يكاد يكون التفاعل مع الموت متماثلًا بين الشعوب والأمم مهما اختلفت دياناتها وتباينت ثقافاتها وأذواقها، فهذا الحدث الكوني الإنسانيّ يؤذن بالنهاية ويؤكّد حتمية الفناء، وهو ما يدفع إلى الجزع، ويفضي في الغالب إلى الحزن واللوعة والتفجّع.
يتشكّل هذا التفجّع نُواحًا ودموعًا وعويلًا، كما يمكن أن يثمر خطابًا فنيًا رثائيًا يقطر ألمًا وحسرة، وقد يتحولّ الموت إلى قادح على التفكير في قضايا وجوديّة، فتُراود المتأمّل أسئلة حول المصير وجدوى الفعل الإنسانيّ، فينتهي به الأمر إمّا إلى الإيمان والتسليم أو إلى الوعي بعبثيّة الحياة، النتيجة الأولى قد تحمل معتنقها إلى الزهد والتعفّف والإعراض عن الملذّات، والثانية تحث صاحبها على أن "يغنم من الحاضر لذّاته، فليس من طبع الزمان الأمان".
ستظلّ عالقة في الذاكرة التونسية مواقف غير مألوفة مرتبطة بالموت نذكر منها ثلاثة، أولها الشماتة والتشفي من الميّت وأنصاره، وثانيها التوظيف السياسي والأيديولوجي، وثالثها التمرّد على مقتضيات المقام الجنائزي
الجامع بين المسارين التحقّق من أنّ الدنيا لا تستحق ذاك الحرص وتلك اللهفة التي يتّصف بها غالبية البشر، وهو ما يفترض أن يخفّف من الإحساس بالحقد والضغينة، فجلالة الموت خاصّة في لحظاته الأولى تصيب الإنسان بضرب من اليأس والسكون، فتضطرب مداركه، وتكاد تتعطّل فيه كلّ مشاعر الاندفاع والإقدام والمنافسة.
هذه الملامح الإنسانيّة العامّة في التفاعل مع حدث الموت تزيد أو تنقص من فاجعة إلى أخرى، لكنها لا تفقد جوهرها إلّا في بعض السياقات التي تبرز فيها ردود أفعال استثنائية ومواقف غير مألوفة تبدو معرضة عن النمط الأصلي ومتنكرة للضوابط التقليديّة، من تلك المواقف التي ستظلّ عالقة في الذاكرة التونسية نذكر ثلاثة، أولها الشماتة والتشفي من الميّت وأهله وأنصاره، وثانيها التوظيف السياسي والإيديولوجي، وثالثها التمرّد على مقتضيات المقام الجنائزي.
اقرأ/ي أيضًا: التوتّر الدائم بين الغنوشي وموسي.. أكثر من خلاف سياسي؟
التشفي السياسي والإيديولوجي
حفلت القصائد الحماسية قديمًا بصور التشفي من الموتى، هذا الموقف يبرره السياق الحربيّ بين الجيوش المتنافسة على الأرض والسيادة والعرض، لكنّ الناظر في الشأن العربي عامّة والتونسي خاصّة واجد تواترًا لافتا لظاهرة الشماتة في الأموات. ولم يترفع عن هذا السلوك يساري أو إسلاميّ أو ثائر أو عميل، فقد تورّط فيه الجميع وإن بدرجات مختلفة، إذ طالت الشماتة الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي عند موته في السعوديّة بتاريخ 19 سبتمبر/أيلول 2019، واستهدفت نعرات التشفي محمد مرسي الرئيس المصري الأسبق وشكري بلعيد المناضل اليساري عند استشهادهما الأول في سجون السيسي بتاريخ 19 جوان /حزيران 2019 بسبب الإهمال والثاني برصاص الإرهابيين في 6 فيفري/ شباط 2013.
يعجلّ الشامت التعبير عن حقده السياسيّ فيعلن عن انتظاره المحموم للحظة موت غريمه الحزبيّ لإعلان الفرحة والتشفي ومثاله ما أورد النائب فيصل التبيني في حق رئيس البرلمان راشد الغنوشي
بصرف النظر عن الموقف الدينيّ أو الأخلاقي من هذا سلوك، فإنّ الأرجع من منظور نفسيّ أنّ الشامت إنما ينفث مشاعره لا في الجثة، إذ لا يهمّ الشاة سلخها بعد ذبحها، إنّما يوجه سهامه إلى أنصار الميت وأتباعه والمولعين به. وهذا اللون من الشماتة يتخطّى العلاقات الفرديّة أو الأسرية أو المهنية أو العشائرية ليدرك بعدًا أوسع يمكن نعته بالتشفّي السياسيّ والحزبي والإيديولوجي.
وقد يعجلّ الشامت التعبير عن حقده السياسيّ، فيعلن عن انتظاره المحموم للحظة موت غريمه الحزبيّ لإعلان الفرحة والتشفي، لعلّ أقرب دليل على ذلك ما ورد على لسان فيصل التبيني النائب عن حزب صوت الفلاحين وعضو الكتلة الديمقراطية قائلًا في صفحته على "فيسبوك" متحدثًا عن راشد الغنوشي رئيس البرلمان التونسي "زعمة يطلع الخبر صحيح ويسهل ربي ونرتاحو منو.."، كان ذلك يوم 2 فيفري/ شباط 2020 حينما سرت إشاعة مفادها أنّ زعيم حركة النهضة قد تعرّض إلى وعكة صحيّة.
هذا التعليق الموغل في العداء والضغينة وضع التبيني في زاوية الانتقاد والسخرية والتجريم الأخلاقي، بل ثمّة من عدّه يعاني من حالة مرضيّة مستعصية تجعل خطابه سقيمًا عليلًا لا يثير الغضب بقدر ما يستحق الشفقة.
الثأر والغنيمة السياسية
الموت على سرير المرض والعجز أو بسبب حادث عرضيّ يختلف أثرًا عن الموت في الحرب أو إثر عملية اغتيال طعنًا أو قصفًا أو رميًا بالرصاص.
في هذا الموقف تصبح " الشهادة" مصدرًا محفزًا وعاملًا مغذيًا للحماسة والحميّة، فتتراجع حينئذ عبارات الشجن لتحلّ محلها شعارات الغضب والسخط، وتتلوها دعوات الانتقام والأخذ بالثأر، وهو ما يجعل مواكب العزاء والجنازة والتأبين مشحونة حقدًا ونقمة وغيضًا تتجلى آياتها في النظرات والحركات والإيماءات وفي الطلقات النارية أحيانًا.
أشهر جرائم القتل التي تمّ توظيفها في تونس "حادثة باب سويقة" في 17 فيفري/ شباط 1991، تلك التي تمّ اعتمادها مبررًا لحملة التطهير والاستئصال ضدّ الإسلاميين في التسعينيات
على هذا النحو، يصبح الموت حدثًا وظيفيًا مساهًما في الوحدة الوطنية وحاثًا على المقاومة والأخذ بالثأر، خاصّة في الصراع بين الأمم والشعوب. أمّا في الصراعات الداخليّة، لا يكون التوظيف في الغالب عفويًا، إنما يكون مدروسًا موجهًا وجهة سياسية لفائدة هذه االفئة أو تلك سواء كانت في الحكم أو في المعارضة، وفي جميع الحالات يفقد الموت وقعه النفسي ليشحن بدلالات ومقاصد إيديولوجية أو حزبية تتشكل استئصالًا أو ثورة، وفي أدنى الحالات تتجسّد خطابيًا في الحملات الانتخابية.
اقرأ/ي أيضًا: "النعوشة" أو "أم الذراري".. طائر الموت في الموروث الشعبي التونسي
أشهر جرائم القتل التي تمّ توظيفها في تونس "حادثة باب سويقة" في 17 فيفري/ شباط 1991، تلك التي تمّ اعتمادها مبررًا لحملة التطهير والاستئصال ضدّ الإسلاميين في التسعينيات، ثم واقعة اغتيال الشهيد محمد البراهمي التي حولتها المعارضة إلى مطيّة لتعبئة الرأي العام ضدّ الحكومة القائمة، ممّا ساهم في سقوط "الترويكا" التي تمثل النهضة ضلعها الأشدّ، وقد تمّ اتهامها بالمسؤولية السياسيّة في وقوع جريمتي الاغتيال اللتين استهدفتا زعيمين من اليسار التونسي.
اللافت في الأمر أن النهضة خاصّة والإسلاميين عامّة مثلوا الطرف المستهدف في التوظيف السياسي لأحداث القتل قبل الثورة وبعدها، وبصرف النظر عن مسؤوليتها الفكرية أو الحزبية أو الجنائية في هذه الأعمال الإجرامية فإنّ خصومها قد أحسنوا استثمار هذه الوقائع "استثمارًا سياسيًا" ساهم في تغيير العديد من المسارات.
قبور تبلع وطقوس تتصدّع
تدفع الأسئلة الوجوديّة التي يطرحها الموت في الغالب الأعمّ إلى الاحتماء بالأجوبة الدينية خشية الوقوع في مدارات الشكّ والتيه والرعب، هذا ما جعل المؤمنين بمختلف درجات تدينهم يستأمنون الأيمة على جثث ذويهم، فيتم إخضاعهم إلى كلّ الطقوس المعمول بها في جوّ من الخشوع والهيبة الخضوع.
هذه الطقوس أصابتها ضروب من التصدّع، إذ لم تحافظ في العديد من المواقف على صرامتها، تجسد ذلك خطابًا وفعلًا، أمّا على المستوى الخطاب فيمكن عرض مثالين، الأوّل فنيّ قصصي، فقد افتتح شكري المبخوت الكاتب التونسي روايته "الطلياني" ذات النزعة الواقعية بحادثة اعتداء "عبد الناصر" على الإمام أثناء عملية الدفن قائلًا: " كانت مقبرة الزلاج في حالة خشوع ..أقيمت صلاة الجنازة في الباحة الكبرى..حين وصلنا مكان الدفن علت أصوات المكبرين، لم يبسط عبد الناصر يديه عند تلاوة الفاتحة ..بدا متوترًا ..أغمض عينيه ومسح دموعه، وما إن فتحهما حتى رأى الإمام داخل الحفرة على يساره يتسلم الجثة..لا أحد من الجمع الغفير المحلق حول القبر فهم لِمَ علا صراخ الإمام، لم يشهد الحادثة إلا من كان في الدائر الأولى، (عبد الناصر مخاطبًا الإمام): يلعن دين والديك يا منافق يا ساقط أخرج من غادي، يا نيـ**".
المشهد في جنازة لينا بن مهني لم يكن يهدف إلى تغيير طقوس الدفن، إنما كان يرمي إلى التذكير بجملة من القضايا والمعاني في مقدمتها الحرية والمساواة والجمال وحب الحياة
المثال الثاني على مستوى الخطاب المتمرد عن الطقوس السائدة تمثل في دعوة بعض المثقفين ومنهم النوري بوزيد إلى أن يتم دفنهم على غير السنن المعمول بها قائلًا: "لا أرغب في أن تقام لي جنازة، وإن سمحوا بإحراق جثّتي فيا حبّذا، أو فليرموا بها في البحر، لا أرغب في أن أعود إلى التراب..وإن رفضت عائلتي ذلك، فليهبوا جسدي إلى الأطباء".
أمّا على المستوى الفعلي، فقد تجلّى الخروج عن المألوف في طقوس الجنازة من خلال موكب دفن المدونة والمناضلة الحقوقيّة لينا بن مهني، فقد حمل النسوة نعشها، وسرن بها إلى مقبرة الجلاز، وحول قبرها ترنّم البعض بمقطع من أغنية ملتزمة. وبصرف النظر عن الخلافات الفقهية التي أثارها المشهد، كانت تندرج الجنازة ضمن مسلك ينبه إلى أنّ الثورة في تونس لم تكن تستهدف فقط نظام بن علي الذي تصدّت له بن مهني وأترابها من الشباب إنما كانت تدعو إلى مراجعة كلّ الأنظمة السلوكية والفكرية وعرضها إلى كل ألوان النقد والتشريح، فالمشهد لم يكن يهدف إلى تغيير طقوس الدفن، إنما كان يرمي إلى التذكير بجملة من القضايا والمعاني في مقدمتها الحرية والمساواة والجمال وحب الحياة في زمن طغى فيه الظلم والباطل والقبح وعمت فيه الأنانية والوصولية.
مهما بدا المشهد صادمًا غريبًا استثنائيًا مستفزًا بالنسبة إلى الكثيرين، حقّ القول إنّ جنازة لينا معانيها تبدو أوسع أفقًا وأرحب دلالة وأعمق رمزية من جنازات أخرى، تلك التي هيمن فيها النفاق الاجتماعي والمداهنة الأخلاقية والتشفي المستتر والتوظيف السياسي الصريح والمضمر.
اقرأ/ي أيضًا:
عذابات الغنّوشي.. من السّجن والتّهجير إلى أوزار الحُكم وصولات "عبير"