18-ديسمبر-2022
 الانتخابات التشريعية في تونس 2022

مركز اقتراع في تونس في يوم الانتخابات التشريعية 17 ديسمبر 2022 (الشاذلي بن إبراهيم/Nurphoto)

مقال رأي 

 

هل يعني فشل خصمك السياسي بالضرورة فوزك؟ قد يعتقد البعض ذلك، لكن قراءة أعمق ومزيدًا من التفحص لتجارب سابقة يؤكد أن الأمر قد لا يستقيم ضرورة.

في هذا السياق، وعلى ضوء إعلان هيئة الانتخابات في تونس نسبة المشاركة الأولية في الانتخابات التشريعية 17 ديسمبر/كانون الأول 2022، والتي كانت في حدود 8,8 في المائة فقط، وهي أضعف نسبة مشاركة في كل الاستحقاقات الانتخابية التي تلت ثورة 2011 في تونس، (وحتى قبلها لو سلمنا بنزاهتها)، وهي وفق تقديرات مراقبين، قد تكون الأضعف عالميًا، على ضوء هذه النسبة المتدنية تعالت أصوات التفاؤل أو التشاؤم من البعض وتسارعت التأويلات في تونس.

8,8 % فقط من الجسم الانتخابي المسجل لدى هيئة الانتخابات اتجه إلى مراكز الاقتراع، أي حوالي 803 آلاف شخص بتراجع حوالي مليوني شخص عن المشاركة مقارنة بالاستفتاء في 25 جويلية الماضي

شاهدنا رئيس هيئة الانتخابات يبرر النسبة بـ"تغير نظام الاقتراع وبكونها حملة انتخابية نظيفة ونقية من المال الفاسد" على حد تعبيره. وهو الموقف الذي أثار لغطًا عن انخراط رئيس هيئة يفترض أنها على مسافة واحدة من الجميع ولا يقع على عائلها تفسير انخفاض نسبة المشاركة أو ارتفاعها، لما لمعدل الإقبال من تأويلات سياسية.

قراءة رئيس هيئة الانتخابات (المعيّن إضافة إلى كامل تركيبة الهيئة من قبل الرئيس قيس سعيّد) أثارت تساؤلات حول تبنيها من عدمه من قبل سعيّد، الذي يحافظ على صمته على عكس عاداته، إذ اعتاد في مناسبات سابقة إلقاء كلمة أو الخروج لشارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة للقاء جانب من الشعب، إبان الاستحقاقات الكبرى التي يحددها.

 

 

8,8 في المائة فقط من الجسم الانتخابي المسجل لدى هيئة الانتخابات اتجه إلى مراكز الاقتراع، أي حوالي 803 آلاف شخص بتراجع حوالي مليوني شخص عن المشاركة مقارنة بالاستفتاء على الدستور في 25 جويلية/يوليو الماضي وبانخفاض لافت جدًا عن الانتخابات السابقة منذ 2011 (نسب المشاركة كانت كالتالي: انتخابات المجلس التأسيسي أكتوبر 2011 54,1 %، الانتخابات التشريعية في 2014 69 %، الانتخابات التشريعية في 2019 41,3 % ثم الانتخابات التشريعية  2022 8.8 %).

نسبة المشاركة تجذبنا ضمنيًا وبالتتابع للنظر إلى نسبة 92,2 ٪؜ وهي نسبة العزوف أو المقاطعة وبالتالي لطرح السؤال لما قاطع كل هؤلاء الانتخابات؟

نسبة المشاركة تجذبنا ضمنيًا وبالتتابع للنظر إلى نسبة 92,2 ٪؜ وهي نسبة العزوف أو المقاطعة وبالتالي لطرح السؤال لما قاطع كل هؤلاء الانتخابات في يوم إجازة رسمية ويوم اختير أن يتزامن مع ذكرى انطلاق أحداث الثورة في تونس وقام سعيّد بتحويله منذ سنة إلى عيد وطني. وكان ينتظر أنصار الرئيس أن يتحول إلى "يوم احتفال شعبي".

تُسارع المعارضة في تونس، على اختلاف مكوناتها التي لا تزال تتصارع فيما بينها رغم محاولات التجميع التي تُقاد بين الفينة والأخرى، إلى تأويل نسبة المقاطعة العالية جدًا كـ"تجاوب شعبي مع مطالبها" وهي التي دعت لذلك منذ أشهر وقاطعت هذه الانتخابات بشكل كامل ومنقطع النظير تونسيًا.

 

 

لكن المتابع للمشهد التونسي يتبين أن دعوات المقاطعة من قبل المعارضة لا يمكن أن تكون السبب الوحيد خلف هذه المقاطعة الشعبية اللافتة وغالبًا ليست السبب الأهم. كان جليًا منذ أشهر قليلة أن حالة النشوة عند جزء من التونسيين إبان قرارات سعيّد في 25 جويلية/يوليو 2021 قد خفتت.

حصل ما يشبه الصدمة بعد حوالي سنة ونصف من تمركز السلطة الجديدة في تونس ومرورها باختبارات عدة اجتماعيًا واقتصاديًا خاصة، آلت جميعها لانتكاسات عمقت الصعوبات التي يشهدها التونسي يوميًا

حصل ما يشبه الصدمة بعد حوالي سنة ونصف من تمركز السلطة الجديدة في تونس، أساسًا الرئيس وبدرجة أقل حكومته بقيادة نجلاء بودن، ومرورها باختبارات عدة اجتماعيًا واقتصاديًا خاصة، آلت جميعها لانتكاسات عمقت الصعوبات التي يشهدها التونسي يوميًا.

ساهمت الحملة الانتخابية التي سبقت هذه الانتخابات أيضًا (امتدت من 23 نوفمبر/تشرين الثاني إلى 15 ديسمبر/كانون الأول) في هذه المقاطعة الواسعة، كانت حملة باهتة، دون منافسة حقيقية عبر غياب مرشحين في بعض الدوائر والاقتصار على مرشح أو اثنين في دوائر أخرى ولم تكن الحملة بارزة حتى في الدوائر متعددة الترشحات.

لا يمكن أيضًا التغاضي عن مهام وصلاحيات مجلس النواب القادم ودورها في ضعف نسبة المشاركة للناخبين، فهؤلاء سمعوا واطلعوا، على الأقل في جزء منهم، أن صلاحيات مجلس النواب القادم كما حددها دستور 2022 قليلة جدًا. انتفت صورة البرلمان القوي، مصدر التشريع، الذي بيده إسقاط الحكومات، والمؤثر في المشهد عبر كتل وائتلافات.

يجد التونسي نفسه أمام مجلس نواب مشتت التركيبة، دون هوية واضحة، فرضية حله للحكومة شبه مستحيلة، مرتبطة بمجلس آخر لم يتم انتخابه بعد أما الجانب التشريعي فيه فهو غالبًا مرتبط بتوجهات الرئيس مما قد يحوله لأداة للمصادقة لا غير

يجد التونسي نفسه أمام مجلس نواب مشتت التركيبة، دون هوية أو هيمنة واضحة، فرضية حله للحكومة شبه مستحيلة، مرتبطة بمجلس آخر لم يتم انتخابه بعد ولا يعرف أحد طريقة اختيار أعضائه للآن (مجلس الأقاليم والجهات وهي غرفة أضافها الرئيس سعيّد في الدستور الجديد) أما الجانب التشريعي فيه فهو غالبًا مرتبط بتوجهات الرئيس مما قد يحوله لأداة للتصويت والمصادقة لا غير.

هي كلها عوامل لا تشجع التونسي لتقديم صوته، ضف لذلك ما تم تداوله من "برامج"، مداخلات وغير ذلك حول المترشحين، والتي خلت من أي إبهار بل كانت محل تندر واسع في مناسبات عدة.

عديدة هي الأسباب خلف نسبة المقاطعة اللافتة والتي لن يكون اعتبارها "دعمًا مطلقًا من الشعب للمعارضة" إلا من باب المغالطة ودليل ذلك حملات التخويف التي انطلقت من "أنصار الرئيس"

باختصار كل هذا وأكثر كان خلف نسبة المقاطعة اللافتة والتي لن يكون اعتبارها "دعمًا مطلقًا من الشعب للمعارضة" إلا من باب المغالطة التي قد تضر المعارضة أكثر من إفادتها. ودليل ذلك حملات التخويف التي انطلقت من "أنصار الرئيس" مروجين أن عدم التصويت بكثافة في الدور الثاني للانتخابات التشريعية سيؤدي لعودة البرلمان المنحل ورئيسه وحالة النفور العامة التي ينتجها ذلك.

لكن لا يمكن أيضًا نفي أن نسبة المشاركة المتدنية هي هزيمة لمشروع الرئيس، فقد كانت هذه الانتخابات التتويج الأخير لـ"خارطة الطريق" التي حددها منذ سنة وعمل طيلة هذه الأشهر، على تجاوز كل العقبات في طريقها. وأمام سعيّد فرص كما لمعارضته إما لتجاوز الهزيمة سريعًا وقلب مفعولها أو تعميقها عبر تعميق أسبابها.

لا يمكن نفي أن نسبة المشاركة المتدنية هي هزيمة لمشروع الرئيس، فقد كانت هذه الانتخابات التتويج الأخير لـ"خارطته" وأمام سعيّد فرص كما لمعارضته إما لتجاوز الهزيمة وقلب مفعولها أو تعميقها عبر تعميق أسبابها

من الأرقام القليلة الصادرة، بشكل أولي عن هيئة الانتخابات، نسبة تصويت النساء والتي كانت في حدود 34% فقط على عكس عديد المواعيد الانتخابية إبان الثورة والتي تجاوزت فيها أحيانًا الخمسين في المائة وهو في تقديري رقم مهم يستحق الوقوف عنده فالتونسية تصوت إن استشعرت دافعًا ما أو قلقًا أو خوفًا أو حماسًا.. غاب كل ذلك فغابت. وكان غيابها عن التصويت ردًا أيضًا على غياب "التناصف" عن القانون الانتخابي المعدل من قبل الرئيس والذي يبشر بمجلس ذكوري لن تكون ممثلة فيه تقريبًا.

الآن من سيقرأ رسائل الشعب على اختلافها بشكل سليم، من أصحاب السلطة (الرئيس وحكومته) أو المعارضة، سيكون المستفيد الأكبر مما سماه أحد أطراف المعارضة "زلزالًا انتخابيًا" وقارنه آخرون بشكل عكسي بزلزال التصويت لصالح سعيّد في الانتخابات الرئاسية سنة 2019 حين صوّت له مليونين و700 ألف شخص بحماس وعقابًا لمنافسه، وبناء على ذلك طرحوا سؤال "الشرعية والمشروعية" إبان النسب الأخيرة المتدنية وبالتوازي طرحوا التوجه لانتخابات رئاسية مبكرة، من سيقرأ هذه الرسائل ويعدل وفقها خطابه وفعله قد يكون "المنقذ" المنتظر من التونسيين في مرحلة حساسة من تاريخهم.

من سيقرأ رسائل الشعب على اختلافها بشكل سليم، من أصحاب السلطة أو المعارضة، سيكون المستفيد الأكبر مما سماه أحد أطراف المعارضة "زلزالًا انتخابيًا" وقارنه آخرون بشكل عكسي بزلزال التصويت لصالح سعيّد في الانتخابات الرئاسية سنة 2019

منقذ (في شكل شخص أو مجموعة أو حزب أو ائتلاف ما) لا يبدو واضح الاسم ولا المعالم في ظل نفور التونسيين تصاعديًا من الفاعلين الحاليين في المشهد التونسي على اختلاف مركزهم وحالة التشويه والتخوين والكراهية المنتشرة والتي يصعب تقدير ما ستؤول إليه قريبًا.

 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"