ظلّت الدعوة إلى الحوار والتعاون والتسامح والانفتاح والغيريّة مجرد عناوين تتصدّر بعض المحاور الأدبية والفلسفية أو كلمات مُخاتلة خجولة في ختام خطابات وتصريحات تصدر عن عدد من المنظمات الأممية والإنسانيّة، وما انفكّ الواقع يكشف لنا أنّ تلك التطلّعات الإنسانية مازالت مجرّد أحلام وردية، تصطدم بواقع تحكمه الغطرسة والأنانية.
"عداوة الكار"، أي العداوة بين أصحاب الاختصاص الواحد، يعبّر عنها التونسيون عاميًّا بالمثل السائر على الألسن "صاحب صنعتك عدوك"
هذه الوضعية الحرجة غالبًا ما تدفع الفرد إلى التمسك بهوية لا يهدف من خلالها إلى تحقيق كيانه بقدر ما يبحث عن لون من الحماية، فتكون هذه الهويّة دينيّة أو مذهبيّة أو إيديولوجيّة أو دمويّة أو حزبيّة. وقد يلجأ الهارب من الظلم والقهر السياسيّ أو الاجتماعي إلى هويّة نقابيّة أو قطاعيّة، فليس أعلم بهموم العامل أو الحرفيّ أكثر من بني جلدته المهنيّة. لكن هذا الملاذ قد يكون هو نفسه محفوفًا بضروب أخرى من الصراع تندرج ضمن ما يسمىّ "عداوة الكار"، أي العداوة بين أصحاب الاختصاص الواحد، يعبّر عنها التونسيون عاميًّا بالمثل السائر على الألسن "صاحب صنعتك عدوك".
الصراعات المهنيّة تتشكّل حسدًا وغيبة ونميمة وتشويهًا، وقد تبلغ درجة المجاهرة بالعداء سبًّا وتشهيرًا وعنفًا ماديًّا ومعنويًّا، ويتعقّد الأمر كلّما كانت علاقات الواجب وشروط المنافسة مفتقرة إلى الضبط والدقّة والوضوح.
الصراعات المهنيّة تتشكّل حسدًا وغيبة ونميمة وتشويهًا، وقد تبلغ درجة المجاهرة بالعداء سبًّا وتشهيرًا وعنفًا ماديًّا ومعنويًّا، ويتعقّد الأمر كلّما كانت علاقات الواجب وشروط المنافسة مفتقرة إلى الضبط والدقّة والوضوح
ينطبق هذا على الموظفين داخل نفس المؤسّسة وعلى أصحاب المحلات التجاريّة المتجاورة، وقد اتّسعت دائرة "عدواة الكار" لتشمل المؤسسات التربوية الخاصة والفنانين والأدباء والكتاب ومدرّبي كرة القدم وغيرهم من أهل الاختصاص الواحد الذين يجدون أحيانًا في بعض القنوات التلفزيّة والإذاعيّة ومنصات التواصل الاجتماعي ما يتيح لهم حيّزًا أوسع للقدح في خصومهم.
ولمّا كان الأمر بين الحرفيين والتجار بيّنًا مألوفًا لا يزيد عن الإخبار، نظرنا في مجالات أخرى تصاعدت فيها "عداوة الكار" خلال السنوات الأخير ممّا اقتضى نظرة متفحّصة وتحقيقًا متأنّيًا. في سبيل ذلك استأنسنا بثلاثة أصوات من ميادين مختلفة، لطفي بوشناق من محراب الموسيقى والغناء، والدكتور لطفي الحجلاوي من مجال الفلسفة والتربية والنقد الأدبي والإبداع، ولسعد جردة الشابي من عالم التدريب في كرة القدم.
- الفنّ والعداوة خطّان لا يلتقيان ووجود الآخر قادح على مزيد التألّق
لم ينكر لطفي بوشناق هيمنة ظاهرة "عداوة الكار"، لكنّه يؤكّد في المقابل أنّ الانسياق وراء هذا السلوك كفيل بجعل الفنّان يفقد هوّيته، فالفنّ والعداوة، وفقه، خطّان متوازيان لا يلتقيان. والموسيقى حسب بوشناق مقام روحانيّ يدفع صاحبه قبل إطلاق أيّ نغمة إلى التجرّد من كلّ ما يشدّه إلى عالم الحقد والضغينة.
الفنان لطفي بوشناق لـ"الترا تونس": الانسياق وراء "عداوة الكار" كفيل بجعل الفنّان يفقد هوّيته، فالفنّ والعداوة خطّان متوازيان لا يلتقيان، والموسيقى مقام روحانيّ يدفع صاحبه إلى التجرّد من كلّ ما يشدّه إلى عالم الحقد والضغينة
وردًّا على سؤال "ألترا تونس" حول دور الصراع المصلحي في تغذية "التنابز بين أصحاب المهنة الواحدة"، قال بوشناق إنّ من تحرّكه المقاصد المادّية فحسب هو "فنّان" يغني ليعيش فيكون بذلك بعيدًا عن بلوغ أعلى مراتب الحريّة والجمال والرفعة وعفة النفس، أمّا الفنّان الحق فهو الذي يعيش ليغني، فالغناء والموسيقى وفرحة الآخرين هي الجزاء الحقيقي الذي لا يضاهيه أيّ مكسب ماليّ أو مجد إعلاميّ.
ولمّا سألنا بوشناق عن خطورة العداوة على الفنّان ودورها في إحباط البعض والحدّ من إقبالهم على الإبداع، أجاب في غير تردّد: "إنّ الآخر سواءً كان خصمًا أو حليفًا دوره في كلّ الأحوال مفيد. فإن كان صادقًا محبًّا كريمًا يقدّم إضافة استفدنا منه، وإن أبدى كراهية وعدوانية حثّنا ذلك على إثبات وجودنا بمزيد البذل والعطاء. فالآخر في كلّ الأحوال مساهم في تحفيزنا نحو التمسّك بتطوير أعمالنا وتهذيبها، ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن يدفعنا إلى مجاراته في الضغينة أو الوقوع في القلق والارتباك؟".
- الصراع بين أهل الاختصاص الواحد محمود والبيئة المهنية الباردة تُعطّل التطوّر
يُقرّ الباحث لطفي الحجلاوي بإمكانية تحوّل التنافس بين أصحاب الاختصاص الواحد إلى "الفجور في الخصام"، وهو ما يؤكّد حسب رأيه وجاهة استخدام عبارة "عداوة الكار" في سياقات كثيرة.
وحول إمكانيّة وجود هذا الضرب من العداء في مجال ناعم يتّصل بالإبداع الموجّه للأطفال أم في مقام أكاديمي محكوم بقيم إيتيقية وعلمية دقيقة، يقول الحجلاوي: "من وجهة نظري ككاتب للأطفال وكأكاديميّ أعتبر الصراع بين المنتمين إلى نفس الاختصاص حتميّة لا فكاك منها".
الباحث لطفي الحجلاوي لـ"الترا تونس": قد يتحوّل التنافس بين أصحاب الاختصاص الواحد إلى "الفجور في الخصام" وهو ما يؤكد وجاهة استخدام عبارة "عداوة الكار" في سياقات كثيرة
ويضيف معلّلًا رأيه: "إنّ البيئة المهنيّة الباردة الساكنة غالبًا لا تتطوّر، بينما إدراكك أنّ هناك من يراقبك ولسانُه كالسكين يهدّد رقبتك يجعلك تجتهد في البحث والإتقان وتحاول ألّا تترك في عملك الثغرات التي يدخل منها القدح والذمّ والشتيمة".
ولتأصيل موقفه تاريخيًّا وفكريًّا، يضيف الحجلاوي: "تاريخ الأدب العربيّ كلّه قائم على السّجال والتنافس والتنابز والتقاتل والسّباب وهتك الأعراض للشبيه والزميل و"صاحب الصنعة". وليست الحضارة الغربية بمنأى عن ذلك"، ولتأكيد رأيه عرض الحجلاوي أمثلة منها اعترافات سيغموند فرويد الذي شكا حجم الهجمات التي نالته من محيطه العلميّ فوصفها بكونها "قد عصفت بكلّ قواعد المنطق وغفلت عن ضوابط اللياقة الأكاديمية".
لطفي الحجلاوي لـ"الترا تونس": علينا التعايش مع حقيقة أنّ المرء بقدر نجاحه يتضاعف أعداؤه وأنّ البيئة المتوتّرة بقدر ما تضع علينا من الضغوط هي في الآن نفسه تحفّزنا على التطوّر الذاتي
وردًّا على سؤال "ألترا تونس" حول ما إذا كانت "عداوة الكار" دافعًا إلى الزهد والإعراض عن الآخرين، نفى الحجلاوي أن يكون هذا الاختيار السبيل الأمثل للخلاص قائلًا: "علينا التعايش مع حقيقة أنّ المرء بقدر نجاحه يتضاعف أعداؤه".
ويضيف الحجلاوي: "علينا كذلك التعايش مع فكرة أنّ البيئة المتوتّرة بقدر ما تضع علينا من الضغوط هي في الآن نفسه تحفّزنا على التطوّر الذاتيّ".
وعن الحلّ الذي يراه أنسب لتخطّي معضلة "عداوة الكار"، يقترح الحجلاوي "بناء إيتيقا للصراع والتنافس والعداء بين الزملاء"، فما دمنا، حسب رأيه، لا نستطيع أن نزهد في ما يرغب فيه الآخرون، فعلينا على الأقلّ ألّا نفجر في الخصام معهم".
- الجاهل والضعيف أقرب إلى النزعة العدائيّة
يؤكّد المدرّب لسعد جردة أنّ كرة القدم هي الفضاء الذي تستشري فيه ظاهرة "عداوة الكار" أكثر من غيره. وهذه العداوة الخفية والمفضوحة تقف وراء الفوضى والإخفاقات التي تميّز القطاع مع جملة من الأسباب الأخرى المعلومة.
وتفصيلًا لهذا الموقف، يؤكد جردة أنّ الخصومات بين أصحاب الاختصاص الواحد تقع إدارتها بالوكالة عبر عدد من الإعلاميين أو من خلال بعض صفحات التواصل الاجتماعي، ذلك أنّ التشكيك في الكفاءات، وهو أكثر الأساليب المعتمدة في المنافسة غير الشريفة، لا يصدر عن ذوي المنزلة الرفيعة والشهائد المعتبرة إنّما يصدر عن الجهلة والضعفاء، على حدّ تعبيره.
المدرب لسعد جردة لـ"الترا تونس": كرة القدم هي الفضاء الذي تستشري فيه ظاهرة "عداوة الكار" أكثر من غيره. وهذه العداوة الخفية والمفضوحة تقف وراء الفوضى والإخفاقات التي تميّز القطاع
الأخطر من ذلك، حسب رأي المدرّب الأسبق للاتحاد المنستيري والرجاء الرياضي المغربي، أنّ المتلقّي في المجال الرياضي يكون في الغالب بسيطًا واطلاعه يفتقر إلى الدقة والإحاطة، هذا ما يجعله فريسة التصريحات والتحليلات التي توهم بالموضوعية، لكنّها تنطوي في الغالب على التحيّز والمغالطة.
وحول خطورة التنافس غير النزيه بين المنتمين إلى مجال التدريب، يقول لسعد جردة إن الخاسر الأكبر هو الكرة التونسيّة. وما يثير الدهشة حسب تعبيره هو أنّ المتدخّلين المباشرين وغير المباشرين في تعيين المدربين لا يعقدون مقارنات متوازنة يمكن أن يقبلها العقل والذوق. فبأيّ منطق، يتساءل جردة، تكون المقارنة بين مدرّب بلغ أعلى درجات التجربة والتكوين ومدربّ فقير معرفيًا وأكاديميًا يستمدّ نفوذه من نجوميته كلاعب سابق في المنتخب؟
أعداء الكار الواحد يتوخّون أساليب ملتوية غير مباشرة في إدارة الصراع، ويعتمدون التشكيك أسلوبًا في إحباط المنافس من أهل الاختصاص وقد ينتج عن هذه العداوة المساهمة في نشر الفساد في التقييم والتعيين والصفقات والانتدابات
نخلص من خلال حديث "ألترا تونس" مع لطفي بوشناق ولطفي الحجلاوي ولسعد جردة إلى ثلاث نتائج أولها توخيّ أعداء الكار الواحد أساليب ملتوية غير مباشرة في إدارة الصراع، ثانيها اعتماد التشكيك والفجور أحيانًا أسلوبًا في إحباط المنافس من أهل الاختصاص ويكون لهذا الأسلوب دور فاعل كلّما كان الجمهور محدود المعرفة والذوق ويتقلّص كلّما ارتفعت قدرة المتلقيّ على التمييز، ثالثها يتعلّق بالأثر والاستتباعات فقد تفضي عداوة الكار إلى المساهمة في نشر الفساد في التقييم والتعيين والصفقات والانتدابات، لكنها قد تدفع المبدع أو الباحث إلى الدفع بالعطاء إلى منتهاه فيتحوّل إثبات الذات إلى ضرب من المقاومة في ميادين فيها كثير من ألغامِ الوشاية والاستخفاف و"التنبير" والتشهير.