في رواية "سعادته... السّيد الوزير" لحسين الواد، يصف الوزير، لسان الرّاوي، ابن خالته رئيس الوزراء: "ابن خالتي كائن زئبقي". ثم متحدّثًا عن زملائه في مرافعته أمام القاضي في الرواية: "لم يكن نظرائي أولئك الوزراء أغبياء أو تافهين حمقى فقط مثلما كنت قد تصورت. كانت وراء كلّ منهم قوة تنتفع منه وتسنده".
يعود قران السّياسة والرياضة في تونس إلى سنوات طويلة مضت ومنذ الاستقلال إذ كان كبار مسؤولي الدولة والدوائر المضيّقة للحكم على رأس الجمعيات الرياضية، خاصة كرة القدم، كما هو الحال بالنسبة لباقي المجالات والقطاعات التي حرصت السلطة على تطويعها في سياق إيديولوجيا الهيمنة التي اتبعتها. مع الاضطراب السياسي الذي تشهده البلاد منذ الثورة، تطوّرت العلاقة إلى ما يشبه المساكنة إذ يتغير الأخلّاء باستمرار وحسب "موازين القوى"، وتعمّم منطق التوافقات ليزداد لعب الأيادي السياسية في مصير الألقاب وبطاقات الصعود والنزول في الرابطات ليظلّ شبح الشكوك مخيّمًا إثر كل مباراة. وفي إطار دمقرطة الحق في الفساد، وباتّساع الحلقة حول حفل شواء جلد الكرة، فاحت الرائحة وبلغت أنوف الجالسين على قمم الألب.
يعود قران السياسة والرياضة في تونس إلى سنوات طويلة مضت ومنذ الاستقلال إذ كان كبار مسؤولي الدولة والدوائر المضيّقة للحكم على رأس الجمعيات الرياضية، خاصة كرة القدم
الفيفا تحقّق والبي بي سي على الخط:
صدر مؤخّرًا، يوم 13 أفريل/نيسان 2021، تقرير عن هيئة الإذاعة البريطانية BBC يتناول آخر التطورات في كل من ملف هلال الشابة والجامعة التونسية لكرة القدم ومحكمة التحكيم الرياضي (تاس) من جهة، وملف الجامعة، منظمة "أنا يقظ" والفيفا من جهة أخرى. قبل تناول ما جاء في التقرير، فلنذكّر بشريط الأحداث.
في الأصل، تعاني كلّ الأندية الرياضية من صعوبات مالية زادت الجائحة طينها بلّة. ما أدّى إلى تخلّف النادي الرياضي بهلال الشابة عن تسديد واجباته المالية تجاه الجامعة التونسية لكرة القدم، ما ترتّب عنه خطايا تأخير فرضتها الجامعة. إلى حد الآن هذا عادي ومتواتر الحدوث بين الجامعة والأندية على غرار النادي الرياضي البنزرتي، النادي الإفريقي، الشبيبة الرياضيّة بالقيروان، النجم الساحلي، قرمبالية الرياضية...
لكن المثير للجدل هو حدّة الإجراءات المتخذة ضد نادي هلال الشابة الذي خاض منذ سنوات تجربة نجاح انتهت إلى حلوله بالمرتبة الثامنة في ترتيب بطولة موسم 2019- 2020. والسبب على ما يبدو حتى الآن هو خلاف شخصي أشبه بصراع الديَكة بين رئيس هلال الشابة توفيق المكشّر ورئيس الجامعة وديع الجريء، انطلق منذ مطلع العام 2020 بانتقادات وجّهها المكشّر للجريء حول الشفافيّة المالية للجامعة.
صدر مؤخرًا تقرير عن BBC تناول آخر التطورات في كل من ملف هلال الشابة والجامعة التونسية لكرة القدم ومحكمة التحكيم الرياضي (تاس) من جهة، وملف الجامعة ومنظمة "أنا يقظ" والفيفا من جهة أخرى
يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول 2020، دخل هذا الصراع منعرجًا حادًا بعد إصدار جامعة كرة القدم قرارًا استثنائيًا تأديبيًا يقضي بتجميد نشاط/إيقاف نادي هلال الشابة إثر عدم خلاص ديونه في الآجال المحدّدة، ما يعني حلّ النادي وتدحرجه إلى رابطة الهواة.
انطلقت إثر ذلك حرب كلامية، تدوينات فايسبوكية، تصريحات واتهامات للمكتب الجامعي الرياضي، وتظلّم نادي هلال الشابة لدى محكمة التحكيم الرياضي "التاس"، بعد رفض المحكمة الإدارية إيقاف القرار. كذلك قضت التاس هي الأخرى، يوم 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، برفض طلب هلال الشابة وقف تنفيذ قرار الجامعة على أن تستكمل تحقيقها في الموضوع.
اقرأ/ي أيضًا: الشابة.. أزمة رياضية تتحول إلى تنظيم رحلات من الهجرة غير النظامية
في الأثناء، كانت مدينة الشابة قد عرفت بين أكتوبر/تشرين الأول وديسمبر/كانون الأول 2020 موجة من الاحتجاجات الشعبيّة واستقالة رئيس البلدية وتنظيم محاولة هجرة جماعية في حركة رمزية احتجاجية، نفّذتها مجموعة من مكوّنات المشهد الرّياضي بالمدينة ومجموعة من أحبّاء النّادي، باستعمال مراكب صيد انطلقت من ميناء الصيد.
وفي انتظار عقد جلسة عامة للنوادي الرياضية للتصويت على قرار وقف النشاط، سبق ودعا لها رئيس الجامعة لم تنعقد إلى الآن رغم مضيّ حوالي 6 أشهر، تدور أطوار البطولة الحالية، موسم 2020 -2021، بوتيرة سريعة، معدّل 3 مباريات أسبوعيّة، ما يجعل فرضيّة التحاق الهلال بالبطولة مستحيلة حتى لو ربحت استئنافها أمام التاس المنتظر صدور قرارها في ماي/أيار القادم، وهو ما يضع النادي أمام سلطة "الأمر الواقع" وفق ما جاء في مقال بصحيفة لابراس بتاريخ 8 مارس/آذار 2021.
"هو فعلًا أمر غريب إذ لم يحدث أن عاشت البطولة التّونسيّة نسقًا سريعًا للمباريات كما يجري الآن". هكذا قال "سفيان"، أحد المشرفين على موقع التشكيلة الرّياضي، لـ"الترا تونس": "حتّى لو أنصفت التاس هلال الشابة، سيساهم ذلك في تعقيد الأوضاع أكثر. إذ هناك أطراف أخرى في المعادلة، على غرار الفرق الصّاعدة للرابطة الأولى كأمل حمام سوسة ونادي حمّام الأنف. لهذا، فالوضع الاستثنائي ربّما يتطلّب قرارات استثنائيّة وربّما يقع اللّجوء إلى التسويات والجلسات العامة لفض الإشكال. يبقى كلّ ذلك مجرّد فرضيات في انتظار قرار التاس".
بدأ خلاف رئيس هلال الشابة مع وديع الجريء إثر دعوته لفتح تدقيق مالي في حسابات الجامعة التونسية لكرة القدم عند اطلاعه على تقرير حول شؤونها الماليّة
عودة على جاء في تقرير البي بي سي، يصف توفيق المكشّر، رئيس نادي هلال الشّابة، رئيس الجامعة بـ "دكتاتور الرّياضة" ويقول إنّ تاريخ خلافه معه بدأ مع دعوته لفتح تدقيق مالي في حسابات الجامعة عند قراءته لتقرير حول شؤونها الماليّة (يقصد تقرير هيئة الرّقابة المالية العامة CGF لسنة 2018). شكّل هذا التقرير موضوع شكاية تقدّم بها نادي الشّابة لدى المحكمة الابتدائيّة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، على غرار شكاية أخرى تقدّمت بها منظّمة "أنا يقظ" منذ جوان/يونيو 2020 موضوعها: الإضرار بالإدارة وتحقيق فائدة للغير دون وجه حق. (تحفّظ أعضاء المنظمة عن التعليق نظرًا للتحقيق الجاري).
يتناول التقرير كذلك حيثيّات الشكاية التي تقدم بها الهلال المتمثّلة في اتهامات لمكتب الجامعة بـ"تزوير" المراسلة وتعمّد مغالطة التاس عبر تعمّد ترجمة كلمة "إيقاف" إلى مرادف "إيقاف عن النشاط" بالفرنسية، خلاف ما جاء في نص قرار الجامعة، في محاولة من أعضاء المكتب الجامعي إخفاء خطأ إجرائي حيث تقتضي إجراءات الإيقاف، وفق القانون عقد جلسة عامة قبل إصدار قرار مشابه. وبما أنّ الجلسة العامة لم تعقد، فلا يمكن للجامعة إيقاف نادي هلال الشّابة.
تجدر الإشارة إلى أنّ وديع الجريء كذّب هذه الاتهامات ورفضها في أكثر من ظهور إعلامي (كظهوره في برنامج 50/50 بتاريخ 5 أفريل/نيسان 2021). بالإضافة إلى اتهامات بالتهرّب الجبائي ومغالطة مصلحة الضرائب.
دخل الصراع بين رئيس هلال الشابة والجريء منعرجًا حادًا بعد إصدار جامعة كرة القدم قرارًا استثنائيًا تأديبيًا يقضي بتجميد نشاط نادي هلال الشابة إثر عدم خلاص ديونه في الآجال المحدّدة
أخيرًا وأهمّ ما جاء في التقرير هو الإشارة إلى انطلاق تحقيق تقوده الفيفا منذ فيفري/شباط 2021 والذي لا يزال جاريًا إلى حدود الساعة وفق ما جاء في التقرير على لسان الناطق باسم لجنة الأخلاق بالفيفا. وبانتظار نتائج هذا التحقيق، يبقى التساؤل قائمًا حول تأثيرات هذا التحقيق على الساحة الكروية في تونس.
"الدكتاتور الجريء" والبحث عن زمن "العلمانية الرياضية":
في فيديو على قناته بعنوان "سيستام الجريء: سياسة، أعمال وإعلام تحت الطّلب"، يصف أيضًا الصحفي الرّياضي رومان مالينا الذي ينشر عادة مع الغادريان، البي بي سي والسي أن أن، رئيس الجامعة التّونسيّة وديع الجريء بـ"الدكتاتور". كان مولينا ينتظر أن يتناظر في برنامج 50/50 مع الجريء، إثر ترتيب مسبق من معدّي البرنامج، لكن لم يقع ذلك واكتفى المعدّون بعرض جزء من فيديو سابق له، ما دفعه للتساؤل عن خلفيّات تراجع هؤلاء عن الاتصال به، فضلًا عن أسباب رفض الجريء التّناظر معه؟ وفق ما جاء في الفيديو، يرى مولينا أنّ الجريء يستند في عمله على ثلاثة أساسات هي: السّياسة، المال والإعلام، ليصفه أيضًا بـ "سياسي قوي جدًّا"، في إشارة إلى شبكة من العلاقات الواسعة تمثّل "الخدمات" شيفرة التّعامل بين أفرادها.
"الإجرام والضبابية موجودة في كل الفيدراليات عبر العالم. المشكل ليس تونسيًا، ولا إفريقيًا، هو عالمي. مثلًا منذ أيّام، في جمهوريّة التّشيك، وقع ضبط 19 موقوفًا، وصولًا إلى نائب رئيس الجامعة التشيكيّة، على علاقة بشبهة تلاعب بالرهان الرّياضي. هذا دون ذكر حالات أخرى عديدة في آسيا، تتغاضى عنها كلّ من الفيفا والرابطة الآسيوية." هكذا صرّح مولينا لـ"الترا تونس".
الصحفي الرياضي رومان مولينا لـ"الترا تونس": الإجرام والضبابية موجودة في كل الفيدراليات عبر العالم. المشكل ليس تونسيًا، ولا إفريقيًا، هو عالمي
وأضاف: "انتظار تحقيق الفيفا يبقى في حكم المجهول. لكن يمكن للسلط التونسية فتح تحقيق والقيام بما يلزم". في هذا المستوى، يجيد الدكتور اللعب على الأوتار أو "التّزأبُق". تفرض قوانين الفيفا ثوب العلمانية الرياضية على ساكني المربّع الأخضر: "فصل السّياسة عن الرّياضة."
لكن في كلّ مرّة تتوجّه أصابع الاتهام نحو الجامعة والمكتب الجامعي، ومع حمّى الشعبوية السياسية التي تضرب البلاد، إلا ويشهر وديع الجريء فيتو الفيفا التي قد تحرم المنتخب الوطني من المشاركة في المسابقات الرياضية ما قد يشكّل أزمة سياسيّة قد تكون أقرب لانتفاضة الخبز.
اقرأ/ي أيضًا: الرياضة التونسية في 2020.. حرج وهرج وتألق أنس جابر
من يجرأ على تحمّل هذه التكلفة التي قد تمسّ "اللحمة الحيّة"، كما عنون الشاعر صالح القرمادي سيرته الذاتية؟ يبقى السؤال مفتوحًا في ظلّ المنظومة البرلسكونيّة (والبورقيبيّة أيضًا) التي يعتمدها بعض السياسيين التونسيين: قبعة رياضية برئاسة فريق أو عضوية مكتب تنفيذي، وقبعة سياسية بنيابة برلمانية أو منصب سياسي.
رومان مورينا لـ"الترا تونس": انتظار تحقيق الفيفا يبقى في حكم المجهول. لكن يمكن للسلط التونسية فتح تحقيق والقيام بما يلزم
للإشارة، نذكّر بمشاركة رئيس الجامعة وديع الجريء، موضوع التقرير، في الحملة الانتخابيّة الرئاسيّة ليوسف الشّاهد في أكثر من مناسبة.
أخيرًا، الرّهان الرّياضي. عند سؤالنا: "هل يوجد رابط وثيق بين المكتب الجامعي وقضيّة التّلاعب بالمباريات لتحقيق أرباح عن طريق الرّهان الرّياضي؟" أجاب رومان مولينا كالآتي: "يوجد رابط أكثر من وثيق، أؤكّد لك ذلك".
فيما يشبه الغرغرينا الّتي بدأت تنتشر في الجسم الكروي التّونسي، وعلى غرار قضيّة لا تزال أمام أنظار القضاء الفرنسي منذ أفريل/نيسان 2018 حول رهان رياضي على نتيجة مباراة بين اتحاد بن قردان ونجم المتلوي، رفضت مؤخّرًا الهيئة المشرفة على قطاع الرّهان الرّياضي في فرنسا (Autorité Nationale des Jeux Françaises) اعتماد نتيجة مباراة اتحاد بن قردان، مرة أخرى، والملعب التّونسي ليوم 7 أفريل/نيسان 2021. كذلك، علّقت الجامعة التّونسيّة المصادقة على نتيجة مباراة مستقبل المحمديّة والنجم الرّادسي الّتي انتهت بالتّعادل 7 أهداف لكليْ الطّرفين.
في كل مرّة تتجه فيها أصابع الاتهام نحو الجامعة، ومع حمّى الشعبوية السياسية التي تضرب البلاد، إلا ويشهر الجريء فيتو الفيفا التي قد تحرم المنتخب الوطني من المشاركة في المسابقات الرياضية
أيضًا، تجدر الإشارة إلى إلغاء شركات الرّهان الرّياضي لنتائج مباراة اتحاد بن قردان، مرّة أخرى، والشّبيبة القيروانية ليوم 3 أفريل/نيسان 2021. عرضًا، نشير إلى وجود علاقات قرابة دمويّة تجمع أحد المشرفين على إدارة نادي بن قردان وأحد أعضاء مكتب الجامعة الّتي نادت بفتح تحقيق في الغرض (كالعادة).
في النّهاية، نتساءل استنكارًا ماذا بقي من قول الفيلسوف السيزيفي ألبير كامي: "القليل الذي أعلمه من الأخلاق، تعلّمته في ملاعب كرة القدم وبين عتبات المسارح: هذه هي المسارح الحقيقيّة." غادر كامي حاملًا أخلاقه إلى عدمه تاركًا كرته تلقى المصير التّاريخي الذي ناضل الماركسيون ضدّه: أحضان الأغنياء.
اقرأ/ي أيضًا: