرج سامي التليلي شجاع ويتمتّع بحسّ فنيّ كبير واستطاع بذكائه تصوير تلك الفترة والحديث عنها من زاوية نظر فنية، خاصة وأنّ كل من يشاهد الشريط سيجد فيه جزءًا منه سواءً كان مرتبطًا بتاريخه أو أفكاره أو زاوية نظره لتلك الفترة التاريخية، على حدّ تعبيره.

 فيلم "عالبار" من إخراج سامي التليلي (صفحة فيسبوك Mansinech 26 janvier ما نسيناش 26 جانفي)

وأضاف رئيس جمعيّة تنمية السينما: "التليلي اختار خطًا دراميًا وفنيًا حسب وجهة نظره وتجاوز الإملاءات. وقد وثّق مع كل المتدخلين الذين عاشوا تلك الفترة وأثّروا فيها من قريب أو بعيد ولكنّه في النهاية هو الذي اختار الزاوية ووجهة النظر. هناك حدثان يتطوّران بالتوازي: الكرة والسياسة من جهة، والنقابة في خطّ آخر، وهذا ذكاء المخرج في تناول الموضوع بطريقة سلسة ودقيقة وصعبة ليستطيع إيصال الفكرة" وفق قوله.

فصول رواية "الخميس الأسود" ما زالت غامضة التفاصيل، ورغم انقضاء 43 عامًا عن هذه الفترة إلّا أنّ خباياها مدفونة في الدفاتر السريّة للنظام البورقيبي

وأكّد المديوني على دور الثقافة والفن في إبراز ما يتعلّق بحياة الناس سواءً من قريب أو من بعيد. وختم حديثه قائلًا: "هذه المحطة التاريخية هي محطة مفصليّة، وحدث مهمّ للشعب التونسي وللقوى الفاعلة بمختلف فئاتها العمالية والنقابية والمثقفة. وسيقع توزيع عرائض ونص موحّد لجميع الجهات ليقع إدراج هذا اليوم كعيد وطني".

جمعيّة تنمية السينما هي حاليًا بصدد التحضير للدورة الاستثنائية لمهرجان الوثائقيات "القنطرة دوك" وأيضًا لملتقى التقارب بين الثقافة والدين بالشراكة مع وزارة الشؤون الدينية والتي ستكون دورتها الأولى مع نهاية السنة.

فصول رواية "الخميس الأسود" ما زالت غامضة التفاصيل، ورغم انقضاء 43 عامًا عن هذه الفترة إلّا أنّ خباياها مدفونة في الدفاتر السريّة للنظام البورقيبيّ.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عن السينما التونسية وملاحم الذاكرة الوطنية

"فوّهة الحنجرة".. البعد الفني للمقاومة المسلحة زمن الاستعمار