24-فبراير-2021

لا يمكنك قراءة هذه الرواية دون العودة إلى كل الأحداث التي روتها الكاتبة ودون التمحيص في تاريخ تونس في الثلاثينات

 

لم يخطر ببالي وأنا أقرأ رواية "نازلة دار الأكابر"، أن أعيش فصولها كأنني واحدة من شخوصها الهائمين في خطة سردية محكمة، لكاتبتها أميرة غنيم. 

رواية مزجت التاريخ بالمتخيل، جمعت صنوف الإبداع والإمتاع والتشويق، وأظهرت لنا الطاهر الحداد في جبة العاشق، الذي تجرع كأس الألم والخيبة والإهمال معًا، حتى بدا هائمًا مستسلمًا على حصير يستمع بتأثر لأغنية سيد درويش "أنا هويت وانتهيت".

الحداد، ذلك الشاب الزيتوني، ابن الجنوب التونسي الذي أعرضت عنه الحاضرة لما بدا فيه من طابع تنويري سبق عصره فكاد له أصدقاء الأمس وقطعوا السبل أمامه، كانت مصيبته يوم احتفاله بتوقيع كتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" شديدة لا تتحملها الجبال، فقد رُفض مصلحًا، وكُفّر بعد أن نال من التحصيل في جامع الزيتونة حصةً، وعاد عاشقًا ذليلًا بعد أن رفضه علي الرصاع زوجًا لابنته وصهرًا.

زبيدة والطاهر الحداد، ليسا مجرّد عاشقين متخيلين تسللا إلى العقل الباطني لأميرة غنيم فأتحفتنا بروايتها، بل مثلا سياقًا سياسيًّا وتاريخيًّا مفصليًّا في بناء الشخصية التونسية

زبيدة والطاهر الحداد، ليسا مجرّد عاشقين متخيلين تسللا إلى العقل الباطني لأميرة غنيم فأتحفتنا بروايتها، بل مثلا سياقًا سياسيًّا وتاريخيًّا مفصليًّا في بناء الشخصية التونسية، لا تحددها حقبة زمنية.

فقد لخصت قصة حبهما، باعتبارها وسيلة لا غاية للراوية في حد ذاتها، صراعًا محمومًا لا يزال إلى اليوم يكشر عن أنيابه رغم اختلاف شخوصه، عن علاقة "البلدية" بمن نشأ خارج أسوار الحاضرة من ريف وبدو، بالطبقية الاجتماعية وثنائية أبناء الأعيان وأبناء الخدم، بالعلم في مواجهة الجهل، بالعنصرية والجهوية، بالمناكفات السياسية حد الطعن والتجني، بدور الصحافة في تشكيل الرأي العام، التي جعلت من الطاهر الحداد زنديقًا في عيون المجتمع المسلم المحافظ، وعن العقلية الذكورية التي سيطرت عليه.

تقول أميرة غنيم في حوار مع "ألترا تونس" "لا أعتقد أنّي كتبت عن الطاهر الحدّاد العاشق. قصّة العشق كانت تعلّة ولم تكن هي محور القصّ. كتبتُ عن الطبقيّة والاستغلال والعنف والتطرّف واحتكار المعرفة والسلطة. كتبتُ عن الجهل والظلاميّة وعن التحديث والتنوير. كتبتُ عن عذابات المقهورين وأعليت صوت الذين لا صوت لهم يُسمع في مجتمع لا يحبّ أن ينصتَ إلّا لنفسه. هذا المجتمع هو نفسه الذي أعدم الطاهر الحداد دون محاكمة، أعدمه رمزيًّا بأن صادر حقّه في التفكير، وحكم عليه بالخرس المؤقّت حتّى أنصفه التاريخ".

أميرة غنيم لـ"ألترا تونس": "كتبتُ عن الطبقيّة والاستغلال والعنف والتطرّف واحتكار المعرفة والسلطة. كتبتُ عن الجهل والظلاميّة وعن التحديث والتنوير" 

لا يمكنك قراءة هذه الرواية دون العودة إلى كل الأحداث التي روتها علينا الكاتبة بتمعن، دون التمحيص في تاريخ تونس في الثلاثينات، عن الحزب الحر الدستوري وقيادته، عن تاريخ الصحافة في تونس وأقلام مبدعين مثل أحمد الدرعي وجلسات المفكرين والمثقفين ممن حصلوا التعليم الزيتوني وجماعة تحت السور، وظروف تأسيس جامعة عموم العملة التونسية وآخر المواجهات بين قوات الحلفاء والمحور في بر تونس.

النازلة في الحقيقة هي مجموعة نوازل، ارتبطت بحادثة ذات 7 ديسمبر/كانون الأول عام 1936، لكن المصائب التي سبقتها وحتى التي أعقبتها ليست أقل وطأة، لكن ربما لأنها لا ترتبط بابنة الأكابر "للاّ زبيدة بنت علي الرصاع" مباشرة، فكانت أقل حدة، لأن الرجل مهما أخطأ سيجد من يدافع عنه حتمًا.

دار النيفر لم تكن بتلك العفة التي صدمتها رسالة من رجل جُبل على الصدمات طيلة حياته، أحب امرأة وحين رفض كتم عشقه في قلبه وحمل عذاباته، ولما لاح له موته راسلها مع صبي الخباز، وهي سيدة متزوجة في "دار حسب ونسب"، بل تبدو أوهن من بيت العنكبوت تنتظر من يمسك خيطًا منها لتتهاوى البقية، فما إن علم أهلها بأمر الرسالة، حتى تشتت أوصالهم وتعالت أصواتهم ورفع العكاز وتصارع الإخوان وفتحت الجروح ثقوبًا لم تندمل بعد عقود من الزمن.

والحقيقة أن امحمد (سلف زبيدة) عاش محبًا للرجال على النساء، وحين زُوج درءًا للفضيحة، لم يتخلص من ميوله بل هربت منه زوجته "فوزية"، التي كان يتخذها في موضع يؤتى منه الرجال، إلى زاوية سيدي محرز تشكو له حزنها الذي لا تسرّ به أحدًا.

أما خادمة آل النيفر "خدوج" فوقعت في شرك منظف مستشفى المجانين، حين كانت تزور أختها ياقوتة المقيمة فيه، وأقامت معه علاقة دامت سنتين، حتى إن أختها ماتت ولم تكن على علم بها، وهي التي لا تغفل عن زيارتها لكن لسبب غير رؤيتها. وما إن طردها "الرزقي" المنظف يوم علم بحملها وأخبرها بأنها شيعت إلى مثواها الأخير قبل 6 أشهر، وأنه متزوج وله أبناء ولا يقبل بامرأة سوداء. حمّلها عيوبًا لا يقدر على حملها أعتى الجبال.

حتى "محسن" زوج زبيدة خانها حين تزوج عليها سرًّا من امرأة يهودية بكماء صماء، وجعلها عاقرًا، كان يصب في خلوته معها شهواته التي لم تنقطع حتى وفاتها، وحرمها من أن يكتب على قبرها أنها زوجته خوفاً وعجزًا وجبنًا. بدا وكأنه يثأر لكرامته دون أن يجد سبباً مقنعًا لذلك، فظلم الأولى حين خونها وظلم الثانية حين استغلها وأفقدها أهم ما يمكن أن تتفاخر به المرأة المحبة، ابن يحفظ نسلها وزوج يحفظ اسمها وإن كان على قبرها.

الرواية مجموعة من الأحاديث على لسان أبطالها الرئيسيين من داري "الرصاع" و"النيفر" وخدمهما وتحمل في رحمها استطرادات على طريقة المعري

الرواية مجموعة من الأحاديث على لسان أبطالها الرئيسيين من داري "علي الرصاع" و"عثمان النيفر" وخدمهما، تحمل في رحمها استطرادات على طريقة المعري، تأخذك حيث يسلمون أسرارهم الواحد تلو الآخر فتتبع معهم خيطًا رقيقَا تخشى أن ينفصل، وتنسى القصة الأصلية، حتى تعود بك الراوية إلى المركز، قبل أن تباغتك بجذبك إلى الأطراف لتعبث بنا الشخوص من جديد، بين تربة الباي ونهج الباشا وديار الأعيان، والخلوات السياسية والعاطفية وحي الكارطي ومستشفى المجانين وطريق الترامواي.

كلّ ما في النصّ، وفق غنيم مخطّط له ومقصود. "بعض الاستطرادات تختصرُ قبل النشر كي لا يضيع الخيط الناظم للأحداث ولكنّ حذفها مثلاً غير ممكن لأنّها جزء من العالم التخييليّ ووجودها وظيفيّ يحقّق أغراضًا متنوّعة لا شكّ أنّ الدراسات النقديّة المنشغلة اليوم بالرواية ستكشف عنها".

أما عن الأسلوب الذي اتبعته في تقسيمها، تقول لـ"الترا تونس" "يسمح هذا المنطق في بناء الحكاية بتنويع زاوية النظر وتنسيب الحقيقة التي ترويها كلّ شخصيّة على نحو مختلف، فإذا القصة قصص وإذا الحقيقة أشلاء تجمّع من هنا وهناك". 

أميرة غنيم لـ"ألترا تونس": "بعض الاستطرادات تختصرُ قبل النشر كي لا يضيع الخيط الناظم للأحداث ولكنّ حذفها مثلاً غير ممكن لأنّها جزء من العالم التخييليّ ووجودها وظيفيّ"

بقدر ما تحمل الرواية من العاطفة، بقدر ما كانت كل العلاقات فيها متشنجة غمرها الشك والغيرة، فأضحت الأرواح أشباحاً تسلم على بعضها ببرود وتحاول درء "فضيحة" وقعت في قلوبهم دون أن تلمس أرض الواقع.

كنت أنتظر حديث "زبيدة" المرأة التي استسلمت لقدرها حتى وفاتها دون أن تقترف ذنبًا، ضحية علاقة حب لم ترتكب فيها خطيئة، ضحية زوج ساورته الشكوك فهجرها وتركها كلوح قديم ينهشه السوس وحين أراد أن يمسح عنه الغبار ويسترجعه كان الزمان قد ولى.

فهل ظلمت أميرة غنيم أيضًا زبيدة والطاهر؟، كانا محور القصة، تدور حولهما الأحداث التي تشكلت قطعًا منفردة، في أزمنة مختلفة لعل أقدمها يعود إلى عام 1943 وصولاً إلى 2013، أم أنها خيلت لنا مشهدية صامتة لكليهما فنتعاطف معهما دون أن يتكلما؟

أو لعلها استثمرت كلامهما في هند حفيدة زبيدة، التي فتحت أعيننا على الحقيقة المخفية في صندوق داخل دهليز دار النيفر، لتنفض الغبار وتكشف الأسرار وتقول لنا إنها ولدت كسائر أبناء الأعيان بتشوه رسم ملامح الأعيان من عنجهية وغطرسة وتباه، كسرت شوكته رمزية الحداد حين قالت لها جدتها زبيدة مثنية على ذكائها وتعبيراتها المتقدة "أنت يا هند حفيدة الطاهر الحداد".

وفي ردها على سؤالنا حول البطلين استعارت غنيم قول نزار قبّاني: "كلماتنا في الحبّ تفسد حبّنا إنّ الحروف تموت حين تقال". وبينت أن فسح المجال لخيال القارئ لتدبّر هذه المسألة كان أمرًا مصيريًًّا بالنسبة إلى النصّ، فمهما بلغ إبداع الكاتب في التصوير فإنّ خيال القارئ قادر على ما هو أجمل. وأن ما حسبناه ظلمًا هو في الواقع إنصاف".

حوصر الطاهر الحداد المفكر لأنه خرق دوامة صمت مجتمع ينخره النفاق، يمارس أشنع الكبائر في رحلة بحثه عن اللذة دون حدود ويدافع عن الدين حين تلوح له أفكار تنويرية لحرية المرأة في الأفق، فيخشى أن يفقد سلطته عليها وأن تواجهه بخداعه.

حوصر الطاهر الحداد المفكر لأنه خرق دوامة صمت مجتمع ينخره النفاق، يمارس أشنع الكبائر في رحلة بحثه عن اللذة دون حدود ويدافع عن الدين حين تلوح له  أفكار تنويرية فيخشى أن يفقد السلطة

ومات الحداد في شرخ الشباب، وانتهت معه كل القصص الجميلة وعلاقات الحب، حتى الشهوات الزائلة لم تعد لها لذة تذكر حين افتضح طابقها المستور وصارت تهدد أصحابها. فالوجه العاطفي المتخيل للمصلح التونسي لم يكن أقل مأساوية من التاريخ النضالي، بل ربما كان أشد وطأةً ومرارةً، واستقرت النازلة في عقر دار الأكابر وفي قلوب الأحياء جميعًا. 

لكن هل تليق هذه الحبكة الكلاسيكية في علاقة العاشق بالمعشوق بالطاهر الحداد، حتى وإن كانت وسيلة وليست غاية في حد ذاتها؟ هل كان في خضم كل ما عاشه من عذابات جزعًا لحب ابنة أحد الأعيان؟ ربما تكون الحبيبة سيدة من خارج أسوار الحاضرة أو رفيقة نضال بعيدًا عن الطبقية الاجتماعية. في النهاية الرواية من خيال صاحبتها التي أبدعت بأسلوبها وجمالية وصفها، في تحويل الطاهر الحداد مرآة لتونس في شكل روائي، فربما تكون غنيم رضوى عاشور تونس، روائية قادرة على تطويع التاريخ في لحظة خيال متقد.

وفي هذا السياق، تقول غنيم لـ"الترا تونس" إن كلّ الآراء الصادرة عن القرّاء لا تزعجها. فضلاً عن أنّ الكلاسيكيّة بذاتها ليست تهمة ما دامت لها في الذائقة مكانة لا تتزعزع. وأنّ ما بدا تقليديًّا ومستهلكًا ينبغي أن يؤخذ في بعده الرمزيّ على أنّه قصّة جماعيّة مركوزة في مخيالنا تروي تاريخنا التونسي في أبعاد متشابكة، وليس مجرّد قصّة عشق ممنوع بين آفاقيّ وبنت أكابر.

أميرة غنيم لـ"ألترا تونس": "مشروعي الأدبيّ قائم على تطعيم المتخيّل بوقائع التاريخ حتّى تسهم الرواية بأسلوبها المبهج في حفظ الذاكرة الجماعيّة"

وتضيف "مشروعي الأدبيّ قائم على تطعيم المتخيّل بوقائع التاريخ حتّى تسهم الرواية بأسلوبها المبهج في حفظ الذاكرة الجماعيّة. أمّا عن رضوى عاشور، رحمها الله، فهي قلم أخّاذ وكتاباتها جميلة وعميقة ولي معها تواصل روحيّ خاصّ، ولكن ليس من طموحي أن أشابهها أو أشابه غيرها. يكفيني أن أكون أنا لا أكثر ولا أقلّ".

وعن تمثل أميرة غنيم دور هند حفيدة زبيدة والطاهر الحداد، تجيب صاحبة النازلة "أميرة غنيم غير موجودة ضمن شخصيّات الرواية. ولكن لا شكّ في أنّ البعض من روحي مبثوث في الشخصيّات دون أن يُشابهني أيّ منها. فالكاتب يمنح من تجاربه وقراءاته ويفتح من نفسه أيضًا وإن أنكر ذلك".