لم يعد تقييم الأعمال الدرامية أمرًا متعلّقًا بفئة ضيّقة من النقّاد أو موضوعًا للنقاش في حلقات مغلقة أو محدودة. أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي للجميع فرصة التفاعل بشكل حيني أحيانًا مع ما يشاهدونه من أعمال ليغادر المشاهد موقع المتفرّج السلبي ليصبح متذوّقًا لما يُعرض أمامه، وذلك بغضّ النظر عن مدى اختصاصه. فأيّ عمل موجّه إلى الجمهور الواسع ينبغي أن يكون له صدى عند كلّ فرد من هذا الجمهور، ومن المشروع التعبير عنه مهما كانت أدوات هذا التعبير.
قد يكون للانفتاح على إنتاجات الساحة العربية والعالمية دور في تذكية هذه الذائقة، على أنّه ينبغي ألّا ننسى كذلك عامل الوفرة النسبية الطارئ على الأعمال الدرامية التونسية خلال شهر رمضان. منذ عقدين وأكثر، لم يكن لدينا خيار سوى مشاهدة مسلسل في خمسة عشرة حلقة على التلفزة الوطنية، دون أن تكون لنا إمكانية أن نفضّل عليه غيره.
يمكن القول عمومًا إنّ الجزء الثاني قد تميّز إلى حدّ كبير في تفاصيله الجزئية، غير أنّه اختار التضحية في سبيل ذلك ببنيته الكليّة
في رمضان هذه السنة، يمكن أن نلاحظ مع "نوبة 2: عشّاق الدنيا" للمخرج عبد الحميد بوشناق تنامي الحسّ النقدي للمشاهدين. كلّ من شاهد هذا العمل كوّن حوله رأيًا، الكثير من هذه الآراء تنشر، وتصبح موضوعًا للجدل. صحيح أنّ النقد قد ينحرف إلى تقديس أو تجريح وأنّ التعليقات قد تسير إلى التشنّج، لكنّ هذا لا ينفي بالمرّة الطابع الصحّي لهذه الظاهرة.
اقرأ/ي أيضًا: عبد الحميد بوشناق:"نوبة" حياتي.. وأمارس الفن وفق رؤيتي (حوار)
إنّ العمل الذي يحرّك الرأي العام بهذا القدر يحمل بالتأكيد عناصر تخالف المألوف، لعلّ أكثرها بداهة كونه يسائل مقولة الطابع العائلي للأعمال التلفزيونية الرمضانية. ليس "نوبة 2" أوّل عمل رمضاني يصوّر مشاهد عنيفة، غير أنّه يجعل هذا العنف من صميم الرؤية الفنيّة للعمل ذاته. يذكّرنا ذلك إلى حدّ ما بأعمال المخرج الأمريكي كوينتن تارنتينو التي يعتمد فيها على البطولات الجماعية والسرد غير الخطّي وإشاراته الثقافية الشعبية، ونلمح مثلًا نقاط تقاطع بين العمل التونسي وفيلم "حدث ذات مرّة في هوليود": يعود كلا العملين إلى فترة مرجعية أشبه بالعهد الذهبي، ويختلط الخيال بأحداث وشخصيات واقعية، وكلاهما عنيف إلى حدّ كبير في عدد من المشاهد.
في الجزء الأوّل من "نوبة"، شدّ العمل انتباه المشاهدين بتصويره الجيّد لأجواء التسعينيات وطرافة حواراته وتنوّع شخصياته وانفتاحه على عالم "المزود" في إطار سردي شيّق يدور حول أجواء العصابات في المدينة العتيقة ولا يخلو من الرومانسية. في الجزء الثاني، لم يكن لا الفصل ولا الوصل كاملين مع الجزء السابق. يمكن القول عمومًا إنّ الجزء الثاني قد تميّز إلى حدّ كبير في تفاصيله الجزئية، غير أنّه اختار التضحية في سبيل ذلك ببنيته الكليّة.
تميّز في الجزئيات
نجد في "نوبة 2" العديد من عوامل نجاح الجزء الأوّل. نلاحظ بشكل خاص أنّه قدّم لنا العديد من المشاهد المميّزة ومرّر عددًا من الإشارات الثقافية بشكل طريف للغاية، بأداء من طراز عال.
- مشاهد ولوحات مميّزة
يحتوي مسلسل "نوبة" في جزئه الثاني على عدد من المشاهد الّتي لا يمكن إلّا أن تعلق بالبال وتترك أثرًا في نفوس من يشاهدونها. تطول هذه المشاهد أحيانًا لتشكّل حلقة بأسرها، والمثال الأبرز على ذلك هو الحلقة 27 التي حملتنا مع "بابا الهادي" في رحلته بين الذاكرة والنسيان من خلال مواقف من الصعب أن تنسى: تيهه في أزقّة المدينة باحثًا عن داره قبل أن يلقاه وجدي، حبيبة وهي تطعمه كالطفل وهو ينكرها حينًا ويذكرها حينًا، الاحتفال الذي نُظّم على شرفه بحضور لطفي بوشناق إذ يغنّي من كلمات الهادي نفسه. تختصر هذه الحلقة رحلة عمر كامل، ونشرد معها ما وراء شخصيّة الهادي لنفكّر فيما يكونه الإنسان إذا ما مُحيت ذاكرته.
تختصر حلقة وفاة "بابا الهادي" رحلة عمر كامل
من المشاهد التي من الصعب أن تنسى، والتي أثارت بعض الجدل في الشبكات الاجتماعية، مشهد "الجنّة" في الحلقة الأخيرة. يقدّم هذا المشهد تصوّرًا طريفًا للغاية لفكرة الحياة بعد الموت، بشكل يتجاوز القوالب الجاهزة والأفكار المنمّطة، ليوفّر إحساسًا عاليًا بالسكينة. ما الجنّة إن لم تكن لقاء المرء مع من يحب في المكان الذي لا يرضى عنه بديلًا؟
المشاهد من هذه الطينة أكثر من أن تُحصى: عرس ماهر وحبيبة، تصالح ماهر ورضا، تصالح وجدي وماهر، وجدي إذ يعرض الزواج على فرح، كلّها مشاهد دغدغت انفعالات المتلقّي ودفعته لان يعيش معها فرحًا وحزنًا وخوفًا وأملًا.
- وفرة الإشارات الثقافية
قد ترتبط هذه الإشارات بتقاليد وممارسات كانت سائدة في المجتمع التونسي في فترة التسعينيات، كما قد ترتبط بأعمال ثقافية وحتّى بمقولات سياسية قديمة أو راهنة. كانت مثل هذه الإشارات موجودة منذ الجزء الأوّل، غير أنّه يبدو أنّها تطوّرت من ناحية الكمّ في الجزء الثاني منها ما يدخل في باب التكريم وردّ الاعتبار، ومنها ما يدخل في باب النقد.
اقرأ/ي أيضًا: "والله ما كادوني".. "النوبة" يعيد الحنين إلى مسرح الجنوب الخالد
التكريمات عديدة في "نوبة 2"، أخال أنّ العديد ممّن نشأوا على مشاهدة "الخطّاب على الباب"، العمل الفارق في الدراما التونسية في منتصف التسعينيات، تأثّروا حدّ الجذل وهم يشاهدون '"نعيمة الكحلة" تعود إلى الشاشة الصغيرة من باب "نوبة". أهديت العديد من الحلقات إلى فنّانين رحلوا عنّا منذ فترة قريبة مثل الهادي التونسي وفاطمة بوساحة. كما شاهدنا في عدّة مقاطع فنّانين اشتهروا في تلك الفترة منهم من ينتمي إلى عالم المزود (مثل هشام سلّام والتليلي القفصي) ومنهم من ينتمي إلى عالم الغناء "الكلاسيكي" التونسي (مثل عدنان الشوّاشي وعبد الوهاب الحنّاشي). تشكّل هذه الإشارات اعترافًا بفضل مبدعي هذه الفترة في تشكيل الوعي الثقافي لجيل كامل ومحاولة لنفض الغبار عنهم وانتشالهم من غياهب النسيان، وإن تضخّم عدد التكريمات بعض الشيء.
على أنّ إشارات أخرى يمكن أن تدخل في باب "الغمزات"، بما يعنيه ذلك من تسجيل لمواقف. يمكن أن نرى في مشهد "برينقا" وهو يصارع ثورًا يدعى "شورّب" ويتغلّب عليه رمزًا للمسلسل الرمضاني الحامل لنفس الاسم أو للممثّل الذي لعب دوره. عندما يقول الهادي "الله يسامح سمير"، لا يمكن أن نرى في ذلك إلا تعريضًا بالموسيقي سمير العقربي صاحب الموقف الرافض لـ"نوبة" في جزئها الأوّل. وتطال هذه الغمزات الراهن السياسي عندما يقول "برينقا": "الحاجة الثالثة نسيتها"، بما يتطابق مع تعبير المرشّح لرئاسيات 2019 عبد الكريم الزبيدي في حوار تلفزي شهير أثّر على حملته الانتخابية. وتمرّر مختلف هذه الغمزات بشكل أنيق وخفيف، فتترك رسالتها دون أن تسقط في التجريح.
- قدرات تمثيلية هائلة
إذا لاحظنا في "نوبة 1" الأداء الحسن لممثّلين لم يكن الجمهور التونسي يعرفهم بشكل جيّد مثل بلال البريكي وعزيز الجبالي وأميرة الشبلي وهالة عيّاد وياسمين الديماسي، فإنّ هذا الأداء ظلّ في مستوى عال، وتدعّم بمن انضمّوا إلى طاقم التمثيل في الجزء الثاني.
من الاكتشافات البارزة في "نوبة 2"، لا يمكننا إغفال عاصم بالتوهامي في دور "كريم" الذي تلبّس بشخصيّة المختلّ
وعلى رأس الوافدين الجدد، من الصعب ألّا ننبهر بأداء فتحي الهدّاوي الذي تفوّق على نفسه وهو يؤدّي دورًا لم نعهده منه. لم نره في صورة الشخص الصلب العنيد ولا في شخصية زير النساء اللعوب، وإنّما في دور مختلف تمامًا لشخص متصنّع بادي الليونة شديد التهكّم، في علاقة معقّدة للغاية بعائلته وماضيه زادها مرضه المفاجئ تعقيدًا. يجعلنا فتحي الهدّاوي في كلّ دور له نمحو ما عرفناه عنه سابقًا ونعيد اكتشافه. ومن الاكتشافات البارزة في "نوبة 2"، لا يمكننا إغفال عاصم بالتوهامي في دور "كريم" الذي تلبّس بشخصيّة المختلّ في حركاته وسكناته وأقواله وأفعاله بشكل يجعلنا نحسّ بالقلق في كلّ ظهور له.
عاصم بالتوهامي في دور "كريم" المريض النفسي
شخصيّتان من "نوبة 1" تطوّرتا بشكل لافت في الجزء الثاني. لئن كان مهذّب الرميلي نجح إلى حدّ كبير في أداء شخصية "فتحي "الشرطي في الجزء الأوّل، فإنّه نقلنا إلى مستوى آخر وهو يصارع خلجات الجنون أو يدّعيها هذه السنة. أمّا البحري الرحّالي فقد انتقل، بشكل مقنع، من الفنّان الشعبي الحامل لأحقاد والمتكتّم على أسرار إلى شخصية شيخ رقيق العاطفة تعبث به أمواج الذاكرة.
هناك ممثّلان طالتهما سهام النقد في الجزء الثاني، في حين أنّه يمكن أن نجد لهما مبرّرات في طريقة أدائهما. أوّلهما كمال التواتي في دور "براداريس"، بما صاحب لهجته من تذبذب بين العاصمة والدواخل خصوصًا في نطق القاف. يمكن أن يُعزى ذلك إلى تأرجح "براداريس" الساعي إلى الحصول على اعتراف عن طريق القسر، كما يبدو ذلك في زواجه بامرأة "بلديّة" تبدي له الكراهية بشكل مكشوف، بين أصوله الريفية ورغبته في الصعود الاجتماعي.
أما الشخصية الثانية، فهي رباب السرايري في دور "آسية"، وعِيبَ عليها ما اعتُبر مبالغة في الأداء، خصوصًا أنّها في أغلب حواراتها تقترب بوجهها كثيرًا من محدّثيها وتتطاول عليهم. في الحقيقة، يمكن أن نجد عديد المبرّرات لذلك. بنيتها الجسدية الضئيلة غير المتلائمة مع مهنتها تجعلها تعوّض ذلك بإظهار التحدّي بشكل دائم، وكأنّ كلّ لقاء لها معركة مع محدّثها تروم الانتصار فيها. كما أنّ في تفاصيل نشأتها الصعبة ما يجعلها تسعى إلى فرض حضورها وإثبات ذاتها حتّى إن كان ذلك عن طريق الإهانة.
يمكن القول أنّ "نوبة 2" قد وُفّق إلى حدّ كبير في نسج التفاصيل، غير أنّ ذلك لم يصاحبه توفيق مماثل فيما يخصّ البنية الكليّة.
حيرة على مستوى البنية الكلّية
لعلّ السؤال البديهي الذي يُطرح عندما نتحدّث عن جزء ثان من مسلسل يتعلّق بما يربطه بجزئه الأوّل. العلاقة محيّرة بين جزئي "نوبة". إذا اعتبرنا أنّ "نوبة 2" مواصلة لـ "نوبة 1"، فإنّنا نجد انفصالًا واضًحا في خصوص السرد والشخصيات الفاعلة. أمّا إذا اعتبرناه عملًا مستقلًا بذاته، فإنّه من العسير جدًا على متفرّج لم يشاهد "نوبة 1" أن يفهم "نوبة 2". في الفرضيتين هناك خلل ما. في معرض البحث عن بدايات جديدة، ترتبك أركان القصّة وهو ما يتجلّى خصوصًا في مناطق الظلّ الباقية في الخاتمة وفي ضعف تطوّر الشخصيات وفي ارتباك النسق.
اقرأ/ي أيضًا: قضية "couscous connection".. "نوبة" يعيد للذاكرة مافيا شقيق بن علي
- مناطق الظلّ العالقة في السرد
يظلّ المشاهد إلى حدود الحلقة الأخيرة وهو لا يكاد يفهم شيئًا عن تطوّر القصّة، ثمّ ينجلي ذلك الغموض بشكل سريع للغاية. لاحظ بعض المتابعين، عن وجه حقّ، أنّ مثل هذا الانجلاء جدير بشريط سينمائي، أمّا في عمل تلفزي يمتدّ على ثلاثين حلقة فإنّ هذا الإبهام قد يصرف انتباه المشاهد عن العمل. لكن حتّى إذا أخذنا بالطريقة التي تمّ بها الكشف عن الارتباطات بين الأحداث والشخصيات، فإنّنا نجد أنّ الكثير من الأحداث يظلّ غير مفهوم:
يظلّ المشاهد إلى حدود الحلقة الأخيرة وهو لا يكاد يفهم شيئًا عن تطوّر القصّة، ثمّ ينجلي ذلك الغموض بشكل سريع للغاية
قد يكون فتحي هو نقطة الاتصال بين المافيا ممثّلة في "صالح" وبين "ماهر"، لكن ذلك لا يفسّر سرّ مراهنة المافيا على "ماهر" على حساب شخصية نافذة في البلاد. يدّعي "ماهر" أنّه يبحث عن اللقمة الحلال ويثور في وجه وجدي، غير أنّنا نرى له أتباعًا منذ بداية المسلسل يقفون إلى جانبه دون أن نعرف مصدر دخله. ماذا كان عمله بالضبط؟ لماذا نسمع "براداريس" يمدح قدراته امام "برينقا" دون أن نرى أثرًا لهذه القدرات؟ لماذا أوقعت نجوى الهادي في شباكها، وقد ذهب عنه شبابه وقلّ ماله وضعف عقله؟ إذا كان ذلك عن حبّ قديم، فلم ضجرت منه بسرعة بعد ذلك؟
غموض يصاحب مصير عدد من الشخصيات
إذا كان "إبراهيم" يتذكّر كلّ شيء منذ البداية ويعتزم الانتقام، لماذا وقف إلى جانب "ماهر" وأنقذه من قبضة "برينقا"؟ إذا كان استرجع ذاكرته في وقت لاحق، ألم يكن من الممكن أن تكون له وسائل أخرى للانتقام، بما في ذلك التحالف مع "براداريس" و"برينقا"؟ لماذا كان صالح مختبئًا في مستشفى للأمراض العقلية بتونس طيلة سنوات؟ من هم الذين قبضت عليهم "آسيا" في الحلقة الأخيرة وما علاقتهم بالقصّة ولماذا سهّل ماهر وصحبه هذه العملية؟
أسئلة كثيرة تظلّ حائرة، تضاف إليها أحداث لا تبدو مقنعة. كان من الممكن أن ينفّذ "ماهر" انتقامه دون أن يغادر كرسيّه المتحرّك، أمّا أن يقف على قدميه بعد أن كان الطبيب أكّد منذ الحلقة الأولى استحالة ذلك، فهو ما يبدو غير منطقي. كذلك يصاحب قصّة ضياع ابن "وسيلة" وانتقاله إلى يدي "رضا" وزوجته ضباب كثيف.
يحرمنا المسلسل كذلك من التعرّف على مصير عدد من الشخصيات. إذا رأينا الجزاء يحلّ بـ"برينقا" و"براداريس"، فإنّنا نظلّ نجهل مصير "إبراهيم" و"آسية". كذلك لا نعرف شيئا عن مصير "غنّوش"، وهو الفار من السجن، وفتحي الشرطيّ الذي تحوّل إلى قاتل.
- ضعف تطوّر الشخصيات
معظم شخصيات "نوبة" مركّبة، لا يمكن أن نصنّفها بشكل تبسيطي في خانة الخير أو الشرّ. كان يمكن اعتبار هذا التركيب سمة إيجابية للغاية في العمل، غير أنّه يبدو أنّه شكّل مأزقًا: هذا التركيب، بالإضافة إلى تضخّم عدد الشخصيات، حرمها أو حرم أغلبها من المساحة الزمنية الكافية لتجعلها تتطوّر إلى مستوى المخزون الذي تحمله.
لعلّ أبرز مثال على ذلك شخصيّة "كريم" التي تحمل في طيّاتها الكثير. إنّ مثل هذا الاختلال البادي بوضوح عليه يجد جذوره في عدّة حوادث تعرّض إليها منذ صغره. يشير المسلسل إلى شيء من ذلك في شكل ومضات، لكنّه يظلّ قاصرًا عن بسط نفسيّته المعقّدة للغاية. يقبع "كريم" في الظلّ ويكتفي بتنفيذ الأعمال القذرة التي يكلّف بها، دون أن نفهم كيف انجرّ إليها، قبل أن يتمّ التخلّص منه بشكل مفاجئ. بمثل الإبداع في التجسيد المشار إليه آنفًا، كان من الممكن أن يُخصّص عمل كامل لشخصية "كريم"، يغوص في أعماقه ويواكب رحلته في الحياة، لا أن يقع الاكتفاء ببعض المشاهد العابرة.
معظم شخصيات "نوبة" مركّبة
هناك شخصيات أخرى مُنح لها حيّز زمني لا بأس به دون أن يقع التعمّق فيها بما يكفي، ولا حتّى يكون لها دور فاعل حقّا في الأحداث. على رأس هذه الشخصيات "رضا داندي". لا نفهم كيف انفصل عن زوجته وابنه ولا ماذا فعل في رحلته إلى الخارج وكيف كوّن ثروته ثمّ خسرها ولا كيف اتّصل بنجوى ولا كيف أصيب بمرضه. والأهمّ من ذلك، رغم أنّه من المفترض أنّه دور بطولة (فتحي الهداوي هو الاسم الأوّل في شارة البداية)، فإنّه يمكن حذف هذه الشخصية تمامًا من المسلسل دون أن يؤثّر ذلك بالمرّة على الخطوط العريضة للأحداث، ممّا يجعلنا نتساءل عن سبب إقحام هذه الشخصية في القصّة.
أشار عبد الحميد بوشناق كذلك في حوار له مع موقع "نواة" إلى أنّ بعض الشخصيات ترتكز إلى أشخاص حقيقيين كنجوى و"المعلّم" (صلاح مصدّق)، رافضا الكشف عن هويّة المعنيين. وفي الحقيقة، يبدو أنّ ذلك أضاف تعقيدًا غير ضروري إلى القصّة. ماذا يهمّ إن كان "المعلّم" هو المنصف بن علي أو لا مادام المسلسل لا يزعم لنفسه طابعًا توثيقيًا ومادام يفترق عن الوقائع المعروفة لدينا عن وفاته؟ ماذا يهمّنا كون نجوى الحقيقية تستعمل الليزر بكثافة مادام ذلك لا يضيف شيئًا إلى القصّة ولا إلى بناء الشخصية؟
- نسق مرتبك
اشتكى بعض متابعي "نوبة 2" من بطء نسق الأحداث، وهو أمر صحيح إلى حدّ كبير خصوصًا فيما يخصّ الحلقات الأولى. ربّما يكون الأمر مفهومًا إلى حدّ ما باعتبار تضخّم عدد الشخصيات في الجزء الثاني مقارنة بالأوّل والرغبة في عرض دوافعها والعلاقات التي تربط بينها، ولكنّ هذا العرض يطول بشكل يضفي نوعًا من الرتابة إذ يغيب عنصر التشويق حتّى نتساءل عن دافع مواصلة المشاهدة. ربّما يكون إرث الجزء الأوّل والمشاهد الجميلة المتناثرة وبعض "الربوخ" هو ما يجعل الفرجة محتملة، ولكن من الأكيد أنّ سير الأحداث لا يساعد كثيرًا في ذلك.
في الحلقات الأخيرة، نشهد ظاهرة عكسية، وهي القفز على بعض الأحداث التي كانت تستوجب بعض التمهّل في معالجتها وتفكيك أثرها على الشخصيات
في الحلقات الأخيرة، نشهد ظاهرة عكسية، وهي القفز على بعض الأحداث التي كانت تستوجب بعض التمهّل في معالجتها وتفكيك أثرها على الشخصيات. نلاحظ ذلك بشكل خاص في موت "فرح" و"الهادي". باستثناء مشهد المقبرة وقلق "آسية" وبعض الكلمات العابرة هنا وهناك، لا يُخصّص حيّز كاف لنلمح أثر مقتل "فرح" على المحيطين بها. كان يمكن أن نتخيّل أنّ "وجدي"، بتعلّقه الكبير بها لا سيّما بعد أن تصالحا، يمكن أن ينهار تمامًا ويظلّ لمدى أيّام عاجزًا عن الخروج من غرفته، لكنّنا نشاهده يعود سريعًا إلى نشاطه مع صحبه. كان يمكن أن نتخيّل أنّ "وسيلة" و"حبيبة" ستعودان إلى استذكار علاقتهما بـ"فرح" وتعيدان النظر في كثير ممّا عاشتاه معها، إلّا أنّ ذلك لم يحصل إلّا بشكل محدود للغاية. أمّا في خصوص موت "الهادي"، فإنّ العجلة في تجاوزه أكثر وضوحًا. لا نكاد نسمع ذكرًا لهذه الشخصية على مدى الحلقات الثلاث الأخيرة، باستثناء مشهد الجنّة، في حين أنّها شخصيّة طبعت ببصمتها كلّ الشخصيات الرئيسية، بل أنّ قسمًا كبيرًا من الأحداث في الجزء الأوّل وقع في بيته أو تحت ناظريه.
قد تكون التضحية بالكليّات لصالح التفاصيل جزءًا من المنظور الفنّي الذي طبع "نوبة 2"، وقد يكون الرأي من ذلك مسألة ذائقة فيُعجب بعض المشاهدين ولا يعجب البعض الآخر. مهما يكن من أمر، لا شكّ أنّ هذا العمل قد حرّك سواكن من تابعوه حتّى تعدّدت منه الآراء واحتدّ حوله الجدل، وذلك في ذاته أمر إيجابي، وهو غير مستغرب من عبد الحميد بوشناق الذي يبدو أنّه تعوّد اقتحام المجالات غير المطروقة، من "هذوكم" إلى "نوبة" مرورًا بـ"دشرة"، في انتظار عمله السينمائي الجديد.
اقرأ/ي أيضًا: