19-يوليو-2024
مهرجان قرطاج الدولي تونس

لا بدّ من تشريك الجامعة التونسية والمختصين في إعداد الدراسات الفنية العلمية التي تتعلق ببرمجة مهرجان قرطاج (صورة من صفحة مهرجان قرطاج)

مقال رأي 

 

على إيقاع سردية "بناء دولة الاستقلال" بداية من سنة 1956، انشدّت تونس إلى عالم سحري شغوف عرف بـ "التّونسة" وكان الهدف من ذلك هو نفض غبار الاستعمار عن وجه الوطن. فذهب البناة حثيثًا ودون أدنى تردد إلى "تونسة" الأشياء والكلمات وذلك من أجل نحت شخصية تونسية لا تشبه إلا نفسها ولا تشبه إلا تعاقب الفصول التاريخية الغزيرة التي حلت بها منذ آلاف السنين بما في ذلك تونسة الثقافة إيمانًا بأن الثقافة هي الوقود الحيوي الذي يثبتنا قولًا ومنجزًا في مدارات التاريخ الكوني.

يعد مهرجان قرطاج الدولي إحدى أعرق التظاهرات الثقافية والفنية العربية والإفريقية والدولية (1964) التي تنطلق عروضه صيفًا وينهض وجوده على قاعدة فلسفية وحضارية وثقافية بسيطة وضعها الشاذلي القليبي ضمن تصوره للثقافة في تونس

رُسمت استراتيجيات تأسيسية واضحة المعالم لحياة ثقافية وفكرية ثرية ومتشابكة تحت سماء واحدة، فكانت ستينات القرن العشرين هي سنوات دق السواري وصناعة المعنى الثقافي، فتم وضع جملة من العتبات الضرورية منها ما تعلق بالقانوني ومنها ما تعلق بالهيكلي كإنشاء المؤسسات الحاضنة للفعل الثقافي كـ"دور الشعب" (دور الثقافة حاليًا) وبناء المسارح وتثمين التراث المادي واللامادي وإنشاء المتاحف ودور السينما.. كما كان التوجه إلى بعث عدد محدود من "التظاهرات واجهة" التي تستهدف عددًا قليلًا من القطاعات الفنية التي تقول تونس وتصنع هويتها الجديدة في الداخل والخارج على غرار "أيام قرطاج السينمائية" وأسابيع موسيقى الجاز بمدينة طبرقة الساحلية. 

وفي الجانب الترفيهي، تم بعث مهرجانين دوليين كبيرين هما قرطاج والحمامات ووضع كل تلك التظاهرات تحت الرعاية المباشرة لوزارة الشؤون الثقافية ووضع مال عمومي وفير تحت تصرف إدارتها وهيئاتها التسييرية.

ومنذ ذلك الوقت إلى اليوم راكمت هذه التظاهرات التأسيسية تجربتها وزخمها وفعلت فعلها اللامرئي في صناعة الذوق لدى التونسيين ودفعتهم نحو الانفتاح على ثقافات العالم القريب والبعيد، لكنّها في نفس الوقت وفي بعض الفترات التاريخية تم توظيفها سياسيًا وإخضاعها لدوائر العولمة حتى تتخلى عن ثوابتها.

تمت عبر السنين دعوة نجوم لا حصر لها في مهرجان قرطاج الدولي ما زال صدى حضورها الطاغي يتردد إلى اليوم حفظتها ذاكرة الثقافة التونسية منها أسماء عربية كوردة الجزائرية ونجاة الصغيرة وصباح فخري وعالمية كخوليو إغليسياس ولارا فابيان وغيرهم

فمهرجان قرطاج الدولي الذي يعد إحدى أعرق التظاهرات الثقافية والفنية العربية والإفريقية والدولية (1964) التي تنطلق عروضه صيفًا بين شهري جويلية/يوليو وأوت/أغسطس من كل سنة كعلامة دالة على الترفيه الجاد، يستعد هذه الأيام لإطلاق دورة جديدة (عدد 58) حفزّت على السؤال والتساؤل حول هذه التظاهرة الثقافية المركزية والتي يمنح لها من المال العام الكثير، وذلك حسب المتغيرات وهي في كل الأحوال الأكثر تكلفة من غيرها لى اعتبار أنّ العائدات الرمزية لا تقدر بثمن. 

مهرجان قرطاج الدولي ينهض وجوده على قاعدة فلسفية وحضارية وثقافية بسيطة وضعها الراحل الشاذلي القليبي ضمن مشروعه الكبير وتصوره للثقافة في تونس والتي تراوح بين المنتج الفني (موسيقى ومسرح وعروض فرجوية..) المحلي والعربي وذاك القادم من ثقافات الشعوب القريبة والبعيدة بأساليب وتلوينات تختلف من دورة إلى أخرى حسب الخطط التي ترسمها الهيئات المديرة المتعاقبة زادها عراقة المسرح الروماني بقرطاج بهاءً وسحرًا خاصًا. 

مهرجان قرطاج الذي عرّف بالثقافة التونسية وكان منصة لانطلاق العديد من الأسماء نحو الشهرة العالمية عرف أطوارًا استثنائية وسوريالية فبعد مرحلة التأسيس الأولى أُخضع للرقابة حيث لا مجال للموسيقات المنشقة والبدائل الفنية المجددة والفنانين الملتزمين والثائرين

وقد نجح المهرجان في التزامه بهذه القاعدة وهذا الاختيار، فتمت دعوة نجوم لا حصر لها ما زال صدى حضورها الطاغي يتردد إلى اليوم تحت سماء البلد وحفظتها ذاكرة المهرجان وذاكرة الثقافة التونسية، عمومًا على غرار الأسماء التونسية التي صنعت ربيع الموسيقى والأغنية التونسية على مر العقود الزمنية الستة الأخيرة: الهادي الجويني وأحمد حمزة والسيدة عليّة والسيدة نعمة وقاسم كافي والهادي حبوبة وإسماعيل الحطاب ولطفي بوشناق وعدنان الشواشي وذكرى محمد والشاذلي الحاجي ولطيفة العرفاوي وأمينة فاخت.

وأيضًا أسماء عربية لها توهجها ولنا أن نذكر منها: وردة الجزائرية وسميرة توفيق ونجاة الصغيرة ورياض السنباطي وصباح فخري وشادي جميل وعبد الهادي بالخياط وفائزة أحمد وسعاد محمد ومارسيل خليفة وسيد مكاوي ووديع الصافي والشاب خالد وكاظم الساهر وحميد الشاعري وإدير وملحم بركات ومحمد عبده ومحمد منير وعمرو ذياب..

ونجوم عالميين نذكر منهم جيمس براون وغوغوش وخوليو إغليسياس ولارا فابيان وجيلبار بيكو وإيرس رامازوتي وماريام ماكيبا وألفا بلاندي وباليه البولشوي وأوبرا عايدة وسيزيريا إيفورا.

مع بداية الألفية الجديدة وبإيعاز من السلطة ولوبياتها أجبر المهرجان على التعاقد مع شركة روتانا الخليجية العابرة لكل بلدان الوطن العربي والتي خدشت الوجه النقي للمهرجان وجعلت به جرحًا غائرًا سيبقى أثره إلى الأبد

لكن هذا المهرجان العريق الذي عرّف بالثقافة التونسية وكان منصة لانطلاق العديد من الأسماء نحو الشهرة العالمية عرف أطوارًا استثنائية وسوريالية فبعد مرحلة التأسيس الأولى وخلال الفترة النوفمبرية التي امتدت 23 سنة أخضع المهرجان للرقابة في مرحلة أولى حيث لا مجال للموسيقات المنشقة والبدائل الفنية المجددة ولا مجال للفنانين الملتزمين والثائرين. 

وأضحت البرمجة أنها تتلقى تأشيرتها النهائية من أعالي السلطة، لكن ومع بداية الألفية الجديدة وبإيعاز من السلطة ولوبياتها أجبر المهرجان على التعاقد مع شركة روتانا الخليجية العابرة لكل بلدان الوطن العربي والتي خدشت الوجه النقي للمهرجان وجعلت به جرحًا غائرًا سيبقى أثره إلى الأبد، أصبحت روتانا تتصرف في تفاصيل البرمجة والإشهار ومواعيد الحفلات وتحديد نسب مقاعد الصحفيين والضيوف وتحديد كاشيهات الفنانين واحتكرت البث السمعي البصري. 

بعد سنة 2011 دخل مهرجان قرطاج مرحلة الانهيار التام فأضحى الارتجال هو الطاغي وضعفت البرمجة تمامًا وغابت أسماء كبرى كانت جديرة به واعتلى ركح المسرح كل من هب ودب

وتم إقصاء المطربين التونسيين من غير المتعاقدين مع هذه الشركة، فعرف المهرجان بداية الانهيار. كما تم توظيف المهرجان توظيفًا سياسيًا ضمن سياقات انتخابية فأصبحت البرمجة تضم حفلات خاصة تهم وداديات وجمعيات قريبة من السلطة مثل جمعية أمهات تونس وجمعية فرحة شباب تونس. 

خلال الدورات التي تلت 2006 سرت حول المهرجان المنهار بوادر صحوة وملامح عودة للينابيع الأولى للمهرجان إلا أنّ تلك المحاولات لم تكن موفقة وباءت بالفشل، حيث  لم تنجح الهيئات المديرة المتعاقبة في إنقاذ التظاهرة من انهياره وهنا كان لا بدّ من دراسة سوسيولوجية ثقافية لما حدث.

إن هذا المهرجان الذي روّج اسم تونس هو مكسب ومعلم عريق لا بدّ من الحفاظ عليه وصيانته وذلك يتطلب نظرة جادة تنطلق من المَأْسَسَة ومزيد التحرر من سطوة الإدارة الثقافية

وبعد سنة 2011 وإلى حدود السنة الحالية دخل المهرجان مراحل الدمار والانهيار التام فأضحى الارتجال هو الطاغي على كل شيء فضعفت البرمجة تمامًا وغابت أسماء فنية محلية ودولية كانت جديرة بالمهرجان بعد الثورة والتحرر واعتلى ركح المسرح الروماني بقرطاج كل من هب ودب وغابت الثوابت الدنيا وأنزل مهرجان قرطاج الدولي من عليائه.

إن هذا المهرجان العريق الذي روّج اسم تونس بين الأمم والشعوب هو مكسب ومعلم عريق لا بدّ من الحفاظ عليه وصيانته الصيانة التي تليق بأسطورته وتاريخه الحافل، لكن ذلك يتطلب نظرة جادة تنطلق من المَأْسَسَة ومزيد التحرر من سطوة الإدارة الثقافية التي عادة ما تكون مشبعة بالسياسة، ومراجعة القوانين المنظمة له والالتزام بها وفتح المجال واسعًا أمام تقديم المشاريع للمجموعات التي تروم تسيير المهرجان وبعث منظومة أخلاقية ملزمة للجميع تشبه ميثاق الشرف الخاص بالمهرجان وتشريك الجامعة التونسية والمختصين في العلوم الإنسانية والاتصالية في إعداد الدراسات الفنية العلمية التي تتعلق بالبرمجة وفهم جمهور المتلقين والذهاب بكل شجاعة للتقييم الشفاف بعد كل دورة.        

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"