اعترض مشجعو أحد الفرق التونسية، مؤخرًا، موكبًا لمشجعي فريق آخر ليرشقوه بالحجارة، ليتسبب هذا الحادث في سقوط جرحى وخلق حالة من الفوضى في الطريق العام ما اضطر الأمن إلى التدخل. وليست هذه المرة الأولى التي يحصل فيها عنف بين المشجعين في تونس.
وقد تغلغل هذا العنف في السنوات الأخيرة حتى حلّ الحديث عن استفحال العنصرية الجهوية أو "الجهويات"، وقد بلغ الحال إلى مستوى أصبح فيه تنقل أحد فرق العاصمة للعب مباراة مع أحد فرق المدن الساحلية حدثًا محفوفًا بالمخاطر.
كرة القدم في تونس أصبحت جزءًا من هوية الأشخاص وتطور مفهومها حتى بات متعلقًا بمعاني الهوية والانتماء
يقدر متخصصون في علم الاجتماع أن كرة القدم في تونس أصبحت جزءًا من هوية الأشخاص، إذ خرجت كرة القدم، في تونس وفي العالم أيضًا، من المفهوم الكلاسيكي الذي يفسرها على أنها لعبة عادية أو هواية تقوم على المنافسة إلى مفهوم أكثر تعقيدًا وتطورًا يتعلق بالهوية والانتماء، لكن توظيفها الضيق جعلها مصدرًا للفرقة كذلك.
اقرأ/ي أيضًا: تونسي ساهم في بروزها.. المارادونية "ديانة" وفلسفة حياة!
التونسيون وغرام كرة القدم
لتونس تاريخ طويل في كرة القدم، تاريخ جعلها تتصدر المنافسات الإفريقية والعربية. ويعتبر الترجي الرياضي التونسي، المؤسس عام 1919، أعرق الفرق التونسية، وقد تأسس بعده بعام واحد غريمه النادي الافريقي، لتحظى كرة القدم من حينها بشعبية متصاعدة في تونس.
تطور هذا الشغف ليصنع نظاًما معينًا وطرقًا خاصة للتشجيع لدى الجماهير ومن ذلك ما يعرف بـ"الدخلة"، وهو فلكور رياضي عالمي يكون غالبًا في المباريات الكبرى، وذلك إضافة للأغاني الحماسية.
جماهير الترجي الرياضي التونسي تحتفل بمائوية فريقها 1919 - 2019 (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)
محمد بن الطيب، هو واحد من الذين ألهمهم شغف كرة القدم، يعمل كمحرر في إحدى الصحف العربية، بدأ الشاب اليافع، أصيل تطاوين، اهتمامه بكرة القدم منذ صغره إذ لم تكن لديه خيارات كثيرة للمتعة وملء الفراغ غير كرة القدم يمارسها ويتابع نتائجها عبر التلفاز أو المذياع.
يؤكد محمد لـ"الترا تونس" قائلًا: "في بداية التسعينات لم تكن هناك الكثير من الخيارات المتاحة لطفل صغير في حي شعبي في مدينة فقيرة غير لعب كرة القدم "، مضيفًا أن كرة القدم كانت بمثابة الشيء الوحيد الذي يمكن الحصول عليه بسهولة وبدون تكاليف "فهي لعبة الفقراء بإمتياز، يكفي أن تمتلك كرة كان سعرها في ذلك الوقت لا يتجاوز 1.5 دينار وستصبح أكثر الناس سعادة في هذا العالم".
تونس.. انتماءات متعددة
تضم تونس 24 ولاية، ويوجد في كل ولاية فريق غالبًا ما يقترن اسمه باسم الولاية، لكن تختلف كثافة الجماهير من فريق إلى فريق من بضع آلاف إلى عشرات ومئات الآلاف، لكن الذي لا شك فيه أن فريقي الترجي الرياضي التونسي والنادي الافريقي هما الأكثر شهرة وجماهيرية يليهما فريق كل من ولاية سوسة (النجم الرياضي الساحلي) وصفاقس (النادي الرياضي الصفاقسي).
شريف الزيتوني، صاحب الـ30 عامًا، معلم في مدرسة ابتدائية بالعاصمة، يجلس في مقهى عتيق بشارع فلسطين بمنطقة لافايات، يرتشف قليلًا من القهوة ويسارع بالنظر إلى شاشة التلفاز حتى أنه نسي وضع الكأس في مكانه المناسب، حجز شريف مقعدًا في المقهى لمشاهدة مباراة فريقه النادي الافريقي قبل ساعة من بداية المقابلة.
"لقد أحببت النادي الإفريقي منذ أن كان عمري 4 سنوات" (ناصر طلال/وكالة الأناضول)
بتركيز مشتت بين أسئلتي وشاشة التلفاز، يحدثنا شريف قائلًا:" لقد أحببت النادي الإفريقي منذ أن كان عمري 4 سنوات، حينما ولدت سبقني أعمامي إلى هذا الشغف، كان بيتنا يعج ببقايا الصحف التي تتحدث عن الافريقي، بدأ هذا الشغف يلتهم عقلي إلى أن اكتشفت في سن السادسة أنني أنتمي روحيًا إلى هذا الفريق وأعرف أنك لن تصدق إن أخبرتك أنه من فرط الشغف أشعر أن هذا الحب للافريقي قد ولد معي".
يؤكد مشجع النادي الإفريقي أن كرة القدم ضرورية جدًا في حياة التونسيين، كما أنه لا يعتبر أن هروب الناس إلى المدارج هو هروب من الواقع قائلًا: "رغم الواقع الجميل للمجتمعات في أنجلترا وإيطاليا وأسبانيا وشعوب الدول المتقدمة إلا أن ملاعبهم تغص بالمشجعين بل هم أكثر الشعوب شغفًا بهذه اللعبة".
مع نهاية مقابلة النادي الافريقي، بدأت الأهازيج تتصاعد في المقهى الصغير المتواضع، فيما بدأت، خارجه في "لافيات"، مظاهر الاحتفال عبر ضجيج السيارات ورفع الأعلام وأداء الأغاني الحماسية.
والنادي الإفريقي هو من أقدم الفرق التونسية تأسيسًا (1920)، وأكثرها جماهيرية حسب رأي المتابعين للشأن الرياضي. تداول على رئاسته العديد من الوجوه السياسية والثقافية، التي كانت تحمل موقفًا ضد الاستعمار الفرنسي، وسمّي بـ"فريق الشعب"، في إحالة إلى عدم رضا جماهيره على الحكومات التي مرت على تونس منذ الاستقلال.
هل تفوقت الهوية الرياضية على الهوية الوطنية؟
بدأت كرة القدم، منذ ثمانينيات القرن الماضي، تأخذ حيزًا في الحياة الاجتماعية حتى باتت معيارًا في تصنيف إنتماءات الأشخاص وهوياتهم الجديدة كأن تقول مثلًا "مكشخ" فأنت تشير إلى شخص محب للترجي الرياضي التونسي، أو "إيتواليست" فأنت تشير إلى محب لفريق "النجم الرياضي الساحلي".
خليل بالي صاحب 27 ربيعًا، صوته الجميل مكنه من دخول عالم الفن إلى جانب إمتلاكه لقاعة ألعاب، يقول إن فريق الترجي الرياضي التونسي أصبح زاوية مهمة في حياته ويمكن إعتباره أهم شيء بعد عائلته الصغيرة.
خليل بالي (مشجع): تشجيع المنتخب الوطني يدخل في إطار الواجبات وليس في إطار الحب والشغف مثل تشجيع النادي المفضل
بسؤاله عن الفرق بين الانتماء الوطني وهذه الهوية الجديدة، يجيب خليل بثقة كبيرة قائلًا: "تشجيع المنتخب الوطني الذي هو زاوية من زاويا الانتماء للوطن في بعض الأحيان نقوم به مكرهين لأنه إنتماء لم نختره مثل اختيارنا لتشجيع نواد معينة، آخر إهتمامي الذهاب الى الملعب واقتناء تذكرة لمشاهدة مباراة للمنتخب التونسي، لكنني دائما أتمنى له الفوز".
يمضي خليل في بعض الأحيان أكثر من 5 ساعات ينتظر في طابور من آلاف الأشخاص من أجل الحصول على تذكرة لتشجيع ناديه الترجي الرياضي التونسي.
فيما يفسر مشجع النادي الإفريقي شريف الزيتوني، من جهته الفرق بين المنتخب الوطني والفريق المفضل، بالقول: "الفرق بين حب المنتخب وحب النادي هو أن حب المنتخب كأن يتزوج شخص امرأة لا يحبها. تشجيع المنتخب يدخل في إطار الواجبات وليس في إطار الحب والشغف، في حين حب النادي مثل شخص يحب امرأة ولم يتزوجها أو لا يقدر على الزواج بها".
تضطر الجامعة التونسية، في هذا السياق أحيانًا، إلى تنظيم مباريات المنتخب الوطني في ملعب مدينة المنستير الذي لا تتجاوز طاقة استيعابه الـ20 ألفًا من أجل إيهام المنتخب المنافس بكثافة الجماهير التونسية.
كيف تتشكل هذه الهوية الجديدة؟
رغم نشأته البعيدة عن العاصمة بأكثر من 600 كيلومتر، يقطع محمد بالطيب هذه المسافة من أجل حضور مباراة لفريقه المفضل. ما الذي يدفع محمد إلى هذا الأمر؟ هل يمكن إعتبار ما يحدث هو عبارة عن هوية جديدة؟
يجيبني محمد، بعد الانتهاء من تدوينة كتبها لإشعال غضب أصدقائه المحبين للفريق المنافس يتحدث فيها عن فخره بفريقه رغم هزائمه المتواصلة بالقول: "في الحقيقة هذه الهويّة بهذا الشّكل الواعي لم تتشكّل إلاّ بعد سنوات حين انفتح المرء على الفكر والتاريخ وعوالم المعرفة، أمّا في البداية فكانت حالة إعجاب بفريق رياضي كان في ذروة مجده بداية التسعينيات برباعيّة تاريخيّة وكان بطلًا لقارتي إفريقيا وآسيا وبنجوم مازالوا إلى اليوم بمثابة الأساطير في تاريخ كرة القدم التونسيّة".
اقرأ/ي أيضًا: كيف يشاهد التونسيون كرة القدم في زمن الاحتكار؟
يضيف: "هذه الهويّة لها تأثيرها الملموس في حياتي بشكل أنّها تحوّلت لحالة انتماء عاطفي قويّة جدًّا لدرجة تعكّر مزاجي بشكل حاد عند الخسارة. دائمًا ما توجد حالة ضغطلنفسي قبل المباريات المهمّة والكبيرة، وقلق مصاحب لأي مباراة إضافة للتشويق وضغط الدقائق الأخيرة عدا طبعًا عن النقاشات الحامية والوديّة وبشكل دائم على مواقع التواصل الاجتماعي".
يواصل محمد الطيب حديثه بشغف: "يمكنني أن أقضي ليلة كاملة في جدال مع صديق ما حول نقطة تاريخيّة في مباراة قديمة أو نقاش عن تاريخ مواجهات الفريقين ولكن دائمًا في إطار ودّي. ولم تخلق لي علاقتي بالنّادي الافريقي أي مشاكل أو خصومات ولم تدفعني يومًا الى أي نوع من ردود الفعل العنيف بل بالعكس أحيانًا هناك من تعمّق الخلافات والنقاشات معه روابط الصّداقة".
يتحدث الشاب العاشق لناديه لـ"الترا تونس" حول "التنبير" قائلًا: "هو مفهوم رياضي/اجتماعي في تونس نعني به أنّ الفائز يدخل في حالة من التندّر على الخاسر وإغاظته بمختلف الطّرق وتلك من الأشياء الجميلة في علاقتنا بكرة القدم ويجب أن تكون كذلك".
الألتراس: توظيف كرة القدم للدفاع عن القضايا العادلة
يقول أحد المسؤولين السابقين في مجموعة "الاولترا" (ULTRAS)، وهي مجموعة لمشجعي الترجي الرياضي التونسي، إن العلاقة مع السلطة عرفت توتراً كبيراً بين 2006 و2009، ودخل العديد من أبناء المجموعة السجون، وتم إيقاف الآلاف منهم إضافة لبقية مشجعي الترجي أو الإفريقي.
"الأفريكان وينرز"، التابعة للنادي الإفريقي، تأسست بدورها عام 1995 وتعتبر من أولى الأولتراسات العربية، أسستها مجموعة لا تتجاوز الخمسين شخصًا، كانت قريبة من هيئات الفريق، وتنتمي في معظمها لعائلات برجوازية، لكن سرعان ما التحق بها أبناء الأحياء الشعبية من طلاب مدارس وجامعات وعاطلين عن العمل.
محمد بالطيب (مشجع): يمكنني أن أقضي ليلة كاملة في جدال مع صديق ما حول نقطة تاريخيّة في مباراة قديمة أو نقاش عن تاريخ مواجهات الفريقين
يقول محمد (اسم مستعار)، وهو أحد مؤسسي مجموعة "الوينرز" التي تعمل على تأطير الجماهير و إعداد "الدخلة"، لـ"الترا تونس" حول الشغف بالنادي: "الفرق أن الانتماء للوطن لا تختاره أنت، لكن في المقابل تختار النادي الذي ينتمي إليك ويعبر عن مشاعرك. ولا يوجد ترتيب تفاضلي بين الإنتماء للنادي الإفريقي والانتماء للوطن لأن النادي الإفريقي في حد ذاته مكون أساسي من مكونات الوطن والعكس بالعكس".
ولطالما أحرجت جماهير الأندية التونسية السلطة في العهدين السابقين بالشعارات المرفوعة التي تتحدى بوضوح القبضة الأمنية، ويؤكد أنيس البلطي أن الجماهير الرياضية بما فيها جماهير الترجي والإفريقي ساهمت في تحريض شباب الأحياء الشعبية إبان الحراك الاحتجاجي في ثورة 17 ديسمبر/14 جانفي.
كيف تحولت كرة القدم إلى مصدر للجهويات؟
كرة القدم هي أكبر عرض فرجوي في العالم يشاهدها الملايين، هي لغة العالم وأفضل وسيلة للتقريب بين الشعوب عبر المسابقات القارية والعالمية، ولكن يبدو أن هذا الدور الانساني الذي تلعبه كرة القدم العالمية انقلب في تونس، إلى حد ما، إلى دور سلبي.
انقطعت نسبة كبيرة من التونسيين عن الذهاب إلى ملاعب كرة القدم، في السنوات الأخيرة، بسبب تفاقم العنف في الملاعب، كما انتشرت ظاهرة الجهويات بشكل لافت.
يرى فؤاد غربالي، الباحث في علم الاجتماع، أن التونسي الذي لم يجد الانتماء في أطر أخرى وجده في كرة القدم. وفي تعليقه على تعاظم ظاهرة الجهويات، يقول غربالي لـ"الترا تونس": "فرق كرة القدم تعبر عن مدن ومناطق وبسبب شغف التونسيين بكرة القدم فإن المباريات تخلق إحساسًا مفرطًا، لكن ما نشاهده في الملاعب من إنقسام و إنعدام للروح الرياضية هو بالضبط ما نشاهده خارجها، ما يحصل داخل الملاعب يعبر عن الواقع التونسي. تشاهد تونس المنقسمة خارج الملاعب وتشاهدها أيضا داخل الملاعب".
ساهمت مجموعات الأحباء في تحريض شباب الأحياء الشعبية إبان الثورة (ناصر طلال/وكالة الأناضول)
فيما يعزي الصحفي المختص في الشأن الرياضي محمد العبدلي ظاهرة الجهويات إلى ضعف التسيير من قبل المسؤولين، ويضيف العبدلي لـ"الترا تونس" قائلًا: "أعتقد أن السبب في ما يحدث اليوم في الرياضة التونسية هم المسؤولون. لا توجد قوانين ردعية، هي مشاكل بالجملة دون محاولات لإيجاد حلول. تتعاظم ظاهرة الجهويات دون تحرك، وتساعد تصريحات مسؤولي النوادي أحيانًا على الاحتقان الاجتماعي. كل هذه المشاكل تزيد من أزمة الكرة التونسية في مقابل انعدام الحلول".
في حين يؤكد محمد ، من مؤسسي "الوينرز"، أن ظاهرة الجهويات لم تكن لتوجد لولا توظيف المسؤولين لكرة القدم لتحقيق أهدافهم، كما أن دخول السياسيين على الخط في لعبة كرة القدم قد عمق الأزمة أكثر، فوق تأكيده.
كرة القدم هي اللعبة الأكثر شعبية في تونس، وهي الوحيدة التي تمكنت من خلق هوية جديدة. يقدّر البعض أن الاهتمام المفرط بهذه اللعبة كانت إحدى سياسات النظام البائد لابعاد الشباب عن عالم السياسة، لكن يؤكد آخرون أن الاهتمام بكرة القدم ومتابعتها ظاهرة صحية ومن ذلك أنها أنقذ نسبة كبيرة من الشباب من الدخول إلى عالم التطرف والالتحاق بالجماعات المسلحة في بؤر التوتر، وإن قد يدفع سوء توظيف هذه اللعبة نحو سقوط الجميع في مستنقع من الصراعات.
يقول، ختامًا، الكاتب البرازيلي إدواردو غاليانو في "كتابه "كرة القدم: الظل والشمس": "كرة القدم هي صورة مجازية للحرب، ويمكن لها أن تتحول أحيانًا إلى حرب حقيقية. وعندئذ يتخلى الموت المفاجئ عن كونه مجرد اسم لطريقة دراماتيكية في التعادل في المباريات. فالتعصب الكروي في زماننا احتل الموقع الذي كان يقتصر في السابق على الحماسة الدينية، والعاطفة الوطنية والهياج السياسي. ومثلما يحدث مع الدين والوطن والسياسة، هناك فظاعات كثيرة ترتكب باسم كرة القدم وكثير من التوترات تنفجر بسببها".
اقرأ/ي أيضًا:
كرة القدم.. لعبة الفقراء التي افتكها الأغنياء
لغات أوروبا الشرقية تغزو تونس: شباب يتحدّى عائق اللغة من أجل المال والجمال