في أزقة وثنايا "سوق البركة" (أكبر أسواق تجارة الذهب في تونس) في العاصمة تونس، تتجول الحاجة "نعيمة" برفقة حفيدتها بحثا عن تاجر يشتري منها عقدها وسوارها الذهبيين اللذين كانت قد ورثتهما عن والدتها، وعلى الرغم من أن جميع حرفيي سوق الذهب يترصدون فرص اقتناء "الذهب المكسر" أي المستعمل فإنها رفضت التفريط في مصوغها بثمن بخس كالمتداول في السوق حيث لا يتجاوز سعر الغرام الواحد 140 دينار وهو مبلغ زهيد مقارنة بقيمة ذهبها العتيق الذي تتوارثه نساء عائلتها الواحدة تلو الأخرى.
لولا الضائقة المالية التي تمر بها الحاجة نعيمة لما فكرت في بيع ذهبها من الأساس. "نعيمة" هي ستينية أحيلت على التقاعد من سلك التعليم منذ بضع سنوات وتضطر حالياً لمساعدة ابنتها في إعالة أطفالها بعد أن تعرض زوجها لحادث مرور خطير، وفق روايتها، لكن تقدمها في السن يحول دون تمكنها من الظفر بلقمة عيش فتجد نفسها أحيانًا مضطرة لبيع البعض من ممتلكاتها كقطعة أرض ورثتها عن والدها أو مصوغها.
لا يوجد منذ فترة أمين لـ"سوق البركة" في العاصمة التونسية وشغور هذه الخطة له انعكاسات سلبية على تجارة الذهب وتثير مخاوف أمام انتشار تجارة الذهب المزيّف
تقول "نعيمة"، خلال حديثها لـ"ألترا صوت تونس" إن إحدى صديقاتها نصحتها بالتوجه لأمين سوق البركة وبيع مصوغها عن طريقه وهي الطريقة المثلى للحصول على ثمن مناسب يختلف بكثير عن الذي يقدمه التجار لأن الأمين بإمكانه أن يعرض القطع الذهبية على أكثر من صائغ أو في المزاد العلني لكن فور توجه نعيمة لسوق البركة علمت أنه لا وجود حالياً لأمين سوق وأن خطته شاغرة منذ مدة طويلة وهو ما اضطرها إلى التعامل مباشرة مع تجار المصوغ والقبول بالثمن الذي يحددونه ويرونه مناسبًا وهو سعر لا يختلف كثيراً من تاجر إلى آخر.
- "غياب أمين السوق يؤثر على عمل التجار"
منذ أن تطأ قدماك سوق البركة الواقع بالمدينة العتيقة في تونس العاصمة، تستقبلك الهتافات التي يطلقها تجار المصوغ من هنا وهناك "تبيع ذهب تبيع ذهب" وهو سؤال يوجه لكل شخص يفكر في عبور شوارع سوق البركة ولا يسلم منه أي مار حتى وإن لم تكن وجهته سوق الذهب أصلًا بل سوقًا مجاورًا له.
وبسبب ارتفاع سعر الذهب في تونس وتجاوز سعر الغرام الواحد 200 دينار، أصبح اقتناء الذهب نادرًا ومقترنًا بالأفراح والمسرات كحفلات الخطوبة والزواج فتحول تركيز جل تجار الذهب على الحرفاء الراغبين في بيع حليهم خاصة وأن المزاد العلني لبيع وشراء المجوهرات توقف منذ شغور خطة أمين السوق فتزايد بذلك عدد "سماسرة" اقتناء الذهب الذين يعتبرون المنافس الأبرز لتجار سوق البركة.
يركز جل تجار الذهب على الحرفاء الراغبين في بيع حليهم خاصة وأن المزاد العلني لبيع وشراء المجوهرات توقف منذ شغور خطة أمين السوق فتزايد بذلك عدد "سماسرة" اقتناء الذهب الذين يعتبرون المنافس الأبرز لتجار سوق البركة
في هذا السياق، أفاد رئيس الغرفة الوطنية لتجار المصوغ حاتم بن يوسف أنه ّتم إلغاء خطة أمين السوق بنص تشريعي منذ سنة 2006 دون تعيين بديل له فتولى فيما بعد أمين الحرفة تعويضه والقيام بالمهام الموكولة إليه والمتمثلة في الإشراف على السوق وإقامة الصلح بين التجار وبين التاجر والحرفي والحريف أيضًا إلى جانب التدخل لدى السلط المعنية في حال اقتضى الأمر ذلك والإشراف على عملية البيع والشراء بالمزاد العلني لكن في السنة الفارطة تم منعه من البيع والشراء في المزاد وواصل الإشراف على بقية مهام أمين السوق".
وأوضح بن يوسف، في حديثه لـ"ألترا تونس"، أن أمين الحرفة هو خبير في الذهب وينتخب من قبل الحرفيين بينما أمين السوق محلف وينتخب منذ سنة 1908 من قبل التجار وفقًا لما حدده الأمر العلي آنذاك وفي سنة 1998 تاريخ وفاة أمين السوق محمد صالح الاخوة جرى العمل بالعادة والعرف أي أن أمين السوق يُنتخب من قبل التجار، لكن بمقتضى القانون الصادر في سنة 2006 تحولت خطة أمين السوق إلى مكلف وشغلها أمين الحرفة منذ سنة 2014 وتم منعه السنة الفارطة بالقانون من القيام بعملية البيع والشراء بالمزاد العلني.
رئيس الغرفة الوطنية لتجار المصوغ حاتم بن يوسف لـ"الترا تونس": أمين الحرفة هو خبير في الذهب وينتخب من قبل الحرفيين بينما أمين السوق محلف وينتخب منذ سنة 1908 من قبل التجار وفقًا لما حدده الأمر العلي آنذاك
كما بيّن أن "أمين الحرفة قام بتعويض أمين السوق في التقويم والتقييم أي التثبت من سلامة عيار الذهب من أي غش ومطابقته للمواصفات الأصلية إلى جانب تحديد سعر القطع الذهبية التي ترد عليه وفي حالات الغش يمكن الاتصال به وهو متواجد حاليًا في سوق الباي بالمدينة العتيقة".
ولفت متحدث "الترا تونس" إلى أن غياب أمين السوق يؤثر على عمل التجار لأن وجوده يصنع حركية في السوق فيتمكن التاجر من عرض بعض القطع الذهبية على "الدلاّلة" أي للبيع، كذلك المواطن بإمكانه التوجه لأمين السوق لبيع الذهب وليس للسماسرة الذين يقتنصون فرص اقتناء الذهب المستعمل بأسعار بخسة".
رئيس الغرفة الوطنية لتجار المصوغ حاتم بن يوسف لـ"الترا تونس": غياب أمين السوق يؤثر على عمل التجار لأن وجوده يصنع حركية في السوق والمواطن بإمكانه التوجه لأمين السوق لبيع الذهب وليس للسماسرة
وتابع "أن التجار كانوا قد حرروا مطلبًا باسمهم وباسم النقابة بإرجاع الحالة إلى ما كانت عليه"، مضيفًا "صحيح أن خطة أمين السوق ألغيت وأصبحت مكلفًا بالقيام والإشراف على عملية البيع والشراء بالمزاد العلني لكننا كتجار نريد انتخاب المكلف كما جرت العادة والشرط الأساسي في اختياره هو أن لا يكون حرفيًا ولا تاجرًا بصدد مزاولة مهنته وعند انتخاب شخص يتفق عليه الجميع يتم إعلام وزارة المالية ووزارة السياحة وكذلك الوالي والمعتمد بتزكية فلان وفي حال عدم الرد لمدة 15 يومًا تعتبر التزكية مقبولة ويشرف الشخص المنتخب على عملية البيع والشراء في سوق الذهب".
- "أسباب سياسية وراء عدم تعيين أمين للسوق"
لئن يؤثر غياب خطة الأمين أو المكلف بسوق البركة على تجار المصوغ وعلى المواطنين الراغبين في اقتناء أو بيع الذهب فإن أسبابًا "سياسية" على ما يبدو تحول دون الاتفاق على تعيين شخص يشرف على هذه الخطة، وهو ما صرح به أحد التجار بسوق الذهب لـ"الترا تونس".
لئن يؤثر غياب خطة الأمين أو المكلف بسوق البركة على تجار المصوغ وعلى المواطنين الراغبين في اقتناء أو بيع الذهب فإن أسبابًا "سياسية" على ما يبدو تحول دون الاتفاق على تعيين شخص يشرف على هذه الخطة
وأوضح أن "السبب الأساسي وراء عدم تعيين أمين للسوق هو اختلاف التجار في تسمية شخص يشرف على السوق ورفض الأسماء التي يطرحها بعض التجار لشبهات تحوم حول إمكانية موالاتهم لجهات حزبية أو سياسية فبقي الحال على ما هو عليه منذ سنة".
واعتبر المتحدث أن غياب الأمين يناسب بعض التجار والسماسرة الذين يعملون بطريقة غير قانونية أو دون معرّف جبائي "باتيندة" لكن تجار السوق إجمالًا تضرروا خلال الفترة الأخيرة، وفق تقديره. كما أكد لـ"الترا تونس" أن العديد من الحرفاء يفضلون التأكد من سلامة الذهب الذي يقتنونه فيتجهون مباشرة نحو أمين السوق لـ"تعييره" وهي عملية لم تعد متاحة الآن وهو ما يدفع بالحرفاء إلى الاستنجاد بتاجر أو حرفي آخر، مشددًا على أن وجود أمين السوق يضفي نوعًا من الاطمئنان لدى الحريف الذي تسبب تفاقم حالات الغش في السنوات الأخيرة في تفاقم شكوكه ومخاوفه من اقتناء هذا المعدن النفيس.
غياب أمين سوق البركة يناسب بعض التجار والسماسرة الذين يعملون بطريقة غير قانونية أو دون معرّف جبائي "باتيندة" لكن تجار السوق إجمالًا تضرروا خلال الفترة الأخيرة
جدير بالذكر أن قطاع الذهب في تونس كان قد نخره الفساد لعقود، وقامت هيئات رقابية في تونس بتأكيده وتتعلق جل التجاوزات بالتخفيض في عيار الذهب أو تقليد الطابع وحجز كميات من الذهب مجهولة المصدر أو معدة للتهريب كما تم التفطن إلى تجاوزات كبيرة في مسالك الذهب المستعمل الذي لا يتم تسليمه لدار الطابع ويتجه لوجهات أخرى غير قانونية وقد تم الكشف حتى عن تورط بعض كوادر وزارة المالية في هذه التجاوزات.