كشف المبحث التاريخي عن موضوع الرسم العقاري 6648 أو ما يطلق عليه بـ"هنشير النفيضة"، الذي أعددناه قبل زهاء سنة في "ألترا تونس"، عديد الحقائق عن تحول ملكية أراضي شاسعة إلى شركة استعمارية ما كان سببًا مباشرًا في دخول المستعمر الفرنسي للإيالة التونسية، كما كشف تقريرنا الذي أنجزناه تحت عنوان "الرسم العقاري 6648..هنشير النفيضة غنيمة الدولة عبر العصور" عن تشتت ملكية هذا العقار وعدم تسوية وضعيته وضعف إدماجه في الدورة الإنتاجية والفلاحية بتونس.
ولمزيد معرفة الإشكاليات وتقصي الحلول حول هذا الرسم العقاري التابع إلى ولاية سوسة ومآلاته وكيفية التصرّف فيه من طرف الدولة والخواص، واصلنا بحثنا عن معلومات وإحصائيات هي ثمرة تجميع من عدة إدارات تونسية تتدخل مباشرة في الاستغلال العقاري والتصرف فيه من بينها بالخصوص وزارة الفلاحة والموارد المائية، ووزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية، واللجان الجهوية للتسوية العقارية بولاية سوسة وغير ذلك من الجهات المتدخلة.
-
عقار شاسع يمتد على 5 معتمديات
يمتد الرسم العقاري 6648 على مساحة هامة من ولاية سوسة، إذ يتوزع على أهم معتمدياتها وهي بوفيشة، والنفيضة، وكندار، وسيدي بوعلي والقلعة الكبرى ليضم عديد العقارات ذات الصبغة المتنوعة: غابية، وفلاحية، ورعوية، وسكنية مشمولة أو غير مشمولة بأمثلة التهيئة العمرانية، كما أن هناك مقاسم توجد داخل الحدود البلدية.
وكانت تعود الملكية الأصلية للعقار إلى الشركة الفلاحية العقارية الفرنسية الإفريقية بمساحة جملية تبلغ 92500 هكتار (37آر 72ص) سنة 1901. وسُجّل العقار سنة 1964 بدفاتر الملكية العقارية باسم ملك الدولة الخاص، وقد تبين أن مساحته تقلصت تبعًا لعديد العمليات العقارية التي أفرزت رسوم عقارية جديدة منها الرسم "58638 سوسة" و"61939 سوسة" لتبلغ حاليًا 31824 هكتار (48 آر 17 ص)، وقد تم تعريبه لكي يحمل عـدد "104313 سوسة".
يمتد الرسم العقاري 6648 على مساحة هامة من ولاية سوسة ويتوزع على معتمديات بوفيشة، والنفيضة، وكندار، وسيدي بوعلي والقلعة الكبرى
وتعتبر مساهمة الرسم العقاري 6648 هامة في عديد المجالات بتخصيص مساحات منه لفائدة مشاريع صناعية مثل "الشركة العالمية للورق" بالنفيضة، وهو يمثل رصيدًا عقاريًا هامًا على ذمة الدولة لإحداث عديد المشاريع الاستثمارية.
وتم التفويت في رصيد عقاري هام لكل من بلديات النفيضة، وبوفيشة، والشركة العقارية للسكنى والوكالة العقارية للسكنى لغاية استغلالها في تهيئة أحياء سكنية، كما ثبث الاستيلاء على عديد المساحات، مع الإشارة لوجود مساحات أخرى مصنفة كغابات وأخرى كمناطق رطبة. وتم تخصيص 1906 هكتار (90 آر 05ص) لإعداد 41 تجمع سكني مع إحالة 21 تجمع على مساحة 826 هكتار (63 آر 13 ص) لفائدة المجلس الجهوي وهي بصدد التسوية، مع تخصيص 4727 هكتار (17آر 00 ص) كأراضي دولية فلاحية تحت تصرف المركب الفلاحي تبعًا لقرار وزير الفلاحة بتاريخ 30 مارس/آذار 1980.
-
الرسم العقاري 6648 والمجال الفلاحي
مكنت الدولة عديد الأشخاص من استغلال جزء هام من الرسم العقاري 6648 بموجب عقود تفويت سُويت وضعية البعض منها لدى الملكية العقارية، وأخرى لم يتحصل أصحابها بعد على شهـادة رفع اليد أو عقد توضيحي، وظل البعض بدون عقود إسناد، فيما يتصرف البعض الآخر بمقتضى عقود مغارسات. كما أن هناك فئة تتصرف بعقود كراء وأخرى بدون صفة. ويوجد، في المقابل، رصيد عقاري هام في تصرف الغابات وآخر مخصص لفائدة المركب الفلاحي بالنفيضة.
المساحات التابعة للرسم العقاري 6648 المفوتة بعقود حسب قانون 19 ماي/أيار 1970 المتعلق بضبط كيفية التفويت في الأراضي الدولية الفلاحية توزعت على معتمديات بوفيشة والنفيضة وكندار، وبلغت المساحة الجملية 15237.9676 هكتار وذلك بموجب 1235 عقد مع وجود 456 ملف في مرحلة الكتب التوضيحي وشهادة الخلاص وشهادة رفع اليد، و779 لم يتم تقديم مطالب من طرف المنتفعين في شأنها.
ومن أهم الإشكاليات الناتجة عن هذا التفويت بموجب هذه العقود هو عدم خلاص ثمن العقار من طرف المنتفع بالتفويت، وتزايد عدد الورثة والشركاء ما يترتب عنه عديد المشاكل، والتفويت في العقار خلال مدة الرقابة الإدارية مما انجر عنه إسقاط حق المنتفع وإهمال العقار. ومن الإشكاليات أيضًا الكلفة الباهضة التي يستوجبها إعداد مشروع التقسيم والإجراءات الإدارية المعقدة والطويلة قصد الحصول على شهادة ملكية. كما تستوجب مطالب التحيين ومطالب التسجيل فترة طويلة وتكاليف باهضة ترهق المواطن. وجميع هذه الإشكاليات تفرض اليوم الدفع نحو التسريع في الإجراءات الإدارية بين وزارة أملاك الدولة وإدارة الملكية العقارية قصد الحصول على شهائد ملكية بما يمكّن المنتفعين من الحصول على قروض بنكية قصد إحداث مشاريع.
-
تعطيلات في تسوية وضعية المستغلين
وقع تحجير التفويت لفائدة الخواص بصدور القانون عدد 21 لسنة 1995 المؤرخ في 13 فيفري/فبراير 1995 المتعلق بالعقارات الدولية الفلاحية إلا أنه بعد 14 جانفي/كانون الثاني 2011، صدر الأمر عدد 3336 الصادر في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2011 ثم الأمر عدد 1870 الصادر في 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 والمتعلق بتسوية وضعية المستغلين بصفة قانونية لأراضي دولية فلاحية من طرف اللجنة الجهوية الاستشارية المحدثة بمقتضى هذا الأمر.
تشكو المقاسم في هنشير النفيضة من ضعف الإنتاج بسبب ضعف الاستثمار الناتج عن عدم وجود عقود ملكية لدى المستغلين
ووافقت اللجنة الجهوية الاستشارية على 100 ملف بمساحة 615 هكتار منها 76 ملف يتبع الرسم العقاري عدد 6648، كما تمت المصادقة من طرف وزيريْ أملاك الدولة والشؤون العقارية والفلاحة والموارد المائية والصيد البحري لفائدة 45 منتفعًا، 35 منهم في علاقة بالرسم العقاري 6648 وذلك عن طريق عقود بيع بالمراكنة (اُنجزت 5 عقود). وقد قاربت المساحة القابلة للتسوية بالرسم 6648 ثلث المساحة الجملية القابلة للتسوية بكامل ولاية سوسة والمقدرة بـ 13000 هكتار.
ومن أهم الإشكالات التي برزت ضمن تسوية وضعية المستغلين بدون عقود إسناد حسب أمر عام 2015 هو عزوف المنتفعين عن تسوية وضعيتهم، وتواجد عقارات شملتها الحوزة العقارية في مشروع ميناء المياه العميقة ومنطقة الخدمات اللوجستيّة بالنفيضة، كما تم التفويت في العقار أو في جزء منه بالبيع بما يحول دون تسوية الوضعية. وبالتالي، لا يمكن إدماج العقار في الدورة الاقتصادية، كما تشكو هذه المقاسم من ضعف الإنتاج بسبب ضعف الاستثمار الناتج عن عدم وجود عقود ملكية لدى المستغلين.
-
المغارسات والأراضي الدولية في الرسم العقاري
يبلغ مجموع المغارسات التابعة للرسم العقاري 6648، 189 عقد مغارسة، لكن تشهد المغارسات عزوفًا من المنتفعين لتسوية وضعيتهم بسبب المصاريف المنجرّة عن القيام بتقسيم يحدد العقار المفوت لفائدته وباقي الوثائق. كما يطالب المنتفعون بالرجوع في تطبيق أحكام 12 ماي 1964 على أراضيهم التي رجعت لملك الدولة الخاص والتي بيعت من طرف الشركة الإفريقية الفرنسية المالكة الأصلية للرسم 6648. و حسب ما توفر لدينا من تقارير، لم يصدر أمر إلى حد الآن يحدد طريقة ضبط الأثمان للمغارسات.
وبخصوص التسويغ في الأراضي الدولية الفلاحية موضوع الرسم المذكور، يبلغ عدد المتسوغين 281 متسوغًا على مجموع مساحة تبلغ 1286,7111 هكتار، غير أن أهم الإشكالات المترتبة عن تسويغ هذه الأراضي هي عزوف المتسوغين وبالخصوص بعض المتسوغين للعقارات الشاسعة على دفع معاليم الكراء السنوية مما انجر عنه قرارات إسقاط الحق، عدا عن عدم الاستغلال الأمثل للأراضي ما يؤدي إلى ضعف المردودية. وقد رفعت عديد المقترحات من بينها ضرورة مراجعة مقاييس الكراء وضبطها (اعتبار سن المتسوغ، مستوى تعليمه، حصوله على تكوين فلاحي)، وإعطاء الأولية لأبناء الجهة قصد توفير مواطن تشغيل، والتنسيق مع القباضة المالية لاستخلاص معاليم الكراء.
تشكو المناطق السقوية المحدثة على الأراضي الدولية الفلاحية في الرسم العقاري من قلة الاستغلال والتثمين
من جانب آخر، تشكو المناطق السقوية المحدثة على الأراضي الدولية الفلاحية في الرسم العقاري من قلة الاستغلال والتثمين لأسباب متعددة من بينها عقلية المستغلين ("ملك البيليك")، والنقص في الإرشاد الفلاحي، والوضعية العقارية التي تحول دون الاستغلال الفلاحي، وبالتالي عدم المحافظة على هذه المناطق مما يِؤدي الى سرقة تجهيزاتها. كما تتشدد البنوك في الحصول على شهائد ملكية دون أي تحمل (رهن – شرط سقوط الحق).
وفي المقابل، فإن شهائد التصرف وعقود البيع الإدارية غير مقبولة من طرف البنوك، وتجد اللجنة الفنية لإسناد الإمتيازات المنعقدة شهريًا بمقر المندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية صعوبة في الموافقة على المنح والقروض للمشاريع المبرمجة على الأراضي السقوية بعقود تفويت وبدون عقود (تسوية وضعية). كما أن عدم تثمين المستغلات الفلاحية بالمناطق السقوية نتج عنه عدم دفع معاليم استهلاك الماء مما أدى ببعض المجامع المائية إلي الإغلاق (مجمع هيشر و مجمع أولاد عبد الله).
-
المناطق الغابية والرعوية التابعة للرسم العقاري
تشهد المناطق الغابية عديد الإستيلاءات خاصة بعد الثورة ترتب عنها تدخل الإدارة في عديد من المناسبات باستصدار قرارات في الإخلاء منها:
- قرار إخلاء لعقار دولي فلاحي خاضع لنظام الغابات موضوع جزء من القطعة عدد 674 التابعة للرسم العقاري 6648 والكائن بتكرونة من معتمدية النفيضة بعد إحداث شخص مشروع سياحي ترفيهي حسب تقرير رسمي.
- قرار إخلاء لعقار دولي فلاحي كائن بمنطقة منزل فاتح من معتمدية النفيضة يمسح 10 هكتار تقريبًا خاضع لنظام الغابات بعد قيام مواطن بتقليع أشجار الأكاسيا وغراسة أصول زيتون.
وقد رفعت عديد التوصيات للحفاظ على الملك الغابي من بينها التسريع في إخضاع عديد المساحات حتى يتسنى لأعوان الضابطة العدلية تطبيق القانون عدد 20 لسنة 1988 الخاص بالنصوص التشريعية بمجلة الغابات وخاصة المتعلقة بالتصرف في الملك الخاص الخاضع لنظام الغابات.
-
التجمعات السكانية المقامة على الرسم العقاري
ارتفع عدد التجمعات السكانية المقامة على الرسم العقاري 6648 إلى 45 تجمعًا على مجموع مساحة تبلغ 1876.403 هكتار، وقد اُحدثت لجنة جهوية لتسوية الوضعيات العقارية للتجمعات السكنية المقامة على الرسم العقاري الدولي 6648 بقرار من والي سوسة تحت عدد 281 بتاريخ 17 أفريل/نيسان 2015. وتولّت هيئة فنية داخل هذه اللجنة من ضمن أعضائها ممثل عن المندوبية تعمل على القيام بالمعاينات الميدانية واقتراح حلول التسوية، وذلك بمعاينة 400 عقار وإنجاز 20 عقد بالإجراءات الجديدة وذلك إلى موفى 2017 زيادة على العقارات التي سُويّت وضعيتها بالإجراءات القديمة.
ضرورة ملحة لحلحلة الاشكاليات العالقة في الرسم العقاري 6648 لإدماج الأراضي الشاسعة في الدورة الاقتصادية والتنموية
غير أن العديد من الإشكاليات العالقة تعطل تسوية الوضعيات العقارية من بينها عدم إنجاز وزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية للكتائب التوضيحية اللازمة لتسجيل العقارات موضوع التسوية بدفاتر الملكية، وعزوف المواطن عن تسوية وضعيته إلا في حالات النزاع، والاستيلاء وعدم وضوح حدود القطع المحالة، وهو ما يحول دون تسوية وضعية بعض العقارات (الطرابلسية والمثاليث) وعدم مطابقة القطع المحالة لأمثلة التهيئة العمرانية أو غيابها بصفة كلية. كما تمت معاينة تداخل القطع المحالة مع القطع الدولية المستولى عليها من طرف المواطنين مع اتساع دائرة الاستيلاء لغياب الردع واستغلال حالة الفوضى خاصة بعد 2011.
بالنهاية، يساهم الرسم العقاري عدد 6648 الذي يمتد على خمس معتمديات في عديد القطاعات الفلاحية والسكنية والاستثمارية، ولكنه يشهد، رغم ذلك، موجة من الاستيلاءات والاعتداءات في عديد العقارات ذات الصبغة الفلاحية والغابية والسكانية والعمرانية، وهو ما يدعو إلى ضرورة ملحة لحلحلة الاشكاليات العالقة وإدماج هذه الأراضي الشاسعة بصفة فعالة في الدورة الاقتصادية والتنموية في البلاد.