طرأت على المجتمع التونسي في السنوات الأخيرة تحولات في التركيبة العمرية للسكان التي تتجه تدريجيًا نحو التهرم. وتبيّن إحصائيات وطنية أن عدد كبار السن بلغ 13 % من مجموع السكان سنة 2018 مقابل 11.4% سنة 2014 ويرجح أن ترتفع هذه النسبة إلى حوالي 15% سنة 2024 و17% سنة 2029 وقرابة 20% سنة 2036.
عدد كبار السن بلغ 13 % من مجموع السكان في تونس سنة 2018 ويرجح أن ترتفع هذه النسبة إلى حوالي 15% سنة 2024 وقرابة 20% سنة 2036
ويعزى تطور عدد كبار السن بالأساس إلى ارتفاع أمل الحياة عند الولادة الذي بلغ 75.4 سنة 2017 مقابل 74.1 سنة 2009. ويضع الارتفاع المتواصل في عدد كبار السن البلاد التونسية أمام تحد ورهان جديد وهو التكفل بهذه الشريحة العمرية الفاقدة للسند خاصة ومعاضدة مجهودات العائلات المعوزة لإعالة مسنيها لا سيما في ظل ارتفاع الأسعار الذي أثقل كاهل الأسر.
ويتعرض العديد من كبار السن إلى مشاكل متنوعة صحية ونفسية وعائلية فيما يواجه بعضهم جحودًا عائليًا فيجدون أنفسهم مشردين أو في دور الرعاية الخاصة بفاقدي السند.
يتعرض العديد من كبار السن إلى مشاكل متنوعة ويواجه بعضهم جحودًا عائليًا فيجدون أنفسهم مشردين أو في دور الرعاية بفاقدي السند
وتؤكد إحصائيات وزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن بأن عدد دور الرعاية العمومية يبلغ 13 مؤسسة من بينها 3 في طور التهيئة وتضم 364 مسنًا مقيمًا فيما يبلغ عدد المؤسسات الخاصة 24 مؤسسة وتأوي 300 مسنّ ومسنّة. وتبيّن هذه الإحصائيات أن عدد كبار المقيمين بدور الرعاية ارتفع بدوره مما يستوجب دعم خدمات الرعاية ومضاعفة الجهود للتكفل بهذه الفئة.
- برامج إيداع بمنح هزيلة
ساهمت التغيرات الاجتماعية الراهنة في إحداث تحويرات على نمط عيش الأسرة وخاصة في علاقة بمكانة المسن في الوسط العائلي فلئن تولي بعض العائلات اهتمامًا بالغًا لوجوده في المنزل من خلال توفير الرعاية اللازمة فإنهم يكونون في بعض العائلات الأخرى على هامش الاهتمامات ويعتبر وجودهم بمثابة عبئ وهو ما يساهم في تفكك الروابط العائلية على الرغم من أهمية الأجداد في عملية التنشئة الاجتماعية.
إحصائيات رسمية: عدد دور الرعاية العمومية يبلغ 13 مؤسسة من بينها 3 في طور التهيئة وتضم 364 مسنًا مقيمًا فيما يبلغ عدد المؤسسات الخاصة 24 وتأوي 300 مسن
وتلعب الدولة دورًا في حماية كبار السن فاقدي السند من خلال تطوير برامجها الموجهة لهذه الشريحة والعمل على إدماجهم في المجتمع وتبعًا لذلك وضعت الوزارة برنامج الإيداع العائلي سعيًا منها لترسيخ قيم التضامن والتكافل بين أفراد المجتمع. ويهدف البرنامج إلى تأمين محيط عائلي طبيعي يحافظ على التوازن النفسي والعاطفي للمسن ورغم أهمية هذا البرنامج فإن الدولة رصدت مبلغًا ماليًا زهيدًا لمساعدة الأسر الكافلة يقدر بـ 200 د شهريًا تتمتع به 133 عائلة كافلة حاليًا.
ويعتبر المبلغ المرصود لكفالة مسن غير محفز للعائلات التي ترغب في ذلك خاصة في ظل ارتفاع الأسعار الذي تشهده البلاد منذ فترة وعجز العائلات التونسية حتى عن توفير حاجياتها.
وضعت الدولة برنامج الإيداع العائلي تخصص من خلاله منحة شهرية لكل من يحتضن مسنًا داخل بيته لكن المنحة المقدمة زهيدة جدًا
ويرى الأستاذ في علم النفس عبد الباسط الفقيه، خلال حديث لـ"الترا تونس" أن "الخدمات التي تقدم لفاقدي السند يتداخل فيها البعد الأخلاقي والديني والتضامني والعائلة البديلة هي نسخة منقولة عن النظام الفرنسي وهي شكل من أشكال التضامن المستوردة الذي لا يعتقد أنه سيحل المشكلة جذرًيًا وذلك بسبب التغير على مستوى منظومة القيم السائدة في المجتمع وغياب الترابط التضامني التلقائي". كما يرى أن "العائلات البديلة هي شكل من أشكال الانتماء العائلي لكن لا يمكن الجزم بأنها الأفضل ولا يمكن الحكم على هذه الوضعيات ولا البت فيها إلا حالة بحالة".
وأشار المتحدث إلى أن المجتمعات الغربية التي نعتبرها مثالًا عندما تخلت الأسرة فيها عن أدوارها الطبيعية عوضتها المؤسسات البديلة كالجمعيات والمنظمات والدولة، لكن في تونس فقدنا دور الأسرة والمجتمع عاجز عن تعويض هذه الأدوار وبالتالي فإن المجتمع التونسي يحتاج لمزيد النظر في التضامن الاجتماعي وهناك العديد من المنادين بضرورة سن مجلة الشيخوخة ويعتبرون أنه كما مصلحة الطفل الفضلى إيواؤه في عائلته أو مع أقاربه فإن مصلحة المسن بدوره مع عائلته الأصلية.
الأستاذ في علم النفس عبد الباسط الفقيه لـ"الترا تونس": برنامج العائلة البديلة هي نسخة منقولة عن النظام الفرنسي وهو شكل من أشكال التضامن المستوردة الذي لا يمكن الجزم باعتباره حلًا
- دور الرعاية الخاصة.. جحود أم ضرورة؟
ارتفع عدد دور رعاية كبار السن الخاصة في الفترة الأخيرة بشكل لافت وهو ما يترجم تزايد الإقبال عليها من قبل شريحة من التونسيين الذين يعتبرونها الخيار الأمثل لمسنيهم خاصة في الحالات المرضية التي تستوجب رقابة مستمرة ورغم تعرض هذه الفئة للوصم من قبل المجتمع ونعتها بالجحود والتنكر لذويها فان الإقبال عليها في كنف السرية أصبح الخيار الأمثل لهذه الفئة.
ارتفع عدد دور رعاية كبار السن الخاصة في الفترة الأخيرة في تونس بشكل لافت وهو ما يترجم تزايد الإقبال عليها
وقد انتقدت وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن وجود بعض الإخلالات في دور الرعاية الخاصة فيما يتعلق بإيواء أشخاص دون السن القانوني لإيواء كبار السن "60 سنة" كذلك في علاقة بالنظافة والتجهيزات وارتفاع كلفة الإيواء خاصة لمرضى الزهايمر والتي تتراوح بين 700 و3500د شهريًا.
ليلى قرقورة خليفي هي أول مؤسسة لدار مسنين في تونس تولت سنة 2006 إنشاء "دار اللمة" بمنطقة باب سعدون، دفعها ولعها واهتمامها برعاية كبار السن إلى خوض غمار هذه التجرية الفريدة وتحدي جميع الصعوبات التي اعترضتها.
"قبل التفكير في بعث دار مسنين خاصة كنت شغوفة بالاهتمام بكبار السن وأتردد بصفة مستمرة على دار المسنين بمنوبة لأمضي وقتًا طيًبا مع المقيمين هناك.. لاحظت أن المتواجدين فاقدون للسند وفكرت في أن العديد من المسنين يقيمون مع عائلاتهم لكن لا يحظون برعاية تامة فإما يتعرضون إلى معاملة سيئة من الصهر أو من زوجة الابن.. ومنذ ذلك الحين خطرت ببالي فكرة دار مسنين خاصة تأوي هذه الفئة.."، تتحدث مؤسسة أول دار مسنين في تونس "الترا تونس".
وتضيف "مررت بكل المراحل الصعبة، لم أحظ بموافقة البنك لتمويل مشروعي، حتى حصولي على "الباتيندا" كان صعبًا وتم التفاجئ بفكرة المشروع.. وزارة الشؤون الاجتماعية كانت تشرف آن ذاك على ملف المسنين فخضعت لاختبارات وطلبوا مني مستوى باكالوريا +2 فعدت لمقاعد الدراسة بعد 25 سنة للحصول على شهادة في إتمام السنة الجامعية الثانية وفتحت أول دار مسنين في تونس سنة 2006 بباب سعدون..".
وتابعت "لم ينل المنزل الذي استأجرته رضاء المسؤولة على دور المسنين فانطلقت في رحلة البحث عن منزل آخر وبعد 6 أشهر سنة 2007 استقبلت أول مسنة "خالتي زهرة" قبل الحصول على الموافقة النهائية من الوزارة.. كنت مضطرة لذلك فخالتي زهرة مريضة بالزهايمر وكانت مقيمة مع ابنة أخيها.. زوجها خيرها بين وجودها أو وجود عمتها في المنزل.. بعد أن اطلعت المرأة على إعلان فتح دار مسنين خاصة الذي نشرته في الجريدة اتصلت بي وأخبرتني بقصتها واقترحت جراية عمتها "175 دينار" مقابل إيوائها فقبلت.. كنت مضطرة لذلك فإما أن تلقى المسنة في الشارع أو تتفصل المرأة عن زوجها.. وقد أقامت خالتي زهرة بدار اللمة حتى وفاتها".
مؤسسة أول دار مسنين خاصة لـ"الترا تونس": التونسيون يقبلون على إيداع ذويهم من كبار السن لكن في كنف السرية ولا ألقي اللوم عليهم لأن حالات الزهايمر مثلًا صعبة جدًا
تقول ليلى قرقورة، في حديثها لـ"ألترا تونس" أن التونسيين كانوا يقبلون على إيداع ذويهم من كبار السن لديها في كنف السرية ويتحرجون من ذلك بسبب نظرة المجتمع وتضيف أنها لا تلقي اللوم عليهم لأن حالات الزهايمر من الصعب جدًا التعامل معها ولا يمكن للعائلة أن تقدم الرعاية اللازمة للمصابين بأمراض الشيخوخة (شلل الرعاش وغيرها).
وتقول محدثة "الترا تونس" "هناك تقنيات وطرق خاصة للتعامل مع المسن المريض ودار الرعاية توفر فرق عمل يتناوبون على السهر على راحة المسن ليلًا ونهارًا وبالتالي ينالون قسطًا من الراحة على عكس العائلة التي تسهر بمفردها على رعاية المسن على مدار 24 ساعة.. وحسب بعض الإحصائيات فإن 75 بالمائة ممن يرعون شخصًا مريضًا بالزهايمر أو مرض شيخوخة يتوفون قبل المريض لأن رعايته تتطلب جهدًا جسديًا وذهنيًا.. أعتقد أن الحل الوحيد هو دار رعاية لأن كل الحلول الأخرى أثبتت عدم نجاعتها على غرار استئجار شخص يرعى المسن في المنزل فمن يضمن أنه سيعامله معاملة حسنة وسيهتم به في دوائه وغيره".
مؤسسة أول دار مسنين خاصة لـ"الترا تونس": 75 بالمائة ممن يرعون شخصًا مريضًا بالزهايمر أو مرض شيخوخة يتوفون قبل المريض لأن رعايته تتطلب جهدًا جسديًا وذهنيًا
وتبيّن مديرة "دار اللمة" أن بعث دار مسنين يستوجب مراعاة الجانب الإنساني لأنه يستهدف شريحة ضعيفة ولا يجب استغلال شخص مريض، كما تؤكد أنها تراعي العائلات التي تقلص من ميزانيتها للاهتمام بمسنيها وإيداعهم في مكان آمن، مشيرة إلى أنها تشعر بالفرحة والرضا عندما تشاهد الفرحة والبهجة في عين المسن وعندما تتلقى دعوات الشكر حتى من مريض زهايمر معتبرة أن ذلك هدفها في الحياة.
من جهته، يرى الأستاذ في علم النفس خلال حديثه لـ"الترا تونس" أن الروابط العائلية في طور التحول وأن الإقامة في دور رعاية المسنين الخاصة أصبحت خيار العديد من كبار السن الذين يتمتعون بوضعية مادية تخول لهم ذلك فيرون أن العيش في مؤسسة أفضل من التعرض ربما إلى معاملة سيئة من قبل الأهل.
الأستاذ في علم النفس عبد الباسط الفقيه لـ"الترا تونس": الروابط العائلية في طور التحول ولإقامة في دور رعاية المسنين الخاصة أصبحت خيار العديد من كبار السن الذين يتمتعون بوضعية مادية جيدة
واعتبر محدث ألترا تونس أن "غياب الظروف الملائمة في الوسط العائلي وغياب الرعاية الأسرية ساهم في تصاعد عدد دور رعاية المسنين الخاصة وأصبح الإقبال عليها بمثابة استهلاك خدمة اجتماعية يحتاجها الشخص في مرحلة الشيخوخة ويفتقدها في وسطه العائلي بسبب الإهمال أو فقدان السند".
ويضيف "المؤسسات الخاصة تقدم خدمات بمقابل مادي باهض بالتالي هي ليست حلًا لذوي الإمكانيات المادية المحدودة.. من الطبيعي أن الوسط العائلي أفضل بالنسبة للمسن لكن العديد من الأشخاص يختارون شيخوخة في مؤسسة تتوفر فيها الخدمات التي تعجز العائلة عن توفيرها بتعلة العمل أو السفر..".
تجدر الإشارة إلى أن وزارة المرأة تخصص فرقًا متنقلة تتكون من إطارات طبية وأعوان اجتماعيين وغيرهم تسهر على تأمين خدمات مختلفة للمسنين في منازلهم بهدف مساعدتهم على البقاء في وسطهم الطبيعي ويبلغ عدد هذه الفرق 40 فريقًا وينتفع بهذا البرنامج 3500 مسن.