مقال رأي
استأثر مشروع تنقيح الفصل 411 من المجلة التجارية المتعلق بجريمة إصدار الشيكات دون رصيد باهتمام المعنيين بالشأن القضائي، خاصة المهتميّن بمراجعة السياسة الجزائية في هذه الجريمة ذات الطابع الاقتصادي، وأيضًا اهتمام المتعاملين بالشيك سواء التجار وأصحاب المؤسسات، ودون القطاع المصرفي.
فالشيك يستأثر بنسبة 55 في المائة من إجمالي مبلغ الدفوعات عام 2022 على نحو يعكس أهميته في التعاملات التجارية، وبالتبعية فلا ريب أن مراجعة المقاربة الجزائية تحمل أثارًا، المأمول أن تتجاوز عيوب المقاربة الحالية وليس مزيد تعكير الوضع بالنسبة لكل المتدخلين خاصة أمام خشية إضعاف منسوب الثقة في التعامل به.
لا ريب أن مراجعة المقاربة الجزائية في علاقة بجريمة إصدار شيك دون رصيد، تحمل أثارًا المأمول أن تتجاوز عيوب المقاربة الحالية وليس مزيد تعكير الوضع بالنسبة لكل المتدخلين خاصة أمام خشية إضعاف منسوب الثقة في التعامل به
بدايةً، عادة ما ينطلق الحديث عن جريمة إصدار شيك دون رصيد بالعقوبة السجنية المشددة للساحب صاحب الشيك، وبأن هذه العقوبة ليست حلًا من زاوية أنها تمنع المدين عن خلاص دينه، على نحو يفترض، وفق هذا التقدير، اعتباره ضحية لمنظومة اقتصادية وبنكية أيضًا برمتها وليس متهمًا مهددًا بالسجن. ويتأسس التقدير بالخصوص على اعتبار الطابع التجاري المحض للجريمة، لينتهي عادة بالمطالبة برفع العقوبة السجنية.
وعرف البرلمان عام 2020 فعلًا مقترح قانون قدمته كتلة "ائتلاف الكرامة" ينزع هذه العقوبة مقابل تعويضها بـ"تضييقات مالية وتجارية وإدارية". والمعضلة التي يطرحها التخلي عن العقوبة السجنية بما تحمله من زجر وردع، هو إفراغ الشيك بوصفه أداة وفاء من الحماية الجزائية.
مشروع التعديل المقدّم للبرلمان لم يتبنَّ بالنهاية نزع العقوبة السجنية، لكنّه يقترح تخفيضًا فيها من خمس سنوات إلى سنتين تتوازى مع تخفيض في الخطية المالية إلى 20 في المائة، مع إمكانية استبدال العقوبة بالعمل لفائدة المصلحة العامة، وإقرار إمكانية ضم العقوبات مع إمكانية أخرى وهي مراجعة العقوبات السجنية المحكوم بها وضم بعضها لبعض في صورة صدور أحكام باتة.
عرف البرلمان عام 2020 مقترح قانون قدمته كتلة "ائتلاف الكرامة" ينزع العقوبة السجنية مقابل تعويضها بـ"تضييقات مالية وتجارية وإدارية"، بينما لم يتبنّ مشروع التعديل المقدم اليوم للبرلمان نزع العقوبة السجنية لكنه يقترح خفيضًا فيها من 5 سنوات إلى سنتين
المشروع وسّع، كذلك، من إجراءات التسوية لتشمل مرحلة تنفيذ العقاب مع الاكتفاء بخلاص الشيك دون خلاص الخطية والفوائض والمصاريف. وفيما يتعلق بالتجريم بحدّ ذاته، أقرّ عدم مؤاخذة الساحب في صورة تعسّف البنك عليه في قطع تمويل مسنود له في شكل فتح اعتماد أو تسهيلات دفع، أي باتت الجريمة خاضعة لمراقبة شرط مدى وجود تعسّف في قطع التمويل في صورة تعويل صاحب الشيك عليه لتغطية المبلغ.
شمل بذلك المشروع عُنصريْ التجريم والعقوبة على حدٍّ سواء، لكن بمعالجة جزئية وذلك في سياق مجهود موازنة بالخصوص بين المستفيد الباحث عن ضمان استخلاص دينه من جهة أخرى والمدين من جهة أخرى. في هذا الجانب، يتصاعد تحميل المسؤولية للبنوك في عديد المستويات بما يشمل إسهال منح دفاتر الشيكات دون فرز، وبأنها مستفيدة من استدامة الوضعية الحالية باعتبارها طرف سلبي محايد.
في هذا الجانب، ينص القانون الحالي على أنّه يدفع خطية قيمتها 40 في المائة من قيمة الشيك كلّ بنك يرفض أداء شيك عوّل صاحبه على فتح اعتماد أو تسهيلات دفع دون تجاوز الخطية مبلغ ثلاثة آلاف دينار، وهو السقف الذي يحذفه مشروع التعديل على نحو يجعل الخطية غير مسقّفة، وفي ذلك مزيد من تحميل المسؤولية للبنك بغض النظر عن محدودية تطبيق هذا الفصل في الواقع.
مشروع القانون المقدّم لا يعدّ إصلاحًا جذريًا لمنظومة الشيكات وهو ما تقرّه جهة المبادرة بنفسها بتنصيصها في وثيقة شرح الأسباب أنّ التعديل يندرج ضمن "منهجية المراحل"
مشروع القانون المقدّم لا يعدّ إصلاحًا جذريًا لمنظومة الشيكات وهو ما تقرّه جهة المبادرة بنفسها بتنصيصها في وثيقة شرح الأسباب أنّ التعديل يندرج ضمن "منهجية المراحل". وقد أكدت، في تأسيس التقليص في العقوبات، على هذا التدرج وذلك في انتظار "إرساء منظومة جديدة للتعامل بالشيك".
المنظومة الجديدة لا تتعلق في العمق بالجوانب القانونية بقدر ما تتعلق بالجوانب المالية والمصرفية وبالخصوص إرساء الشيك الإلكتروني، وتمكين المستفيد من الاطلاع الحيني على توفر الرصيد، واعتماد وسائل الدفع الإلكترونية البديلة، وكلّها إصلاحات تظهر أنها محمولة على القطاع البنكي بدرجة أولى.
لكنّ هذا التعديل الذي يظهر في إطار إصلاح تدريجي نصّ، في هذا الجانب، على تجريم تسلّم الشيك على وجه الضمان، وذلك بالنظر إلى أنّ الشيك تحوّل في الممارسة الواقعية إلى أداة ائتمان وليس أداة وفاء، وباعتبار الحماية الجزائية له مقارنة بالكمبيالة على وجه الخصوص.
التعديل نصّ على تجريم تسلّم الشيك على وجه الضمان وهو ما سيؤدي بالضرورة إلى تقلّص المعاملات بالشيك، بيد أن هذا التقلّص سيمسّ من سيولة المعاملات التجارية
هذا التجريم سيؤدي بالضرورة إلى تقلّص المعاملات بالشيك في إطار استعادة طبيعته القانونية بغاية ضمان الاستقرار المالي. بيد أن هذا التقلّص سيمسّ من سيولة المعاملات التجارية باعتبار أن الدائن وتحديدًا التاجر يشترط واقعًا اليوم صكوكًا على وجه الضمان خاصة في البيع على وجه التقسيط.
المشكل هنا ليس في الحماية الجزائية لفرض الاقتصار على الشيك كأداة وفاء ولكن عمليًا في أثر ذلك في مناخ مختلّ بطبعه خاصة في ظل شح السيولة المالية من جهة والأزمة الاقتصادية المتفاقمة من جهة أخرى.
وهنا إنّ المعضلة الأعمق الواجب طرحها ومعالجتها هي في سبب تحويل وجهة التعامل بالشيك على غير طبيعته في التطبيق، ألا وهي فشل الأوراق التجارية الأخرى وتحديدًا الكمبيالة بوصفها أداة ائتمان على تأمين الحد المطلوب من الموثوقية التي تتطلبها المعاملات. فشل يرتبط بمسألة صعوبة التنفيذ في المادة المدنية على المدين الذي لا يتردد، وبالخصوص المؤسسات، على تهريب المكاسب بغاية الحيلولة دون التنفيذ عليها.
وهذه مسألة أخرى حريّة بالحسم في انتظار مراجعة شاملة لمنظومة التنفيذ المدني في تونس تستلزم توفير ضمانات بالنسبة للدائن لاستعادة ثقته في الأوراق التجارية دون الحاجة للهروب إلى الشيك باعتبار ما يوفره من حماية جزائية.
المشكل ليس في الحماية الجزائية لفرض الاقتصار على الشيك كأداة وفاء ولكن عمليًا في أثر ذلك في مناخ مختلّ بطبعه خاصة في ظل شح السيولة المالية من جهة والأزمة الاقتصادية المتفاقمة من جهة أخرى
يصعب الجزم بشكل واضح أن الإصلاح التدريجي المقترح سيكون مفيدًا رغم الحذر البيّن في أحكامه ومحدودية جرأته وذلك في انتظار الإصلاح العميق، الذي سيشمل الجوانب البنكية والاقتصادية قبل القانونية. لكن ما يمكن الجزم به هو الحاجة للمضي في هذا الإصلاح العميق في أقرب وقت ممكن وعدم دخوله في غياهب الوعود المنسية لمجرّد تمرير جرعة التعديل، على نحو ما يذكرنا بتمرير التعديل الجزئي لقانون المخدرات عام 2017 عبر التمكين من التخفيف من العقوبة فيما لا يزال مشروع المراجعة الشاملة للقانون في طي النسيان إلى حد اليوم.
ولا ريب أن الإصلاحات العميقة تستدعي مشاورات موسعة بين مختلف المتدخلين دون استثناء خاصة بالنظر إلى أنّ منظومة الشيك تشمل أطراف متعددة بمصالح متباينة. فالإصلاحات الحقيقية والناجعة لا يمكن أن تكون، في كل الأحوال، إلا وليدة رؤية تشاركية جامعة.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"