لم أتعرف إلى خميس العرفاوي في المقهى.. بل تحادثنا لأول مرة في مقر النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، أول كلمة قلتها له هي "عسلامة.. الإضراب ناجح" فأجابني "نجيبة راهي وحدها مكينة ومنطق السلطة منطيحولوش"... كانت إجابته كافية كي أرى فيه إنسانًا جادًا في ما يفعله أو في ما يفكر فيه.. خرجنا لتدخين سيجارة بجانب مقهى التيراس وقد ألح على أن نجد طاولة للجلوس والحديث.. وكان هادئًا ومبتسمًا.
اقرأ/ي أيضًا: وفاة عضو المكتب التنفيذي لنقابة الصحفيين خميس العرفاوي
تمر الأيام والأشهر والسنوات القليلة ولم يتغير خميّس العرفاوي، أمين مال المكتب التنفيذي لنقابة الصحفيين، كنت أراه فيها كل يوم تقريبًا. ولا أتذكر أن يومًا احتجت فيه خميّس ولم أجده رغم احتياجي النادر له، وكلما اتصلت به أجابني.
مات خميس العرفاوي اليوم، 27 أفريل/ نيسان 2018، ولست مستوعبًا إلى الآن كيف ولماذا مات، أتذكره منذ شهرين تقريبًا يتجول أمامنا في شارع الولايات المتحدة. لم ألبث أن سافرت وعدت فسمعت أن الرجل مريض ويلازم فراشه.. ولم أتوقع البتة أن يصل الأمر إلى موتك يا صديقي.
صدقًا لا أعرف الكتابة في مثل هذه الحالات.. حالات الفقدان الفجئي لأناس كانوا يعمرون محيطنا البصري والمهني والوجداني بالحضور.. ولا أفقه في كيفية التعامل مع هذا الفقدان سوى بالدهشة والشهقة وضيق الصدر والحسرة. وتخونني الصحافة كلما فقدت زميلًا أحبه.
كل المهن أيها القارئ العزيز يأكل منها أولادها إلا الصحافة.. فهي تأكل أولادها لتعيش
لا تعتب عليّ يا "خموس" لأني أكتب بجمل قصيرة، لقد دهشت عند سماع خبر موتك، ورأيتك اثنان: أنت ونجيبة الحمروني.. حتى في وفاتك كريم وغني يا خميّس.. ولا تنسى غيرك ممن أصابهم المصاب نفسه، لهذا أنا أحبك.
كل المهن أيها القارئ العزيز يأكل منها أولادها إلا الصحافة.. فهي تأكل أولادها لتعيش. وبين أنامل كل صحفي في هذا العالم رابط مقدس بينه وبين قلمه ودفتره قطع الملاليم الصغيرة في جيبه لاقتطاع تذاكر السفر، ولا يفارق جواز السفر جيب الصحفي، حتى إذا ما وافته المنية قيل "مات وهو يعمل"..
المشكل يا خميّس أنك فارقتنا في وقت حساس، في وقت نحتاجك فيه لتنظيم مؤتمر الفدرالية الدولية للصحفيين في السنة القادمة، وفي وقت تعيش فيه الصحافة في مطلقها مخاضًا عسيرًا لميلاد نموذج جديد لها..
لا أعرف يا خميّس لماذا أحس أن موتك المفاجئ الآن بالذات هو أفق تفكير في مسألة أخرى، مسألة طبيعة العمل الصحفي في هذا العالم الذي نعيشه اليوم. هل كلما كتبنا المقالة تزيد احتمالات إصابتنا بالسرطان؟ هل التفكير في الناس وفي الرأي العام والنضال والحرية والسلطة.. هل كل هذا يسبب موتنا بالفعل؟ أجبني يا خميس فأنت الوحيد فينا الذي يملك الحقيقة الآن.
لن أنعاك خموس، وأنت تعرف جيدًا أنني لن أنعى أي حبيب يموت، تعرف هذا لأني قلتها لك ذات مساء عندما سألتني عن كتابة شيء لجورج طرابيشي فأجبتك بأنني "لا أنعى أساتذتي وأحبتي".. وها أنت الآن في حضرة الغياب الأبدي، وها أنا أقولها لك "لن أنعاك" لأنني أحبك.
اقرأ/ي أيضًا:
النهاية: هل حان وقت موت الصحافة على يد الإعلام؟
مراسلون بلا حدود: تونس في المرتبة 97 عالميًا والأولى عربيًا في حرية الصحافة