قبل كتابة هذه الأسطر بأيام، اكتشفت عبر مقال لصحفي أمريكي مهتم بالشأن الثقافي على أحد المواقع المحترمة أن رقم حذاء المغنية وعارضة الأزياء باريس هلتون هو مقاس 43. غريب هو الأمر ولكنه صحيح، لكن الأغرب من ذلك كيف يمكن لخبر مثل هذا لتفاهته أن يجد مكانه بين الأخبار المهمة ويتابعه الملايين حول العالم ويثير اهتمامهم حتى أصبح نقطة جذب لقراء الصحيفة. يبدو أن التفاهة تخوض معركتها الأخيرة للتحكم في العالم.
فعندما يصرح رئيس أكبر دولة في العالم، والحديث عن الولايات المتحدة الأمريكية، ضد عدوه رئيس كوريا الشمالية قائلًا "زري النووي أكبر من زرك" أو عندما يغرد على تويتر قائًلا "أنا لست مجرد ذكي ...بل عبقري جدًا"، فاعلم أن التفاهة قد تغلغلت في أعلى دوائر الحكم في العالم ما يجعلنا أمام خطر زاحف عنوانه ببساطة هو التفاهة.
يقودنا هذا الحديث إلى ما قاله الفيلسوف الكندي آلان دونو في كتابه La médiocratie (التفاهة) بأن الأمر يتعلق بـ"ثورة تخديرية تدعونا إلى الوسطية". والوسطية بتعبيره هي "التي تعني التفكير برخاوة ورمي القناعات في القمامة لنصبح كائنات طيعة يسهل اقتيادها ومبادلتها أو ركنها جانبًا، وهذا لتسيير النظام الاقتصادي ـ الاجتماعي السائد والذي أوصل إلى انهيار لا محدود. أما على صعيد العالم فلقد سمح بتوحش رأس المال الذي ألغى الحدود على الكرة الأرضية دون عائق".
تسربت التفاهة في تونس إلى كل المجالات تقريبًا والأمثلة لا تنضب عن مساهمة التفاهة في فساد اللغة والمثقفين والفن والثقافة والدولة
طبيعي أن تونس لم ولن تسلم من هذه الظاهرة العالمية حتى أنها تسربت إلى كل المجالات تقريبًا والأمثلة لا تنضب عن مساهمة التفاهة في فساد اللغة، والأفكار، والمثقفين، والوسط الجامعي، والاقتصاد، والفن، والثقافة والدولة.
لا تستغرب إذا دخلت "فيسبوك" التونسيين ووجدت أن التدوينات الحاصلة على عدد كبير من الإعجابات والمشاركات هي في غالبيتها تدوينات لا تحمل قيمة علمية أو ثقافية. قبل أشهر من الآن، نشرت فتاة جميلة على صفحتها على "فيسبوك" تدوينة تتكون من كلمتين تعلن من خلالهما أنها انتهت للتو من أكل تفاحة قائلة "كليت تفاحة"، وحصلت هذه التدوينة على عدد كبير من الإعجابات إضافة إلى التعليقات التي عجت بالمتملقين. ليس هذا فحسب بل لا تستغرب إذا وجدت تدوينات من نوع "صباح الخير" أو "تصبحون على خير " قد حصدت آلاف "اللايكات".
اقرأ/ي أيضًا: الرداءة.. "هي تطيح وأنا نطلّعها"
ويمتلك التونسيون في غالبيتهم سلوكًا لا تمتلكه الشعوب الأخرى وهي "التنبير" أي السخرية، وقد انتشرت هذه الظاهرة بعد الثورة حتى أن التونسيين أصبحوا يسخرون من كل شيء حتى أن لفظ "مناضل" أصبح "مناذل" ولفظ تونس أصبحت "طونس" كدلالة على السخرية. ساهم هذا السلوك وإن كانت له إيجابيات كثيرة في تدمير الكثير من المعايير المهمة للمجتمع، على الأقل ما يمكن تسميته "المجتمع الفايسبوكي".
كما أسس لثقافة التفاهة التي أصبحت تسخر من كل شيء جدّي، ومهم وله قيمة علمية حتى أن البعض أصبح يفكر ألف مرة قبل نشر تدوينة يتحدث فيها عن تجربة خاصة أو يسجل فيها موقفه مما يحصل في تونس باعتبار أن ألفاظًا مثل "ثورة" و"مناضل" و"ناشط" و"خبير" أصبحت محلًا للسخرية.
يُعتبر، في الأثناء، الارتقاء بوعي الشعوب وظيفة الإعلام الأولى في كل دول العالم، لكن في العالم العربي وفي تونس تحديدًا أصبح للإعلام وظيفة عكسية وهي تدمير وعي الشعوب من خلال اعتماد التفاهة سياسة عامة.
قبل سنة من الآن، قالت إحدى الضيفات في برنامج ترفيهي على قناة تونسية خاصة تعليقًا على غلاء سعر الطماطم أنها ستشتري الطماطم لكلبتها ولو بلغ ثمن الكيلوغرام الواحد مائة دينار وأنه ليس على الفقراء شراء الطماطم إن كانوا لا يملكون مالًا حسب قولها. وقد خلق هذا التصريح على تفاهته حالة من الجدل خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ انتشر فيديو التصريح انتشار النار في الهشيم، وقد أصبح هذا التعبير أيضًا تافهًا لدى البعض، وحظي بآلاف الإعجابات والمشاركات. بل وأصبحت الضيفة المغمورة محل اهتمام الجميع حتى أن عدد متابعيها على "فيسبوك" و"أنستغرام" قد زاد بشكل كبير. ومنذ ذلك الوقت لا تمر حلقة من البرنامج دون تصريح غريب من الضيفة نفسها لينتشر مرة أخرى ويحظى مرة أخرى بالإعجابات والمشاركات رغم التعليقات السيئة. بذلك حظي البرنامج بإشهار مجاني من خلال التصريحات المثيرة للجدل.
يُعتبر الارتقاء بوعي الشعوب وظيفة الإعلام الأولى في كل دول العالم، لكن في العالم العربي وفي تونس تحديدًا أصبح للإعلام وظيفة عكسية وهي تدمير وعي الشعوب من خلال اعتماد التفاهة سياسة عامة
أصبحت التفاهة، في تونس أيضًا، عنوانًا لبعض الأعمال التلفزيونية من نوع "السيت كوم"، ولعل من شاهد إنتاجات رمضان 2018 التونسية سيكتشف أن الإعلام قد انتقل إلى مستوى أخر من التفاهة. غياب تام للحبكة القصصية، وعدم وجود ترابط للأحداث، وغياب التسلسل، وحوار ضعيف، وانتقال من مشهد إلى مشهد دون تقديم معلومات كافية مع عدم القدرة على تنفيذ الهدف الأول للمسلسل وهو الإضحاك. يقول أستاذ السيناريو سيد فيلد أن المشهد الذي لا يقدم معلومات عن البطل أو يتقدم بأحداث القصة يجب حذفه فورًا، فإذا طبقنا كلام السيد فيلد فإن إنتاجات بأكملها سيتم حذفها نظر لعدم توفرها على قصة واضحة.
في عام 1986، حصل الكاتب والمفكر نعوم تشومسكي على "وثيقة سريّة للغاية" يعود تاريخها إلى ماي، آيار 1979، وتحمل عنوان "الأسلحة الصّامتة لخوض حرب هادئة"، وهي عبارة عن كتيّب أو دليل للتحكّم في البشر. وتحمل الوثيقة 10 إستراتيجيات يتبعها الإعلام للسيطرة على الشعوب أولها "الإلهاء"، وتقول الوثيقة في هذا الصدد "حافظوا على تحويل انتباه الرأي العام بعيدًا عن المشاكل الاجتماعية الحقيقية وألهوه بمسائل تافهة لا أهمية لها. أبقُوا الجمهور مشغولًا، مشغولًا، مشغولًا دون أن يكون لديه أي وقت للتفكير، فقط عليه العودة إلى المزرعة مع غيره من الحيوانات الأخرى".
اقرأ/ي أيضًا: فن الكوميديا في تونس.. تهريج وابتذال
يبدأ الأمر بتصريح تافه أو إنتاج تافه أو فكرة تافهة، يسخر الجمهور الواعي من هذه التفاهة لتخلق سخرية الجمهور إشهارًا مجانيًا للبرنامج شيئًا فشيئًا، فتنتقل تلك السخرية التي يقوم بها الجمهور بحكم القصف المركّز للتفاهة إلى قبول مبدئي، ثم يبدأ النظر إلى ذلك الشيء التافه على أنه شيء عادي إلى أن يصبح المفضل لديه، ثم يتم تدمير الوعي نظرًا لعدم وجود منافسة ليضطر في النهاية إلى القبول بالأمر الواقع وهو ما يؤثر تباعًا على الذوق والذكاء والإبداع.
الإعلام الباحث عن نسب المشاهدة الذي عجز عن الحصول عليها من خلال برامج قيمة أثر بشكل مباشر على الحياة العامة والحياة السياسية حتى أن بعض المسؤوليين في الدولة انتقل إليهم هذا الورم. فعندما يصرح وزير تونسي بأن زيت الزيتون ليس من ثقافة التونسيين، والحال أن تونس في منافسة شديدة مع أسبانيا للحصول على المركز الأول عالميًا في إنتاج زيت الزيتون، لا بد أن نتوقف.
وعندما تواكب قيادات في الدولة وقيادات حزبية افتتاح مركز لتقشير وتكسير اللوز والفستق فإعلم أن الورم قد تغلغل في السياسة. المهن أيضًا لم تسلم من التفاهة لتغيب المهن القيمة والمهمة وتحل محلها مهن بلا قيمة مضافة ما يؤثر بشكل مباشر على الاقتصاد التونسي.
الإعلام الباحث عن نسب المشاهدة الذي عجز عن الحصول عليها من خلال برامج قيمة أثر بشكل مباشر على الحياة العامة والحياة السياسية حتى أن بعض المسؤوليين في الدولة انتقل إليهم هذا الورم
الفيلسوف الكندي ألان دونو صاحب كتاب "التفاهة" يستعيد كارل ماركس الذي تأسف باكرًا جدًا لفقدان المهنة معانيها وقيمتها وتحولها إلى مجرد وظيفة يمكن استبدالها بسهولة ويمكن لأي كان القيام بها. فأجهزة السلطة تعمل، بواسطة استراتيجياتها، من أجل الإبقاء على الفاعلين الاجتماعيين "عاديين"، والمزعج في ذلك أنه يفرض كبت إمكانياتها باعتبار أن التفاهة على مستوى السلطة تمنع بروز الأداء المميز والمستقيم.
لكن هل يمكن مواجهة تفاهة التافهين؟ لا يمتلك دونو أي وصفة سحرية لمواجهة جيوش السوس من التافهين لكنه من خلال كتابه "التفاهة" يعطي تقييمًا مهمًا لما يعيشه العالم اليوم من خلال صعود اليمين المتطرف الذي يهدد الديمقراطيات.
لقد حسم التافهون معركتهم دون إطلاق رصاصة واحدة ودون الحاجة إلى اجتياح الباستيل أو حريق الرايخستاج ولعل لوحات الرسام داميان هيرس التي تباع بملايين الدولارات رغم سخريته من حرفائه خير دليل على ذلك. فلننتظر استبدال الديمقراطية (la démocratie) بحكم التفاهة (la médiocratie) إذن!
اقرأ/ي أيضًا: