مقال رأي
تواترت المؤشرات في الأسبوع الأخير على حلحلة المأزق المالي الذي تقبع فيه الميزانية التونسية، خاصة من حيث توفر الموارد الخارجية من العملة الصعبة ومن ثمة تأمين توريد الأساسيات من المواد خاصة المحروقات والمواد الغذائية وعلى رأسها الحبوب وأيضًا الأعلاف.
رفض الرئيس التونسي قيس سعيّد إقرار اتفاق حكومته الأولي الذي تم في 15 أكتوبر/تشرين الأول 2022 مع صندوق النقد الدولي، ما يعرف بـ"اتفاق الخبراء" وخاصة الجزء المتعلق بالإلغاء التدريجي للدعم.
اللوبيينغ الإيطالي من أجل صفقة ما أتى أكله خاصة بعد ارتفاع قياسي في نسب الهجرة غير النظامية القادمة من تونس، وهو ما أقنع على الأرجح بقية العواصم الأوروبية
اللوبيينغ الإيطالي من أجل صفقة ما أتى أكله خاصة بعد ارتفاع قياسي في نسب الهجرة غير النظامية القادمة من تونس، وهو ما أقنع على الأرجح بقية العواصم الأوروبية بالمقترح الإيطالي لدعم الاقتصاد التونسي.
كنا أشرنا في مقالات سابقة إلى تحوّلات هذا الموقف منذ أسبوعين خاصة إثر لقاء وزيرة الخارجية الفرنسية بوزير الخارجية التونسي. لكن التحوّل الحاسم حصل بين زيارة رئيسة الحكومة الإيطالية إلى تونس وعودتها بعد أيام مع وفد أوروبي رفيع ولقاء الأحد 11 جوان/يونيو الجاري، الذي يمكن وصفه بالمنعطف في ميزان القوى وفي تقبّل الاتحاد الأوروبي بحكم قيس سعيّد وتوجهاته.
لا يمكن المبالغة في أهمية "قمة 11 جوان الأوروبية-التونسية" في قرطاج. تفاصيل الصفقة غير واضحة بعد لكن الاتجاه واضح نحو صفقة شاملة أساسها سياسي قبل أن يكون في التفاصيل المالية والطاقية و الهجرة.
التحوّل الحاسم حصل بين زيارة ميلوني إلى تونس وعودتها بعد أيام مع وفد أوروبي الذي يمكن وصفه بالمنعطف في ميزان القوى وفي قبول الاتحاد الأوروبي بحكم سعيّد وتوجهاته
والأساس السياسي هو قرار جماعي أوروبي بدعم قيس سعيّد يشمل الداعمين الصريحين لقيس سعيّد بقيادة إيطاليا (وعواصم أخرى متحمسة لدعم قيس سعيّد في الأصل بمعزل عن المسألة الديمقراطية من بينها بدرجات متفاوتة بلجيكيا والمجر والبرتغال واليونان) وعواصم أخرى بقيت مترددة لأسباب مختلفة من بينها المسألة السياسية لكن خاصة قدرة قيس سعيّد على الاستدامة وغموض خطه العام خاصة الجيوسياسي، وأهمها باريس وبرلين.
وكان الحضور الهولندي في القمة تمثيلًا للعواصم المترددة أساسًا. الصفقة بشكل عام تتمثل سياسيًا في وضع مسألة الديمقراطية وحقوق الإنسان في مرتبة ثانوية حتى على مستوى الخطاب العلني الشكلي واعتبار العاجل هو دعم مالي سريع وتعاون طاقي استراتيجي وأيضًا صفقة كبرى في التعاون ضد الهجرة غير النظامية لا تزال ملامحها بصدد التشكل.
لم يتضمن البيان الختامي المشترك (هذه المرة لم تصدر بيانات متباينة) أي إشارة للوضع السياسي الداخلي، ويبدو أن ذلك يأتي في سياق قرار اتخذ منذ أسابيع في بروكسال وتم إشعار المتحدثين الأوروبيين به وهو تجنب التعليق على الشأن الداخلي خاصة الديمقراطية وحقوق الإنسان.
الصفقة بشكل عام تتمثل سياسيًا في وضع مسألة الديمقراطية وحقوق الإنسان في مرتبة ثانوية حتى على مستوى الخطاب العلني الشكلي لأوروبا واعتبار العاجل هو الدعم المالي السريع وصفقة كبرى في التعاون ضد الهجرة غير النظامية لا تزال ملامحها بصدد التشكل
القرار الأوروبي يعكس قناعة أيضًا أن الجيوسياسي - الأمني هو الرئيسي في تقييم الوضع في تونس، ويعكس خاصة تخوفًا جماعيًا لا يقتصر على الإيطاليين من أن تصبح تونس منطقة نفوذ روسية-صينية.
بعد الزيارة بيومين، سافر وزير الخارجية الإيطالي تاياني إلى واشنطن للقاء وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن والذي ذهب محملًا بقرار أوروبي مشترك لدعم الرئيس التونسي، خاصة في نقطة التخفيف من الوطأة الاجتماعية للإصلاحات المطلوبة (دعم المواد الأساسية تحديدًا) للحصول على دعم مالي غربي، في صيغة اتفاق صندوق النقد وتمويلات ثنائية.
القرار الأوروبي يعكس قناعة أن الجيوسياسي - الأمني هو الرئيسي في تقييم الوضع في تونس، ويعكس تخوفًا جماعيًا لا يقتصر على الإيطاليين من أن تصبح تونس منطقة نفوذ روسية-صينية
بنى بلينكن على هذا القرار الأوروبي وطلب من الحكومة التونسية علنًا خطة معدلة توجهه لصندوق النقد الدولي، والقرار الأمريكي يشير عمليًا إلى أن الملف التونسي هو ملف أوروبي أساسًا، وهو الأمر الذي تضمن تصريحات مسؤول الملف في الخارجية الأمريكية جون هاريس وعبر عنه في تصريحات علنية في جلسة الاستماع في الكونغرس منذ أسابيع.
بعد طلب بلينكن خطة "معدلة" (لاتفاق 15 أكتوبر/تشرين الأول 2022) صرح مسؤول حكومي يوم 13 جوان/يونيو الجاري لرويترز أن تونس ستقدم فعلًا خطة معدلة "بديلة".
إذا أخذنا بجدية تصريحات الرئيس التونسي في الأسبوعين الأخيرين حول البدائل فسيكون على الأرجح "التعديل" في مستوى النظام الضريبي بترفيع الضرائب حسب الدخل والتركيز على الأكثر دخلاً وثروة. وزير الاقتصاد سمير سعيّد صرح منذ يومين أن الحكومة "ستراعي" الجانب الاجتماعي كما طلب الرئيس.
تسلسل الأحداث اكتمل ببيان يوم 15 جوان/يونيو الجاري من قبل الذراع الثاني في مؤسسات بريتون وودز أي البنك الدولي من خلال إعلان استئناف إطار التمويل الثنائي، من خلال إعلان تمويل على مدى خمس سنوات بقيمة سنوية بين 400 و500 مليون دولار. يأتي ذلك بعد تعليق الاتفاق الإطاري في مارس/آذار الماضي إثر تصريحات الرئيس سعيّد في خصوص الأفارقة من جنوب الصحراء.
نحن الآن إزاء مقدمات لكن لن تكتمل دون مسألتين أساسيتين. أن يثبت أن خطاب الرئيس المتصاعد في تحديه للمؤسسات المالية الدولية، هو أساسًا للتسويق السياسي الداخلي، وأن سياسة الحكومة ستكون متقاربة عمومًا مع الإجراءات العملية، خاصة وأن رفع الدعم تم تضمينه في ميزانية 2023 التي أمضاها الرئيس، كما أن وزارة المالية أعلنت هذا الأسبوع فقط تراجع قيمة دعم المواد الأساسية من 400 مليون دينار خلال الثلاثي الأولى من عام 2022 إلى 42.9 مليون دينار نهاية مارس/آذار الفارط وهو ما يعني تسجيل انخفاض بقيمة 357.1 مليون دينار وبنسبة 89.3 % وفقًا للمذكرة الأخيرة الصادرة حول تنفيذ ميزانية الدولة نهاية مارس/آذار 2023.
أمين المظالم الإيطالي لحقوق الأشخاص المحتجزين صرح أن 3154 شخصًا فقط تم ترحيلهم إلى بلدانهم منذ بداية السنة ومن بينهم 2308 نحو تونس
الاتجاه الثاني أن التصريحات الرسمية للرئيس الرافضة لأن تكون تونس "حارس حدود" لا تتطابق بالضرورة مع السياسات العملية في إعادة القبول والترحيل. وكان أمين المظالم الإيطالي لحقوق الأشخاص المحتجزين، مارو بالما قد صرح (نقلًا عن وكالة نوفا الإيطالية) أن 3154 شخصًا فقط تم ترحيلهم إلى بلدانهم منذ بداية السنة من إجمالي 6383 أجنبيًا.جرى إيواؤهم في مراكز الترحيل في عام 2022.
ويتوزع المرحلون إلى 2308 إلى تونس مقابل نسب ضئيلة لبقية الدول منهم 58 إلى ألبانيا، 359 إلى مصر، 189 إلى المغرب. كما أعلنت في الأسبوع الأخير وزارة الداخلية الإيطالية تسليم 82 مركبة جديدة إلى تونس للتصدي للهجرة غير النظامية.
عمليًا الصورة العامة تبدو متجهة إلى أن صفقة كبرى بصدد الاكتمال بحيث ظهر سعيّد في صورة من فرض على الجانب الأوروبي ترحيل المسألة السياسية الحقوقية إلى مجال التهميش التام والحصول على دعم سياسي قوي
عمليًا الصورة العامة تبدو متجهة إلى أن صفقة كبرى بصدد الاكتمال. من جهة نجح قيس سعيّد في الخروج في صورة من فرض على الجانب الأوروبي ترحيل المسألة السياسية الحقوقية حتى شكلاً إلى مجال التهميش التام، والحصول على دعم سياسي قوي.
والاتفاق على صيغة مقايضة الحد الأمني من الهجرة غير النظامية وربما حتى أن تكون لتونس صفة "بلد آمن ثالث" (سيتضح مدى دقة ذلك في "مذكرة التفاهم" المتوقعة آخر شهر جوان/يونيو الجاري) مقابل تخفيف نسبي لشروط الإصلاحات مقابل الدعم المالي، أو على الأقل تأجيلها بما يسمح باستقرار اجتماعي ومن ثمة سياسي. وربما يكون أجل التأجيل هو الانتخابات الرئاسية المنتظرة في تونس موفى 2024.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"