من إحدى شرفات أسوار المدينة العتيقة العالية تلوح لنا أسطح البيوت والمآذن والقباب ودور العبادة. تشمّ رائحة التاريخ وتلمح فنون العمارة الإسلامية والعربية من خلال تلك الأقبية المسترسلة (السبط). وهناك في قلب المدينة تتصدّر إحدى القباب ذات الأضلع المتعرجة وكأنها الكثبان الرملية الصحراوية أو أمواج بحر هائج. تنحدر من قطبها الأعلى متموجة نحو محيطها الدائريّ وزادتها أشعة الشمس رونقًا عند انعكاسها فتتدرج الإضاءة والظل وقد تفردت بها جوهرة الساحل سوسة وانقطع شكلها الخارجي عن مثيل لها في فنون العمارة الإسلامية والعربية.
بحثنا عن هذه "القبّة" التي تعتبر درة المدينة فوجدناها تتوسط سوق الصاغة في المدينة العتيقة وكان يسمى هذا المكان "نهج بين القهاوي"، لأن القبة مُحاطة بـ "مقهى الهبهاب" و"مقهى المغاربة" و"مقهى الرمانة" و"مقهى الجمعية". جميل أن تجد نفسك، وأنت تبحث عن هذه القبة الفريدة، أمام بناية إسلامية تزيدها النقوش والأقواس جمالًا على جمالها فتسحر واجهتها الناظرين.
تعتبر "القبة" درّة مدينة سوسة تتوسط سوق الصاغة في المدينة العتيقة وكان يطلق عليها اسم "قبّة بين القهاوي" لأنها مُحاطة بـ "مقهى الهبهاب" و"مقهى المغاربة" و"مقهى الرمانة" و"مقهى الجمعية"
هي اليوم "متحف القبة" وكانت تسمى"قبّة بين القهاوي" كما يطلق عليها "وكالة ضو" وذلك حسب وظيفتها في كل مرحلة من مراحل التاريخ من خلال وثائق المعهد الوطني للآثار المنشورة في السنوات الأخيرة التي تشير إلى أن هذا المعلم المثير للاستغراب يعود إنشاؤه إلى القرن 5 هجري /11 ميلادي ومن المحتمل أن يكون معلمًا جنائزيًا يحتوي ضريح إحدى شخصيات المدينة الدينية أو السياسية.
وعند وقوفنا عند هذا المبنى نرى ذلك "المدخل المستطيل من برج بارز بني بالحجارة تعلوه حنيّة على شكل صدفة داخل عقد مفصّص يفتح داخل ثلاث طاقات متدرّجة، عقودها متجاوزة محاطة بإفريز مسنّن، وتحلّي أكواش العقد الذي يؤلّف المدخل طاقات مسطّحة نصف إسطوانيّة. كما تزيّن طاقات مسطّحة في شكل محاريب واجهة الجدار الخارجي الذي تنتصب فوقه القبّة. ويذكّرنا هذا الزخرف بالواجهة الجانبيّة للجامع الكبير بصفاقس والتي تعود للفترة الزيرية (نهاية القرن 4 هـ / 10 م) ". ( منشورات المعهد الوطني للتراث) .
اقرأ/ي أيضًا: دواميس سوسة.. أسرار سراديب الموتى ورحلة البحث عن "الراعي الطيب"
ويتكوّن "المعلم في الداخل من غرفة مربّعة مسقوفة بقبّة ذات فقرات شعاعيّة، وتمكّن الحنيّات الركنيّة الصدفيّة الشكل والمتدرّجة من الانتقال من الشكل الدائري إلى الشكل المربّع، تتخلّل هذه الحنيات الركنيّة فيما بينها فتحات ذات ثلاث تدرّجات. وهنا يمكن الإشارة إلى التشابه الواضح بين هذه القبّة والمعلم الجنائزي المعروف بقبّة بنو خراسان (5 هـ / 11 م)".
أما من الخارج فقد "زيّنت الطاقيّة بخطوط متعرّجة تنطلق من القاعدة في اتجاه القمّة. وتوحي هذه الزينة ببعض القباب المرابطيّة خاصّة منها قبّة القرويين بفاس، وقبّة يوسف بن تاشفين بمرّاكش، وقبّة جامع سيدي مروان بعنابة بالجزائر المبنيّة سنة 424 هـ / 1033م".
وحسب بعض الشهادات التاريخية لخبراء في العمارة الإسلامية فإن كل المؤشّرات تدلّ على أن المعلم يعود إلى القرن 5 هـ / 11 م بالرغم من أن بعض العناصر الزخرفيّة وخاصّة منها الأضلع المتموّجة تبقى مجهولة المصدر. وقد أضيف خان للمبنى ربّما كان ذلك خلال القرن 11 هـجري أو 12 هـ / 18م .
وتم تجديد المعلم كليًّا خلال الثمانينات من هذا القرن، وأصبح حاليًا المتحف البلدي للفنون والتقاليد الشعبيّة.
متحف القبة للصناعات التقليدية والحرف
في بداية التسعينات، تحول معلم القبة من إقامة للنازلين على مدينة سوسة ومبيت للتجار الوافدين إلى متحف للصناعات التقليدية والحرف وذلك بمجسمات من الشمع موزعة على البيوت في الطابق الأرضي والعلوي، كل بيت يتضمن نشاطًا معينًا كما تروي قصة "خديجة" تلك الفتاة السوسية التي تعيش في بيتها من الطفولة إلى سن الزواج وذلك في تجسيد لقيمة الأسرة وأنشطتها الاجتماعية المختلفة.
نجاة النابلي (ناشطة تُعنى بالتراث): تمت إعادة تهيئة وصيانة معلم القبة سنة 1995 وتم استغلاله كفضاء أثري يجسد ملامح الحياة الاقتصادية في فترة ما بعد الحرب العالمية 2
نجاة النابلي عياد، مستشارة بلدية سابقة وناشطة ضمن جمعيات تعتني بتراث المدينة العتيقة بسوسة، كانت إحدى المصممات لهذه المجسمات لتروي بذلك حكاية "خديجة السوسية" وملامح الأنشطة الاقتصادية والحرفية بالخصوص، وخصّت النابلي "الترا تونس" بتصريح حول هذا المعلم ورموزه.
تقول النابلي: "إن معلم القبة تمت إعادة تهيئته وصيانته في بداية التسعينات (1995) وقد تعددت المبادرات لإحيائه بحكم تصرف بلدية سوسة في فضائه ودرءًا لعدة أطماع شخصية وجمعياتية لتحوز الحجرات المتعددة بفضاء القبة، وتم اقتراح أن يتم استغلاله كفضاء أثري ثقافي ترفيهي يجسد ملامح الحياة الاقتصادية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية".
وأضافت النابلي: "جاءتني هذه الفكرة ذات الرؤية الفنية والثقافية ضمن تصور سينمائي توثق حكاية فتاة سوسية وتؤسس لعمل فني يحيي المكامن الخفية التي قد تندثر من المشهد البصري من جمال المدينة العتيقة".
وتردف محدّثة "الترا تونس": "من هنا كان المنطلق فقمنا بسماع شهادات عديدة لسكان المدينة العتيقة ومؤرخين وحرفيين وتلقينا خلالها روايات مختلفة حول البيئة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لمدينة سوسة وحول خفايا الحياة اليومية، وقد خيرنا التركيز على فترة تجمع بين القديم والحديث وتضم خاصة فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، خاصة أن العديد من سكان المدينة العتيقة قد هجروا منازلهم بعد القصف العشوائي خلال الحرب العالمية الثانية وتهدمت عدة مرافق وبنايات، و كانت للحرب آثارها على التوزيع الديمغرافي خلفت تحولات جذرية داخل مكونات مجتمع سوسة".
اقرأ/ي أيضًا: سوسة في الذكرى 30 لإدراجها في لائحة اليونسكو.. معالم أثرية ومخاطر جديّة
وتابعت القول: "كنا نبني فكرة لتوثيق الزمن الجميل وتأريخ الوسط العائلي المبنيّ على العنصر النسائي، واخترنا أن نكشف المشاهد المنزلية والعائلية التي كانت تندثر بما في ذلك "السقيفة وروايات الجدة" والطفلة "خديجة" التي ترعرعت حتى أينعت وتزوجت وتلك النساء الإسبانيات اللاتي يبعن الأقمشة ومستلزماتها في أنهج المدينة، كما جسدنا صورة المرأة التي تطرز وترتب بيت النوم وتساهم في كسوة المنزل. كما خصصنا حجرات لتجسيد مراسم حفل الزواج. كبرت خديجة وتزوجت فكانت تلك الحكاية الجميلة التي تعيشها الأسرة التونسية التقليدية".
وأضافت النابلي: "نرى التحولات الاقتصادية والاجتماعية في المحفل، وفي تلك الفترة بدأ التزاوج بين الأردية التقليدية والألبسة الحديثة، ومن هنا نكتشف التحولات الثقافية كذلك. حتى أن خديجة صارت تستمع للأغاني وتظفر شعرها وتحيك ثيابها على المنسج الذي خيرنا أن يكون حقيقيًا حتى يكون شاهدًا للأجيال القادمة على فترة سابقة".
مراد البحري (رئيس لجنة التراث السابق): المتحف الجامد لا يمكن أن يقدم إضافة وبالتالي يجبأن تتوفر فيه حركية دائمة وأنشطة تراعي الجانب التراثي وتكون متواصلة على مدى السنة وحسب المناسبات والمواسم
وفي معرض حديثها عن متحف القبة للصناعات التقليدية، قالت نجاة النابلي: "إننا خصصنا الطابق العلوي للأسرة التونسية وحكاية خديجة، في حين خصص الطابق الأرضي لتجسيد الحرف في المدينة العتيقة بما في ذلك المقهى وصانعو الذهب والحلاق وبائع العطور والزياتين والنساج وكذلك "العدل" الذي يعتبر ركنًا من أركان المعاملات في المجتمعات الإسلامية".
كانت النابلي تتحدث بحرقة حول تأثيث متحف القبة خاصة بعد نهب جزء من محتويات المتحف مما أثر في مكوناتها كما افتقدت أرشيف تكوين المتحف من سماعات وتسجيلات نادرة حول مجتمع سوسة.
كما أكدت نجاة النابلي ضرورة صيانة هذا المعلم والمجسمات الشمعية والملابس التي صارت اليوم نادرة جدًا وجزءًا من الذاكرة الشعبية ولابد من إردافها بأنشطة ثقافية متنوعة بالتوازي مع زيارة المتحف والتكثيف من النوادي المهتمة بالتراث.
من جهته، قال مراد البحري مستشار في بلدية سوسة ورئيس لجنة التراث السابق لـ"الترا تونس" إن "المتحف يجب أن تتوفر فيه حركية دائمة وأنشطة متواصلة تراعي الجانب التراثي وتكون متواصلة على مدى السنة وحسب المناسبات والمواسم وتعزيز الأنشطة بمحاور البحث العلمي الأكاديمي من عروض ومحاضرات دورية"، معتبرًا أن "المتحف الجامد لا يمكن أن يقدم إضافة"، حسب رأيه.
متحف القبة لا يزال معلمًا تاريخيًا ومتحفًا تراثيًا مثيرًا لدهشة الزائرين من تونسيين وأجانب رغم أنه لم يشهد تطورًا منذ عقود مما أثار أطماع بعض أصحاب النفوذ المالي لاستغلاله والسعي إلى الحصول عليه لاستثماره للحساب الخاص.
اقرأ/ي أيضًا: