ككل سنة، "كابوس "العودة المدرسية يؤرق "غالية" ذات الأربعين سنة.. لعل وطأة الكابوس أشد هذه السنة، فابنتها الصغيرة أيضًا ستلتحق بمقاعد الدراسة. يفترض أن يكون حدثًا هامًا ومبعثًا للسرور في حياة أي أم، لكن الأمر مغاير بالنسبة لغالية، فالتفكير في تكلفة الدراسة نسف كل أحاسيس الفرح وأصبح الشغل الشاغل لهذه الأم التي ستضطر لدفع معاليم المدرسة لثلاثة أطفال هذه السنة.
هذه الأم مطالبة بسداد ما قيمته 990 دينار شهريًا عدا معاليم الترسيم والأدوات المدرسية في حين أنها لا تتقاضى سوى 750 دينار، وراتب زوجها يخصص لسداد الفواتير وكراء البيت والمصاريف اليومية التي ما فتئت ترتفع خلال الآونة الأخيرة. حقًا المعادلة صعبة إن لم نقل مستحيلة.
أم لثلاثة تلاميذ لـ"الترا تونس": اخترت التعليم الخاص رغم مستحقاته المالية الكبيرة لقلة الإضرابات على عكس التعليم العمومي الذي تدهور مستواه
"لقد اضطررت إلى التواصل مع مدير المدرسة لتخفيض المعلوم الشهري لدراسة أبنائي الثلاثة. كان متفهمًا ولم يردّ طلبي، واتفقنا على مبلغ 900 دينار نظرًا لأن أبنائي في مستويات دراسية مختلفة، مع أنّ ذلك المبلغ مرتفع كثيرًا مقارنة بما يمكنني توفيره، فكرت في الاقتراض من أحد إخوتي لكن الحل وقتي ولن يزيد المسألة إلا تعقيدًا. بدأ حل يتبادر إلى ذهني لطالما تجنبت التفكير فيه وهو أن أدرّس ابنتي في مدرسة عمومية، لكن سرعان ما انقشعت الفكرة. لا وألف لا، لن أميّز بين أبنائي كلّفني ذلك ما كلّفني".
تقول "غالية" في حديثها لـ"الترا تونس" إن ما دفعها لاختيار التعليم الخاص والتشبث به رغم ما تتكبده من عناء لتوفير مستحقاته، هو قلة الإضرابات على عكس التعليم العمومي الذي عرف خاصة سنتي 2017 و2018 تعطلًا متكررًا في سير الدروس، علاوة على أن مستوى التعليم العمومي تدهور خاصة مع تغير عقلية بعض المعلمين الذين أصبحوا يتعاملون بمنطق الغنيمة مع التلميذ ويجبرونه بشتى الطرق على تلقي الدروس الخصوصية، وفقها.
أم لثلاثة تلاميذ لـ"الترا تونس": يتعامل أغلب المربين في التعليم العمومي بعلوية مع الأولياء، وملاحظاتهم بخصوص مستوى التلميذ تبقى عمومًا شكلية وسطحية
وتشير "غالية" في حديثها لـ"الترا تونس"، إلى وجود اختلاف كبير من حيث المعاملة بين النظامين، فالتعليم الخاص يوفر للتلميذ جوًا من الأريحية، كما أن العلاقات الاجتماعية بين الإطار التربوي والولي أكثر مرونة، وبالتالي يتمكن الولي وبكل سهولة من الاطلاع على نقاط ضعف وقوة ابنه، وذلك عن طريق التواصل مع المربين، وهي حلقة مفقودة في التعليم العمومي الذي يتعامل فيه أغلب المربين بعلوية مع الأولياء ويرفضون في بعض الأحيان حتى الحديث معهم، وحتى إن قبلوا بالحديث فإن الملاحظات بخصوص مستوى التلميذ تبقى شكلية وسطحية تفتقد للغوص في مواهبه وكيفية تنمية مكتسباته العلمية، على حد تعبيرها.
وتضيف أن التعليم الخاص يسهر على رعاية نظافة التلميذ فيتم تغيير ثيابه إذا تلوثت وغسل يديه بعد الأكل، كما يتم التركيز على تنظيف دورة المياه بشكل مستمر، ومن الناحية العلمية ترى غالية أن التعليم الخاص يرتكز منذ سنوات التحضيري على اكتساب المهارات اللازمة في اللغات وخاصة الفرنسية والإنجليزية والتي تكون في التعليم العمومي في شكل نوادٍ إن وجدت.
كما لفتت إلى أن جائحة كورونا دفعتها للتمسك بالتعليم الخاص الذي حافظ على النسق نفسه، ولم يلجأ إلى نظام الأفواج بل بالعكس، حتى في فترة الحظر الصحي الشامل تلقى التلاميذ دروسًا عن بعد.
رئيس المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك لـ"الترا تونس": التونسي رغم عدم قدرته على مجابهة مصاريف التعليم الخاص يستثمر في تعليم وتكوين أبنائه
ويؤكد رئيس المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك لطفي الرياحي من جهته، أن إقبال التونسي على التعليم الخاص رغم كلفته الشهرية التي تقدر بحوالي 400 دينار، يعزى بالأساس إلى جودة التعليم وتقارب التكلفة مع التعليم العمومي إذا ما احتسبنا الدروس الخصوصية.
ويضيف الرياحي في حديثه لـ"لترا تونس"، أن التونسي رغم عدم قدرته على مجابهة مصاريف التعليم الخاص يستثمر في تعليم أبنائه، مشيرًا إلى أن العديد من التشكيات ترد على المنظمة تتمحور أساسًا حول غلاء الأسعار والشطط فيها. كما اعتبر أن الحل يتمثل في إعادة هيكلة التعليم العمومي ليصبح المصعد الاجتماعي الذي يتأسس عليه مستقبل الشعب.
- 1200 مؤسسة تعليمية خاصة
يواجه التعليم العمومي في تونس العديد من التحديات لعل أبرزها تراجع مؤشر جودة التعليم واهتراء البنية التحتية لأغلب المؤسسات التعليمية علاوة التحركات النقابية والمتمثلة في الإضرابات وحجب الأعداد وغيرها من العوامل التي اضطرت المواطن التونسي إلى الإقبال وبكثافة على التعليم الخاص. وفي دراسة له، أفاد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بأن الإقبال على التعليم الخاص تطور بنسبة 500% بين سنوات 2010 و2020، ولئن أقر وزير التربية بضرورة مراجعة هذا العدد، فإن التوجه نحو التعليم الخاص أصبح ظاهرة منتشرة لدى جميع الطبقات.
ويبين رئيس غرفة التعليم الخاص زهير مشرقي أن نسبة التلاميذ في القطاع الخاص تقدر بـ10%، وأن عدد التلاميذ المرسمين بالمدارس والمعاهد الإعدادية والثانوية لهذه السنة يبلغ 220 ألف تلميذ، في حين أن عدد المؤسسات التعليمية يقدر بـ 1200 مؤسسة موزعة كالآتي (500 معهد و700 مدرسة ابتدائية).
رئيس غرفة التعليم الخاص لـ"الترا تونس": نسبة التلاميذ في القطاع الخاص تقدر بـ10%، ومؤلم أن يوفّر الأولياء من قوت يومهم ليدرسوا أبناءهم
وأعزى المشرقي في حديثه لـ"الترا تونس" الإقبال على التعليم الخاص إلى نجاحه قائلًا "التعليم والصحة من مشمولات الدولة، لكنها منذ 20 سنة في حالة ضعف، ونتمنى أن تعود إلى سالف عهدها في التعليم ويغلق ملف التعليم الخاص نهائيًا. هذه نظرتنا في الخاص رغم أن الجانب التجاري موجود، لكن هذا الأصل".
كما لفت إلى أن "الأولياء يوفرون من قوت يومهم ليدرسوا أبناءهم وهو شيء مؤلم" على حد تعبيره، مشددًا على ضرورة المراجعة وتفعيل الإرادة الوطنية لتصحيح هذا المسار، مشيرًا إلى أن التعليم الخاص ساهم في حل مشاكل العديد من الأولياء كما ساهم التعليم الحر في لعب دور مهم يتمثل في إعادة التلاميذ الذين لفظتهم معاهدهم العمومية إلى مقاعد الدراسة وتأطيرهم، وفقه.
رئيس غرفة التعليم الخاص لـ"الترا تونس": لعب التعليم الحر دورًا مهمًا يتمثل في إعادة التلاميذ الذين لفظتهم معاهدهم العمومية إلى مقاعد الدراسة وتأطيرهم
وشدد المشرقي على ضرورة عودة التكوين المهني كي يسعف كل تلميذ لم يجد حظه في التعليم العمومي من خلال تعلم حرفة، وهذا مهم حتى للحركة الاقتصادية وفق تقديره. معتبرًا أنه في الظروف الراهنة وجب على الدولة التعامل مع القطاع الخاص بالشراكة لتجاوز الأزمة الراهنة.
وعن شروط انتداب المعلمين والأساتذة في القطاع الخاص، اعتبر المتحدث أن المؤسسة التي تحترم نفسها تعي جيدًا أن رأس مالها البشري هو نجاحها، وبالتالي يجب أن تكون الانتدابات مبنية على كفاءات مختصين في مجالاتهم، إلى جنب تطبيق برنامج تكوين بالتنسيق مع الوزارة والمندوبيات حتى على حسابها الخاص كي تستجيب لانتظارات الولي وتكوين التلميذ.
كما كشف أنه تم الاتفاق مع وزارة التربية على تنظيم انتداب أساتذة من العمومي للتدريس في المعاهد الإعدادية والثانوية بعد أربع سنوات من التفاوض، معتبرًا أن هذه الاتفاقية في صالح القطاع الخاص وفي صالح التلميذ خاصة، لأن بعض المعاهد حديثة النشأة في حاجة إلى تجربة أساتذة من العمومي لتبادل المعارف.
ولفت إلى أن هذا الاتفاق تدريجي على مدى خمس سنوات، تكون فيه نسبة التغطية من القطاع العمومي كبيرة خلال الفترة الأولى حتى تصل إلى 30% وهي نسبة معقولة مع مراعاة الأقسام الكبرى وهي التاسعة أساسي والبكالوريا، كما لفت إلى أن هذه الاتفاقية لا تشمل المدارس الابتدائية، وفق تأكيده.
- التعليم الخاص ليس سوى "مظاهر"
لئن يمثل التعليم الخاص الوجهة المثالية للعديد من الأولياء لتوفيره العديد من المزايا أهمها رعاية الطفل طيلة اليوم وتأمين أنشطة إضافية، فإن الربح المادي قد يدفع ببعض هذه المؤسسات إلى مغالطة الولي بخصوص مستوى تلميذه عبر تمرينه على الامتحان قبل فترة أو إسناد أعداد لا تتناسب مع مكتسباته. التعليم الخاص يشكو بدوره العديد من الهنات التي تستوجب المعالجة وتستوجب اليقظة من قبل الأولياء.
ترى "قمر" وهي أستاذة تعليم ابتدائي بإحدى المدارس العمومية بولاية منوبة، أن التهافت على التعليم الخاص أضحى موضوعًا يثير الحيرة رغم وضوح الصورة، فالأولياء فقدوا الثقة في المدرسة العمومية ويعتقدون أن المعلم يتجه للمدرسة فقط لتسجيل الحضور ولا يخضع لأي مراقبة، في حين أن المدرسة العمومية هي الأفضل لأن المربين لديهم تجربة أكبر، فهم أكفاء وأصحاب شهائد عليا ومؤطرين من وزارة التربية عبر المتفقدين والمرشدين، كما أنهم مطلعون على نفسية التلميذ وعلى علم باحتياجاته على جميع المستويات، وفقها.
أستاذة تعليم ابتدائي بمدرسة عمومية لـ"الترا تونس": المربّون بالمدرسة العمومية تجربتهم أكبر، فهم أكفاء وأصحاب شهائد عليا ومؤطرين من وزارة التربية عبر المتفقدين والمرشدين
وتضيف "قمر" في حديثها لـ"الترا تونس" أن الولي يلجأ للمدرسة الخاصة للعديد من الأسباب أهمها "المظاهر"، فيشعر بالفخر عندما يدرس ابنه بمقابل مادي ويضمن ارتقاء ابنه للمستوى الموالي، كما أنه يقوم بعملية حسابية تجمع بين تعريفة الحضانة ودروس التدارك والنقل والأكل عند تدريس ابنه في المدرسة العمومية، وتكون التكلفة متقاربة مع معلوم التدريس الخاص فيخيّر المدرسة الخاصة ويضمن بذلك تواجد ابنه بالمكان نفسه وتحت الرقابة يومًا كاملًا.
وتشير المربية إلى أنه من بين دوافع الإقبال على المدارس الخاصة هو تدريس اللغة الفرنسية والإنجليزية في مستوى متقدم، وهذا المطلوب بالنسبة للولي خوفًا من تجربته مع اللغات، وهكذا يشعر وكأنه وفّر لابنه جميع مستحقاته وعوّض فيه النقص الذي كان يحسه، خاصة وأن المواطن التونسي لا يشعر بالفرح أو بالرضا إلا عندما ينفق، فكلما ينفق مالًا أكثر، يرتفع مستوى الرضا لديه، على حد قولها.
وبالنسبة لتدريس اللغات في مستوى متقدم، تقول قمر إن الدراسات تفيد بأن "الطفل في سن أصغر، تكون طاقة استيعابه أكبر، وهذا صحيح، لكن هذا لا يعني أن يتلقى دروسًا في جميع اللغات مرة واحدة، حينها سيصبح هناك خلط في المفاهيم. لهذا يفترض ألّا يدرس التلميذ لغة أجنبية إلا بعد تعرفه على لغته الأم، ولهذا السبب يبدأ تدريس الفرنسية في المدارس العمومية من السنة الثانية حينها يستوعب التلميذ اللغات وخاصة يفهم المعاني، وفي الأخير كل طفل وقدرته على الاستيعاب ومستوى ذكائه" وفقها.
أستاذة تعليم ابتدائي بمدرسة عمومية لـ"الترا تونس": من بين دوافع الإقبال على المدارس الخاصة هو تدريس اللغات في مستوى مبكّر، فالوليّ يعوّض النقص الذي كان يحسه
وتشير المتحدثة إلى أن الولي يشتكي من المدرّس في التعليم العمومي في حال سرّع من نسق العمل، كما يشتكيه أيضًا إذا خفّض في مستوى العمل ظنًا منه أنه لا رقابة على المدرّس، في حين أن هناك برنامجًا من الوزارة يُجبر على اتباعه، معتبرة أن تحامل الولي على المربي لا يزيد إلا طاقة سلبية للتلميذ قائلة "عندما يرى التلميذ أحد والديه يخاطب المعلم بلهجة حادة، يشعر تجاه المعلم بالكراهية، وبما أنه يقضّي وقتًا طويلًا مع المعلم، أحيانًا أطول من الذي يقضيه وسط عائلته، يكره المدرسة ويكره الدراسة ويتسبب له ذلك في نقص التركيز وعدم الرغبة في الاستماع والضجر".
جدير بالذكر أن منظمة التعليم في تونس تشهد انتكاسة غير مسبوقة أثرت على جودة التعليم وعلى القدرات التربوية للتلاميذ، فقد بيّن تقرير للبنك الدولي حول فقر التعلم أن حوالي 65% من التلاميذ التونسيين لا يجيدون القراءة وهو ما يستوجب حلولًا عاجلة لإصلاح منظومة التعليم التي بنيت عليها سياسة الدولة التونسية بعد الاستقلال.