استيقظ الشعب التونسي يوم 12 من شباط/فبراير 2018 على نبأ وفاة فتحية مزالي، أول وزيرة في التاريخ التونسي وأرملة الوزير الأول السابق محمد مزالي عن سن يناهز 91 عامًا. ورغم أن العديد من التونسيين، خاصة من الشباب، لا يعرفون الكثير عن فتحية مزالي، إلا أن هذه الأخيرة قدمت الكثير للمرأة التونسية واعتنت بموضوع تحديد النسل في وقت كان فيه طرح مثل هذه المواضيع محرمًا.
رفيق مزالي، أحد أبناء السيدة مزالي، تحدث لـ"الترا تونس" عن حياة والدته ومسيرتها. وفي هذا التقرير، نتعرض لجوانب يجهلها الكثيرون عن حياة امرأة لا تشبه الكثيرات.
في عائلة تونسية تقليدية، ولدت يوم السادس من نيسان/ أبريل من عام 1927، طفلة تونسية لم تكن تعلم، وهي تناضل داخل عائلتها لمواصلة دراستها، أنها ستكون يومًا من بناة الدولة الوطنية التونسية بعد الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي.
فتحية مختار مزالي، أول وزيرة تونسية، تلقت تعليمها الابتدائي بمدرسة الفتيات بنهج العلماء بتونس ثم بمدرسة الفتيات بباردو إلى غاية سنة 1939.
وجدت فتحية مزالي نفسها مجبرة على اللجوء إلى التزام الصمت لمدة 3 أشهر لتضغط على عائلتها كي تتمكن من مواصلة دراستها
فتحية مختار مزالي عندما كانت طالبة (الترا تونس)
إصرار على مواصلة الدراسة
بعد انتهاء المرحلة الابتدائية، وجدت فتحية نفسها مجبرة على اللجوء إلى التزام الصمت لمدة 3 أشهر لتضغط على عائلتها كي تتمكن من مواصلة دراستها على غرار إخوتها، قبل أن يرضخ والدها ويسجلها في المدرسة الثانوية بتونس العاصمة.
الطفلة التي ارتدت الحجاب كي تتمكن من التنقل بين منزلها ومعهدها، تميزت في دراستها وتفوقت في الباكالوريا شعبة الآداب على زملائها الذكور. سافرت بعد ذلك بإلحاح من مُدرستها إلى فرنسا أين درست في السوربون بباريس في قسم الفلسفة.
التقت هناك بالشاب التونسي محمد مزالي، الذي رأت فيه ذكاء وتميزًا عن البقية وسرعان ما تبادلا الإعجاب وعقدا قرانهما بباردو عام 1950 بحضور الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة وحرمه.
بعد عودتها من فرنسا وزواجها، عملت فتحية مزالي بمدرسة ترشيح المعلمات بين سنتي 1950 و1974 وتولت إدارة المدرسة لمدة 17 سنة.
وقد وجدت بعض الصعوبات في تدريس الفلسفة باللغة العربية نظرًا لأنها تلقت تعليمها باللغة الفرنسية. ومرة أخرى، تحدت فتحية المختار نفسها وتعلّمت العربية في محاولة لقراءة القرآن وفهمه بنفسها خاصة أنها لم تقتنع بما يقال بخصوص منع الدين الإسلامي المرأة من التعلم وتحريمه أمورًا أخرى على النساء، فاجتهدت كي تقرأه وتحيط علمًا بمضمونه.
بالتزامن مع ذلك، ساهمت مزالي في إعداد نشرية التعليم الابتدائي وكانت عضوًا في اللجنة القومية للتعليم، التي تأسست لمراجعة نظام التعليم بعد عشرية 1958- 1968.
طرحت فتحية مزالي مواضيعًا كان المجتمع التونسي يضعها آنذاك في خانة "التابو"
المشاركة في الحياة العامة
خلال سنوات دراستها في فرنسا، نزعت فتحية المختار الحجاب وبدأت نشاطها في الحياة العامة والطلابية، شاركت في مهرجات نسائية وطنية بتونس المدينة بمعية مناضلي الحزب الدستوري الحر ومثلت الاتحاد النسائي الإسلامي في مؤتمر السلم ضمن الوفد التونسي بطلب من المناضلة بشيرة بن مراد.
كانت لفتحية مزالي مساهمة مهمة في الحياة العامة، فعملت على جمع الأموال لإغاثة المناضلين المسجونين وانخرطت في الاتحاد العام التونسي للشغل، النقابة العمالية الأبرز في تونس، وشاركت في الإضرابات التي أقرها وكانت عضوًا فاعلا في النقابة العامة للتعليم الثانوي.
عام 1957، ترشحت فتحية مزالي للانتخابات البلدية عن دائرة تونس العاصمة واختارت العمل في لجنة الشؤون الثقافية نظرًا لشغفها بالمسرح.
لم تكتف مزالي بتنظيم مناظرة لانتداب أعضاء الفرقة البلدية للتمثيل، بل عملت على إدماج مسرحية "الأيادي القذرة" لـ"جون بول سارتر" ضمن برنامج الفرقة. وهو عمل مسرحي لاقى نجاحًا كبيرًا حتى بين صفوف الطلبة الزيتونيين المعروفين بتوجهاتهم المحافظة.
إيمان بقضايا المرأة وتحررها
فتحية مزالي آمنت بقضايا المرأة وتحقيق المساواة بينها وبين الرجل، وطرحت مواضيع كان المجتمع التونسي يضعها آنذاك في خانة "التابو".
ألقت أول محاضرة لها عام 1959 في نادي عزيزة عثمانة بطلب من رئيسة النادي حبيبة الزاوش، تطرقت خلالها إلى موضوع تحديد النسل وقررت الخوض في هذا الملف نظرًا للمعاناة التي كانت تمر بها النساء في تونس من إنجاب عدد كبير من الأطفال في ظل ظروف مادية صعبة.
ساهمت فتحية في تأسيس الاتحاد القومي النسائي عام 1956 رفقة عديد المناضلات وعلى رأسهن راضية الحداد. ثم كلّفها الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة بإعادة تنظيم الاتحاد قبل أن تُسند إليها رئاسته عام 1974. بقيت على رأس الاتحاد حتى عام 1986.
سياسيًا، انضمت فتحية مزالي للجنة المركزية للحزب الاشتراكي الدستوري سنة 1974 وعُيّنت عضوًا في الديوان السياسي للحزب عام 1979. وتم انتخابها سنوات 1974 و1979 و1981 عضوًا في مجلس النواب وتولت منصب نائب رئيس المجلس.
لم تتخل فتحية مزالي رغم مسؤولياتها السياسية عن قضايا المرأة، وقدمت سنة 1973 رأي الاتحاد القومي النسائي في موضوع تمكين المرأة من حق الإجهاض أمام أعضاء لجان المجلس. وترأست كذلك خلية بالمجلس لبحث موضوع التنمية والسكان حتى يصبح من اهتمامات مجالس النواب.
أطلقت أيضًا عديد المبادرات التي تهم المرأة فقامت ببعث ناد للطالبات ورابطات لفائدة صاحبات الاختصاص والعاملات في مختلف الميادين. وشجعت النساء العاملات في الميادين الاقتصادية على الالتحاق بالمنظمات القومية المختصة منها الاتحاد القومي للصناعة والتجارة والاتحاد القومي للفلاحين.
ساهمت فتحية مزالي في تأسيس الاتحاد القومي النسائي عام 1956 رفقة عديد المناضلات التونسيات
فتحية مختار مزالي مع الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة (الترا تونس)
وزيرة لتحسين أوضاع المرأة
عام 1983، أسند الحبيب بورقيبة وزارة جديدة لفتحية مزالي اختارت لها اسم وزارة العائلة والنهوض بالمرأة. مزالي، كما تقول عن نفسها، اعتبرت أنها امرأة تمسك مقاليد وزارة لتحسين أوضاع النساء.
لكن هذه الوزارة لم تدم سوى 3 سنوات وتم إلغاؤها عام 1986. وفي تموز/ يوليو من نفس السنة تمت إقالة زوجها محمد مزالي من منصبه كوزير أول.
فتحية مزالي وبورقيبة.. أي علاقة؟
واجهت بعد ذلك فتحية مزالي صعوبات جديدة في حقبة تالية بعد توتر العلاقة بين زوجها وبورقيبة، وتم اقتحام منزلها وتفتيشه في أكثر من مناسبة واعتقال أربعة من أبنائها الستة، وهم مختار وحاتم ورفيق وسارة.
إثر تواتر أحداث سياسية في تلك الحقبة، قرر محمد مزالي مغادرة البلاد والفرار عندما تأكد أن حياته في خطر وأن هناك نية لإعدامه. وقضى في المنفى 16 عامًا إلى أن أصدرت محكمة تعقيب تونسية حكمًا يسمح له بالعودة إلى تونس.
ومن ثم تم إجبار فتحية مزالي وأبنائها على مغادرة بيتهم الذي تمت مصادرته، لكنها، ورغم ما لحقها وعائلتها من ضرر زمن بورقيبة، أكدت في مقابلة مع قناة التلفزيون العربي منذ حوالي 3 سنوات، أنها "لم تجد شخصًا تثق فيه بعد بورقيبة".
لم تكن فتحية مختار مزالي وحيدة في دفاعها عن المرأة وحقوقها، ولكن ما قد يميزها هو إصرارها منذ نعومة أظافرها على تحدي الأعراف الذكورية التي طالما كبّلت المرأة وتكريسها جزءًا هامًا من حياتها لترسيخ المساواة بين الجنسين والدفاع عن حقوق النساء سواء كان ذلك عبر مشاركتها في تأسيس الاتحاد القومي النسائي أو في طرح موضوع تحديد النسل والعمل على إقراره وتقعليه في مجتمع بطريركي كان يتجنب حتى الخوض في مثل هذه القضايا.
فتحية مختار مزالي (الترا تونس)
اقرأ/ي أيضًا: