أفادت مؤخرًا الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بأن وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بمنوبة أحال الملف الوارد عليه من الهيئة إلى الفرقة المركزية للحرس الوطني بالعوينة والمتعلّق بشبهة فساد في إسناد مساكن وظيفية من طرف المندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية بمنوبة.
وقد انطلقت أعمال الهيئة بتوصّلها بإحالة من رئاسة الحكومة بخصوص شبهة فساد في منح وإسناد المساكن الوظيفية بالمندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية بمنوبة واستغلالها دون وجه حق، وذلك من خلال عدم التزام اللجنة الخاصة بالنظر في مطالب السكن بالمعايير المستوجبة والشروط القانونية في منح هذه المساكن الإدارية.
كما باشرت الهيئة أعمال البحث والتقصّي بمراسلة وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري في مناسبتين للإذن بالبحث والتحري في الموضوع.
وقد أفادت الهيئة، في نشريتها الأسبوعية حول الفساد الصادرة مطلع ديسمبر/كانون الأول الجاري، بأنه، بعد التوصل بنتائج البحث الإداري المجرى في الغرض، تمّ تأكيد صحة الادّعاءات الواردة بالعريضة، وتمّت الإفادة بأن المندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية بمنوبة قد أحالت ملفات المعنيين بالأمر على أنظار مجلس التأديب واتخذت في شأنهم الإجراءات القانونية اللازمة، وتراوحت العقوبات فيها بين الإيقاف المؤقت عن العمل لمدة شهرين والحرمان من المرتّب، كما تمّ استرجاع مسكنين.
أشارت العديد من التقارير الرقابية إلى بعض الإخلالات المتعلّقة بالتصرف في المساكن الوظيفية في العديد من الجهات على مدى السنوات الأخيرة
لم تكن تلك القضية الأولى التي تتعلق بتجاوز القانون في خصوص إسناد أو استغلال المساكن الوظيفية. إذ أشارت العديد من التقارير الرقابية إلى بعض الإخلالات المتعلّقة بالتصرف في المساكن الوظيفية في العديد من الجهات على مدى السنوات الأخيرة. كما أكد بعض المسؤولين تسجيل إخلالات كبيرة في هذا الملف.
وقد صرح وزير أملاك الدولة والشؤون العقارية السابق سليم بن حميدان سنة 2012 أنّ العديد من الموظفين في مختلف الوزارات والهياكل العمومية امتنعوا عن إرجاع المساكن الوظيفية التي استغلوها طيلة فترة عملهم.
وكشف أن هناك 360 مسكنًا وظيفيًا لم يتم استرجاعها في ذلك الوقت من إطارات وزارة الداخلية، فضلًا عن تسجيل أحد الاطارات مسكنًا من هذه المساكن باسمه، مشيرًا إلى أنّ هذه المساكن تُستغل دون وجه حق، في الوقت الذي لا يجد فيه الكثير من الموظفين والإطارات والمديرين مساكن شاغرة.
كما أنّ التدخل لحل الإشكال غالبًا ما يستغرق سنوات عدّة. ففي سبتمبر/أيلول 2016 قامت الوحدات الأمنية بمدينة سيدي بوزيد بتنفيذ قرار إخلاء باستعمال القوة العامة لمساكن وظيفية تابعة لوزارة الفلاحة يشغلها عدد من المتقاعدين. وأكدت مصادر أمنية لوكالة تونس إفريقيا للأنباء (الوكالة الرسمية)، أنّ تنفيذ هذا القرار يأتي على خلفية حكم استئنافي مدني صادر منذ سنة 2009 يقضي بإرجاع المساكن لفائدة الدولة.
وشمل القرار 4 وحدات وظيفية مستغلة من طرف متقاعدين تم إعلامهم مسبقًا بالأحكام لكنهم تجاوزوا المهلة المحددة للخروج.
في تقريرها عدد 29 لسنة 2016 ، نشرت دائرة المحاسبات أعمالها الرقابية الخاصة بإسناد المساكن الإدارية للفترة 2009/2014. وقد أشارت في التقرير إلى أنّ الوزارة المكلفة بالتجهيز قد مكنت أعوانها من استغلال 247 مسكنًا إداريًا من جملة 454 مسكنًا دون مراعاة التراتيب الجاري بها العمل في الغرض. كما لم تقم بإحالة 81 مسكنًا إداريًا شاغرًا للوزارة المكلفة بأملاك الدولة.
محكمة المحاسبات: الوزارة المكلفة بالتجهيز لا تقوم بجرد المباني الراجعة إليها بالنظر خلافًا لمقتضيات مجلة المحاسبة العمومية
كما تبيّن أنّ 68 مسكنًا إداريًا يتم استغلالها دون وجه حق من قبل أعوان متقاعدين أو من أطراف لا تنتمي أصلًا إلى الإدارة. كما لم تحرص الوزارة على متابعة مآل القضايا المرفوعة من قبل الدولة لإخلاء هذه المباني، ولم تتوصل إلى تنفيذ 12 حكمًا صادرًا لفائدتها يعود بعضها إلى سنة 1996. وشابت إجراءات إسناد المساكن الإدارية إخلالات مختلفة، حيث أسند 166 مسكنًا إداريًا دون إجراء محاضر معاينة و113 مسكنًا دون مطالبة المنتفعين بتوقيع التزامات.
اقرأ/ي أيضًا: أزمة السكن تنعش "تحيّل" السماسرة في تونس
كما ذكرت محكمة المحاسبات، في تقريرها، أنّ الوزارة المكلفة بالتجهيز لا تقوم بجرد المباني الراجعة إليها بالنظر خلافًا لمقتضيات مجلة المحاسبة العمومية. وتبين أنّ عددًا من المباني لم يتم إدراجه بالقوائم الممسوكة من قبل مصالح الوزارة. كما لم تحرص الوزارة على حماية رصيدها العقاري، إذ تبيّن أنّ البناءات التي تتوفر في شأنها شهادات ملكية لا يتجاوز عددها 54 مبنى من جملة 705 مبانٍ. وهو ما يمثل نسبة 7.6 بالمئة.
على صعيد آخر، قامت الوزارة المكلفة بالتجهيز بتشييد 35 مبنى خلال الفترة 2009/2014، تمثلت في 5 بنايات ذات استعمال إداري و30 مسكنًا. وأثبتت الفحوصات أنّ الوزارة قامت بتشييد المباني المذكورة دون برمجة. وفي غياب الدراسات ودون ترسيم الاعتمادات الضرورية لتنفيذ هذه الإحداثات.
وقد توصلت الأعمال الرقابية حسب دائرة المحاسبات إلى أنّ الوزارة المكلفة بالتجهيز غالبًا ما تقوم بتشييد مبانٍ في مرحلة أولى قصد استغلالها بصفة وقتية لمتابعة المشاريع المذكورة ليتم استغلالها في مرحلة ثانية بصفة دائمة كبناية ذات استعمال إداري أو مسكن وظيفي. وذلك دون التأكد من توفر الشروط الفنية الدنيا ومن طبيعة الأشغال الضرورية لتأهيل هذه المباني قصد مواصلة الانتفاع بها. كما رصدت المحكمة عديد الإخلالات على غرار إسناد مساكن مخصصة للمدرين إلى تقنيين وتقنيين متقاعدين ومساعدين.
وفي تقريرها 31 لسنة 2019، ذكرت المحكمة أنّ مندوبيّة التربية بسوسة لم تقم بمتابعة المساكن الوظيفيّة التابعة لها، والعمل على فصل هذه المساكن وتلك التي تمّت إحالتها إلى ديوان مساكن أعوان وزارة التربية بعدّادات خاصّة للكهرباء والماء، لتفادي تحمّل المندوبيّة والمؤسسات التربويّة التابعة لها كلفة الاستهلاك الخاصّة بها.
ملف معقد
وبخصوص الإخلالات التي تسجل سنويًا وتكشف بعضها الهيئات الرقابية، أكد عبد الدايم الخليفي نائب رئيس الجمعية التونسية لمكافحة الفساد لـ"الترا تونس" أنّ "ملف المساكن الوظيفية معقد جدًا"، مشيرًا إلى أن "أغلب الوزارات لا تقوم بمتابعة المساكن الوظيفية التابعة لها، أو مراقبة التصرف فيها وحسن استغلالها أو استغلالها وفق الإجراءات القانونية أو إسنادها لمستحقيها".
وأضاف الخليفي، في ذات الصدد، أن "هذا العمل يتطلب مراقبة دورية كل سنة، لا سيما وأنّ العديد من الهيئات الرقابية أشارت في عدّة تقارير سنوية إلى تسجيل العديد من الإخلالات والتجاوزات في التصرف في المساكن الوظيفية، على غرار استغلالها من قبل غير مستحقيها أو رفض بعض المتقاعدين تسليم تلك المساكن للإدارات والوزارات الراجعة لها بالنظر".
عبد الدايم الخليفي (نائب رئيس جمعية مكافحة الفساد): ملف المساكن الوظيفية معقد جدًا، وأغلب الوزارات لا تقوم بمتابعة المساكن الوظيفية التابعة لها أو مراقبة التصرف فيها وحسن استغلالها وفق الإجراءات القانونية
كما أشار إلى أنّ "مراقبتها تتطلب جردًا مفصلًا بعددها وتوزّعها، وتحديد تفاصيل عن مستغليها، حتى تسهل عملية مراقبتها"، مضيفًا أنّ "تنظيمها بمرسوم قديم يعود إلى سنة 1972 يتطلب اليوم قانونًا جديدًا لضبط طرق تنظيم إسناد المساكن الوظيفية وحسن استغلالها للمحافظة على الرصيد العقاري للدولة"، وفق تقديره.
مشروع استغلال المباني الإدارية
وقد أحالت وزارة أملاك الدّولة والشؤون العقارية في أوت/أغسطس الماضي، على رئاسة الحكومة مشروع أمر حكومي يتعلق بتخصيص العقارات الدولية واستغلال المباني الإدارية، وإسناد المساكن الوظيفية التابعة للدولة، لعرضه على مجلس الوزراء قبل المصادقة عليه ونشره.
ويهدف هذا المشروع بحسب الوزارة إلى تحديد الهياكل العمومية التي يمكن لها أن تنتفع بتخصيص عقارات الدولة، واسترجاع الوزارة المكلفة بأملاك الدولة والشؤون العقارية للمساحات الشاغرة غير المستغلة في صورة انتفاء حاجة الهيكل العمومي إليها، لإعادة توظيفها ومنح قرارات التخصيص الجارية أجلًا إضافيًا بثلاث سنوات، وإخضاعها لنفس الشروط والأحكام المنطبقة على قرارات التخصيص الجديدة.
كما يهدف أيضًا إلى وضع آلية رقابة بالنسبة لإسناد المساكن الوظيفية واستغلال المباني الإدارية، واعتماد منظومة معلوماتية جديدة ترتكز على تطويع الأساليب المعتمدة في اتجاه تجسيد آليات المراقبة والحوكمة، ومتابعة التصرف في المباني الإدارية والمساكن الوظيفية كتمكين الهياكل العمومية المتصرفة مستقبلًا من النفاذ والتفاعل إلكترونيًا عن بعد. وقد أكدت الوزارة أنّ هذا الأمر الحكومي يندرج في إطار مقاربة شاملة تهدف إلى حوكمة التصرّف، وحسن التعاطي في عملية إسناد المساكن الوظيفية وتوظيف المباني الإدارية.
اقرأ/ي أيضًا: