مقال رأي
لم يعد خافيًا أن أرضنا الطيبة تمر بفترة قد تكون من أحرج فترات تاريخها الحديث، فلقد أضيف إلى تراكمات فشل دولة ما بعد الاستعمار، الفشل الذريع الآخر لنخب ما بعد ثورة 17/14. ثم جاءت جائحة كورونا لتجد البلاد على شفير هاوية الإفلاس المالي والانهيار الاقتصادي والاجتماعي، مما ضاعف من وتيرة الانزلاق وفاقم مخاطر الانهيار الذي قد يذهب بالبلاد إلى سيناريوهات لا يمكن التنبؤ بعواقبها.
وكانت انتخابات 2019، الرئاسية والتشريعية، قد صعّدت إلى سدة الحكم فسيفساء سياسية غير متجانسة ومتصارعة في سرها وعلنها سواء داخل الحكومة أو في أروقة البرلمان أو بين الرئاسات الثلاث أي قرطاج وباردو والقصبة.
لا تزال نخب ما بعد الثورة منشغلة بالمماحكة والجدل السياسي والأيديولوجي القديم في استنساخ لتجارب الصراع المقيت
وطبيعي أن يمثل كل ما سبق مناخًا ملائمًا جدًا للجهات الخارجية والداخلية التي تخفي في أدراجها مشاريع نائمة وجاهزة للهدم تترصد الفرص للانقضاض على التجربة الديمقراطية ووأد آمال أجيال "هرمت من أجل هذه اللحظة التاريخية".
وهو ما يفسر تجدد الدعوات إلى محو المشهد السياسي الحالي عبر مخططات مختلفة، فتجد من يدعو إلى حل البرلمان وتعطيل الدستور في حين أن آخرين يجاهرون بالانقلاب الصريح ويدعون أجهزة الجيش والأمن الى مسك السلطة بل إن بعضهم لم يتوان عن الدعوة الصريحة إلى سفك الدماء وكأنها استعادة للمثل الشعبي "سال الدم زال الهم "، نعم هكذا ببساطة!
اقرأ/ي أيضًا: هل أتاك حديث البكتيريا السياسية في تونس؟
كل ذلك ونخب ما بعد الثورة لا تزال منشغلة بالمماحكة والجدل السياسي والأيديولوجي القديم في استنساخ لتجارب الصراع المقيت ذلك الذى شهدته الجامعة التونسية في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي خاصة أن زعماء الجامعة بالأمس هم ذاتهم من يقودون المشهد السياسي الحالي، فكأن بهم خرجوا للتو من كهف الدكتاتورية ولم ينتبهوا إلى مرور الزمن وتغير المعطيات والعقليات والأجيال ذاتها، فعاودوا جولات الصراع ذاته بنفس الأسلوب والخطاب في معركة غير قابلة للحسم لن تتجاوز تسجيل النقاط الصغيرة مهما بدت ضراوتها.
وفي المقابل، لم تزد تلك المناوشات عن إبراز الفرقاء كما لو أنهم خارج التاريخ وخارج تطلعات وأفق انتظار الغالبية الساحقة من الشعب الكريم الذي لا يزال يترقب بشغف إنجازًا ما يترجم مباشرة في معاشه اليومي وينقذه من شظف العيش ومن البؤس الذي مازال يزحف يومًا بعد آخر.
ليس أمام الفاعلين السياسيين من خيار أخير سوى تعديل المسار إلى الاتجاه المعاكس بتجميد خلافاتهم وتأجيل صراعاتهم إلى أن تتعافى البلاد
لكن "هل كان بالإمكان أحسن مما كان"؟ نظريًا نعم. كان بالإمكان ومازال بالإمكان شرط تجديد وعي النخب بدرجة خطورة المرحلة ودقتها وبكونها تشكل منعطفًا تاريخيًا خطيرًا على البلاد والعباد، وتقع المسؤولية على النخبة بالدرجة الأولى لأنها في النهاية ستتحمل لا محالة وزر ما سيقع.
وبالنتيجة، ليس أمام الفاعلين السياسيين من خيار أخير سوى تعديل المسار إلى الاتجاه المعاكس بتجميد خلافاتهم وتأجيل صراعاتهم إلى أن تتعافى البلاد وإخلاص النوايا وتوحيد الجهود نحو هدف وحيد وهو مواجهة الخطر وإنقاذ الوطن وبذلك وحده يمكن أن تنحصر أصوات الهدم ومشاريعه وتعود إلى مكمنها، وبدون ذلك سيكون لسان حال الجميع لا محالة وبلا استثناء "أكلنا يوم أكل الثور الأبيض". فهل من مبادر؟ "عندما قالوا له: سرحان.. يا سرحان..هل تقدر أن تفعل شيئاً للوطن؟" (توفيق زياد، سرحان والماسورة).
اقرأ/ي أيضًا: