مقال رأي
لم يفلح مشرُوع قانون المصالحة المقترح من رئيس الجمهورية، إلى حدِّ المحاولة الثالثة، في الحصول على تأييد سياسي مريح وإقناع الشارع التونسي به، رغم المحاولات المتعددة لترويجه عبر تجنيد فريق عمل كامل من قبل مؤسسة الرئاسة لإقناع المواطن التونسي بأن الأموال المسترجعة عبره ستوفر العديد من فرص العمل، وستوظف في الاستثمار في المناطق الداخلية، وذلك في حيلة ممنهجة لتغليف الطابع السياسي لمشروع القانون بقناع اقتصادي صرف.
مشروع القانون، الذي يعصف بمسار العدالة الانتقالية، ضاربًا فكرة "القطيعة مع الماضي"عرض الحائط، كي يؤسس لاستئناف إعادة إنتاج نفس النظام السياسي والاقتصادي بنفس الميكانزمات؛ كان سببًا أساسيًّا في بروز حراك رفض شعبي متمثل في "مانيش مسامح"، كحملة شبابية للوقوف في مواجهة هذا القانون، وذلك كآخر شعلة للثورة التونسية.
يعصف قانون المصالحة بمسار العدالة الانتقالية، ويعيد إنتاج نظام ما قبل الثورة
هذا الحراك الذي أسقط مشروع قانون المصالحة في دورتين متتاليتن، كمسودة منفردة وكفصولٍ حاول نوَّاب السلطة تمريرها صلب قانون المالية؛ قد نجح بدوره في حشد مسيرة كبيرة في شارع الحبيب بورقيبة يوم السبت الماضي، خالقًا أشكالًا جديدة من الاحتجاج ، بطابع شبابي صرف، عبر خلق محركات جديدة للشارع، أعادت إليه النبض بعد ركود نسبي.
استعمال الطبول كإشارة لإعلان الحرب على الفساد، وأقنعة "أنونيموس"، ورفع الشعارات البعيدة عن التجاذبات الحزبية، والموجهة أساسًا نحو التنديد بالفساد والتشهير بالفاسدين؛ كلها عوامل نجحت في استقطاب المواطن العادي لتبني الاحتجاج، بعد أن نفر من الصراع السياسي المتمركز حول السلطة والقضايا الهامشية التي لا تعني المواطن العادي. هذا إضافة إلى الروح الشبابية المؤطرة للحملة، من شباب مستقل حزبيًا.
وقد نجح حراك "مانيش مسامح"، بعد نجاح السلطة النسبي في امتصاص تأثير "الشارع"، وتحول الاحتجاجات إلى حدث نمطي لا يثير المواطنين، في خلق آليات جديدة أهمها الاستقلالية، وغياب الوجوه السياسية المعتادة، والحضور الذكي في وسائل التواصل الاجتماعي.
وقد عمل "الفريق" المشكَّل من قبل رئاسة الجمهورية، على حشد دعاية ممنهجة لمهاجمة هيئة الحقيقة والكرامة، والتقليل من نجاعة عملها واعتبارها هيئة مختزلة في شخص سهام بن سدرين، إلى جانب العمل على تشويه حراك "مانيش مسامح"، واعتباره امتدادًا لمناصرة رئيسة الهيئة، وحتى للرئيس السابق منصف المرزوقي، وهي حجج مردودٌ عليها باعتبار أن الناشطين صلب الحراك، قد أعربوا عن جملة من التحفظات فيما يتعلق بسير عمل هيئة الحقيقة والكرامة، وباستقلالهم عن كل مكون سياسي، وذلك دون الامتناع عن تبني أحزاب سياسية أو جمعيات ومنظمات للحملة وهدفها الأساسي المتمثل في إسقاط قانون المصالحة بكلِّ صِيغه.
قانون المصالحة في حلته الجديدة، ودون أي غطاء دستوري، سَحب البساط في فصله الأخير من هيئة الحقيقة والكرامة فيما يتعلق بملفات الفساد الاقتصادي والإداري، كي يحيلها للجنة تكون كل أعمالها سريّة، إضافة إلى أن تقديم الاعتذار لن يكون للشعب التونسي، بل للجنة تنشر أعمالها في تقرير نهائي، بالإضافة إلى أنه يفتح الباب أمام المهربين وبارونات الفساد لإيداع أموالهم دون محاسبة فيما يتعلق بجرائم الصرف.
يفتح قانون المصالحة الباب أمام كبار الفاسدين لإيداع أموالهم دون محاسبتهم
ومن الغريب استخدام أبواق المدافعين عن النسخة الجديدة من مشروع القانون لتوصيات لجنة البندقية، كغطاء "يشرِّع" لقانون المصالحة، معتبرين أنها لم تر في وجود هيئتين مختلفتين ضربًا لمسار العدالة الانتقالية، وذلك رغم أن تقرير لجنة البندقية، قد وضح أن وجود لجنتين سيكون مشروعًا، إلا في حال عدم المساس بمسار العدالة الانتقالية، وهو ما لا نجده صلب مشروع قانون المصالحة، الذي قام أساسًا على حسابات ومُقايضات سياسية مع رجال أعمال، موّلوا الحملة الانتخابية للرئيس الحالي وحزبه، إلى جانب محاولة أخيرة لانقاذ أصدقاء الأمس عبر عفو شامل يحميهم من التتبعات القضائية.
وعلى صعيد الأجندات الحزبية، فإن حركة النهضة استجابت في النهاية للضغط الشعبي، ليصوت البارحة مجلس شورى الحركة ضد مشروع قانون المصالحة في صيغته الحالية، وذلك في مناورةٍ سياسيةٍ تظهرها في ثوب المتبني للمطالب الشعبية، دون خسارة حليف السلطة نداء تونس، الذي ستواصل التفاوض معه بمنطق سياسي دون الاهتمام بالجانب القانوني المنهار أساسًا لمشروع القانون.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"