مقال رأي
تم الإعلان عن تركيبة حكومة نجلاء بودن كما يحلو للبعض تسميتها، في ربط برئيسة الوزراء الجديدة التي مثل الكشف عن اسمها مفاجأة لعموم التونسيين. وفي الحقيقة، كل ما ارتبط بهذه الحكومة مثل مفاجأة وكان غير مألوف واعتيادي.
لم تمر الحكومة لنيل الثقة على البرلمان، كما ينص على ذلك الدستور التونسي لسنة 2014، إذ تم تكليفها وفق أمر رئاسي في ظل تواصل تعليق أشغال البرلمان في تونس دون حل له بشكل نهائي ولكن دون تحديد أي وظائف له في هذه المرحلة. في المقابل ومن باب المفارقة، قرأ أعضاؤها ورئيستها اليمين وفق دستور 2014.
ولم تنتج تركيبة الحكومة عن توافقات وائتلافات حزبية وسياسية كما جرت العادة ما بعد الثورة، كما ترأسها شخصية أكاديمية مجهولة تقريبًا في عالم السياسة والاقتصاد والنشاط المدني والشأن العام، وهي سيدة في استثناء عربي تونسي، وهي أيضًا أولى الحكومات إبان الثورة التي يؤكد جزء من التونسيين أنها "فاقدة للشرعية" لعدم مرورها بالمسار الذي ينص عليه الدستور التونسي، والذي تم تعليق معظم أبوابه وإيقاف العمل بفلسفته العامة (النظام شبه البرلماني) من قبل الرئيس.
كان منتظرًا أن تجمع حكومة بودن مقربين من الرئيس سعيّد وأن تتضمن شخصيات من عالم القانون وأخرى كانت فاعلة في حملته الانتخابية سنة 2019
لكن حكومة بودن، والتي ضمت 25 عضوًا من بينهم 9 نساء، لم تكن مفاجئة من حيث تركيبتها، على الأقل بالنسبة للفاعلين والمتابعين للشأن السياسي التونسي. كان منتظرًا أن تجمع بين مقربين من الرئيس قيس سعيّد، وهو الذي أعطى لنفسه صلاحيات تكوينها فعليًا في الأمر الرئاسي 117، وأن تتضمن شخصيات من عالم القانون وهو اختصاص سعيّد الدراسي والمهني والذي اعتاد أن يعيّن شخصيات من ضمنه، وأن تضم شخصيات كانت فاعلة في حملته الانتخابية سنة 2019 وكانت وراء بلوغه كرسي قرطاج، وقد سبق أن توجه لذلك في أولى تعييناته على مستوى الولاة، وأن لا تخلو من تعيينات لموظفين حكوميين في الدولة وأساتذة تعليم عال كما تم الاختيار على رئيسة الوزراء نجلاء بودن، وهي الشخصيات التي صار يتداول تونسيًا تسميتها بـ"التكنوقراط" في إحالة (لا تكون دائمًا سليمة) إلى كونها شخصيات ذات كفاءة علمية ودون مواقف إيديولوجية أو انتماءات حزبية.
اقرأ/ي أيضًا: تضم 25 عضوًا من ضمنهم 9 نساء: تركيبة حكومة نجلاء بودن
في قراءة أولى، يمكن القول إننا أمام حكومة مكونة بالأساس من مسؤولين إداريين (الوظائف الحكومية) ومن مقربين للرئيس قيس سعيّد أو أعضاء ومنسقين في حملته خلال انتخابات سنة 2019.
من ذلك اختيار مالك الزاهي لمنصب وزير الشؤون الاجتماعية وهو الذي كان منسقًا للحملة الانتخابية للرئيس سعيّد في منوبة، حسب سيرته الذاتية التي نشرتها شقيقته. وكذلك اختيار توفيق شرف الدين، المعيّن سابقًا ومن جديد كوزير للداخلية في حكومة بودن والذي كان منسق الحملة الانتخابية لسعيّد في سوسة.
من الشخصيات التي تم الإعلان عنها في حكومة بودن، نذكر أسماء مقربة من سعيّد وكان وراء تعيينها في حكومة هشام المشيشي قبل أن يقوم الأخير، بعد تغييره لتحالفاته بإقالتها، نذكر ليلى جفال، التي كانت قد عُينت في منصب وزيرة أملاك الدولة والشؤون العقارية في حكومة هشام المشيشي الأولى، وها هي تعين وزيرة للعدل في حكومة بودن.
تمت أيضًا إعادة تعيين كمال دقيش وزيرًا للشباب والرياضة وقد سبق له تولي حقيبة الشباب والرياضة في حكومة هشام المشيشي الأولى، والتي كان يُقال إنها "حكومة الرئيس" قبل أن تتم إقالته في مارس/ آذار 2021.
كان لافتًا محافظة سعيّد على عدد من وزراء حكومة المشيشي، رغم كل الانتقادات التي وُجهت لهذه الحكومة، وهي كلها شخصيات كانت تحظى بدعم سعيّد منذ تعيين المشيشي رئيسًا للحكومة
كما كان لافتًا محافظة سعيّد على عدد آخر من وزراء حكومة المشيشي، رغم كل الانتقادات التي وُجهت لهذه الحكومة، وهي كلها شخصيات كانت تحظى بدعم سعيّد منذ تعيين المشيشي رئيسًا للحكومة ونذكر منها أيضًا فتحي السلاوتي، وزير التربية والتعليم وهو الذي كان شغل ذات المنصب منذ سبتمبر/ أيلول 2020 ولا يزال يشغله.
نلاحظ أيضًا في قراءة للأسماء المُعلن عنها طغيان دراسة القانون على اختلاف اختصاصاته ومساراته على المختارين في المناصب الوزارية، وهو أمر مألوف، كما سبق أن ذكرت، بالنسبة للرئيس سعيّد الذي عادة ما يختار شخصيات من دائرته المضيقة أو من ضمن مجموعات يعرفها جيدًا بحكم دراسته للقانون وتدريسه لعقود لمادة القانون الدستوري في الجامعات التونسية.
نذكر كأمثلة فقط عماد مميش الذي تم اختياره لمنصب وزير الدفاع وهو أستاذ جامعي محاضر في كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس. وقد درّس القانون بكلية الحقوق والعلوم السياسية بسوسة. وهو حاصل على درجة الدكتوراه في القانون الخاص والعلوم الجنائية.
وعيّنت كذلك ليلى الشيخاوي وزيرة للبيئة وهي أستاذة في القانون العام، ومتحصلة دكتوراه في القانون من جامعة باريس الأولى. وتدرس القانون البيئي منذ 2013 في كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس. وكان قد تم تعيينها في عام 2014 كعضو في الهيئة المؤقتة لمراقبة دستورية مشاريع القوانين.
تبدو حكومة بودن غامضة من حيث برنامج عملها، إذ اكتفت الأخيرة، خلال الإعلان عن التركيبة، بتقديم كلمة موجزة تضمنت أفكارًا عامة وشعارات صالحة لكل الأزمنة دون أي توضيح عن طرق التنفيذ أو المراحل أو الأولويات
لكن بعيدًا عن الأسماء وخلفياتها وعلاقاتها بالرئيس التونسي، تثير نقطتان مهمتان الانتباه. أولًا، تبدو حكومة بودن غامضة من حيث برنامج عملها، إذ اكتفت الأخيرة، خلال الإعلان عن التركيبة، بتقديم كلمة موجزة تضمنت أفكارًا عامة وشعارات صالحة لكل الأزمنة والأماكن من قبيل "إعادة الثقة والأمل، ضمان الأمن الاقتصادي والصحي للمواطن، استعادة الثقة في مؤسسات الدولة، إرجاع ثقة المواطن وثقة الخارج في بلادنا، مكافحة الفساد، تطوير طرق عمل الوزارات، المراقبة والمحاسبة.."، دون أي أفكار عن طرق التنفيذ أو المراحل أو الأولويات، رغم التركة الثقيلة التي تركتها الحكومات السابقة المتعاقبة إبان الثورة وحجم التداين القياسي. وبرر الكثيرون ذلك بما تضمنه الأمر الرئاسي 117 من كون بودن ستطبق برنامج وتوجهات الرئيس سعيّد وهي ليست في محل تقديم خطة مضبوطة المعالم.
نقطة ثانية كانت لافتة، وهي غياب أي سقف زمني لهذه الحكومة، إذ من ناحية، تقول نجلاء بودن خلال كلمتها "في هذه المرحلة الانتقالية.."، أي أنها تقر منطقيًا بأنها محددة بفترة ما لكن من جانب آخر، يقول سعيّد في كلمته التي تلت كلمة بودن إن "تونس ستبقى في ظل التدابير الاستثنائية طالما بقي الخطر الجاثم في المجلس النيابي ومؤسسات أخرى"، في إشارة إلى أن هذا الوضع ـ المرحلة الاستثنائية كما يسميها ستستمر ومن غير الواضح إن كان ذلك لأشهر أو سنوات أو غير ذلك.
التساؤل هنا كيف ستشتغل هذه الحكومة وتحدد مهامها دون معرفة سقفها الزمني وأولوياتها؟ لا إجابة واضحة ولا تبدو الصورة واضحة لدى الكثيرين على الأقل، كمثال الاتحاد العام التونسي للشغل، المنظمة الشغيلة النشطة وذات التأثير في المشهد التونسي، كانت تدعو منذ أيام قليلة فقط إلى "حكومة مصغرة ومحددة المدة، وتعمل على ملفات عاجلة وعلى التجهيز لانتخابات سابقة لأوانها"، لكن لا يبدو أن شيءًا من ذلك ضمن هندسة حكومة بودن.
من اللافت غياب أي سقف زمني لهذه الحكومة، إذ تصف بودن في كلمتها هذه المرحلة بالانتقالية لكن سعيّد يؤكد أن "التدابير الاستثنائية متواصلة لتواصل الخطر الجاثم"
على مستوى الهيكلة، تم حذف وزارة الشؤون المحلية التي كانت مدمجة مع وزارة البيئة، وهنا يُطرح تساءل جدي عن الجهة التي ستمثل السلطة المركزية والتي ستشرف على مختلف الاختصاصات المشتركة مع المجالس البلدية، إذ من غير الواضح للآن إن كان تم إلحاقها بوزارة أخرى من عدمه.
كما تم الفصل بين وزارتي المالية والاقتصاد والتخطيط بعد أن كانت وزارة واحدة تحمل اسم وزارة الاقتصاد والمالية ودعم الاستثمار. وتم الفصل أيضًا بين وزارتي الشباب والرياضة والتشغيل والتكوين المهني بعد أن كانت وزارة واحدة في حكومة هشام المشيشي.
ومن حيث الهيكلة، تم التخلي عن وزارة العلاقة مع البرلمان والمجتمع المدني وكان هذا بديهيًا ومنتظرًان بالنظر للتعليق الكامل لأعمال البرلمان منذ 25 جويلية/ يوليو الماضي وعدم وجود أي دور له في الأمر الرئاسي 117 الذي تم وفقه الإعلان عن هذه الحكومة وتعيين رئيستها.
وفي الحقيقة لا يهتم التونسيون، أغلبهم للأمانة وتجنبًا للتعميم والتصنيف، بالكثير من التفاصيل في علاقة بتركيبة الحكومة وخلفيات أعضائها وماضيهم وإن كانت مهمة..، لكن ما يبدو حديثهم اليومي في الشارع، وقد كان محل اهتمامهم بالنسبة للحكومات السابقة أيضًا، ولم يجد بدوره إجابات من السيدة بودن: ماذا عن الميزانية التكميلية لسنة 2021؟ ما الذي سيميز ميزانية السنة القادمة؟ أي سياسة لهذه الحكومة على مستوى الأجور (زيادات/ تجميد..)، على مستوى الانتدابات، أي توجه بالنسبة للمديونية؟ وغير ذلك من أسئلة لن تجيب عنها هذه القراءة الأولية.. لكن لنا عودة للمتابعة بعد أشهر قليلة أو ربما أقل.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"
اقرأ/ي أيضًا: