14-يونيو-2018

لكل "مصوّر" حكمته ومفاجآته يوم العيد (صورة تقريبية/ Getty)

مشهد من العيد:

"صغار في أبهى زينتهم، أطفال في أبهى حللهم يعترضونك في المنعطفات وفي زوايا الأنهج والساحات الصغيرة للقرى والمدن محمولين على بهجة العيد السعيد: مرح ولعب وألوان بلا حدود، بنات كالفراشات وأولاد كالطيور، أمّهات وآباء يرون العيد وتجلياته في بهاء أبنائهم.

الكل في اتجاه "المصوّر"، ولكل "مصوّر" حكمته ومفاجآته يوم العيد. إنهم لا يكفون على التّنافس من أجل أن تكون صورهم أحلى وأجذب.

تمتلئ الساحات باكرًا ويتزاحم الناس أمام المصورين لالتقاط "صورة العيد".

لا يكون العيد عيدًا دون هذه الصورة الذهبية".

السؤال هنا هو، لماذا ننجذب لصورة العيد بهذه الطريقة؟ لماذا هي بهذا الإغراء وبهذا الغموض؟

لماذا ننجذب لصورة العيد بهذه الطريقة؟ لماذا هي بهذا الإغراء وبهذا الغموض؟

اقرأ/ي أيضًا: مدفع رمضان.. دوي بطعم الحنين

تعالوا نفك بعض الأقفال.

عندما أعود لصور العيد العائلية أطيل النظر إليها دون غيرها من الصور فتتزاحم ذكريات بعيدة بعضها بالأسود والأبيض وبعضها ملوّن، أنشدّ إلى تلك الحياة التي كنتها. أكاد أسمع هرجنا أمام حانوت المصور وأكاد أسمع صوت المصورين الأخوين "عم الناصر الجويني" و"عم علي الجويني" وهما بهدوئهما الغريب ورائحة الحذاء الجديد عادت مجددًا إلى خياشيمي وظفائر بنات الحي يكاد زيتها يضيء. إنها حياة ثابتة في صورة. هل هي حياتي القديمة تعود إلي؟

قد يبدو الأمر بسيطًا وشبيهًا بالنوستالجيا أن نفكر في صورة العيد لكن لا تخلو المسألة من عمق ما. نحن نريد أن نسائل هذه الصورة دون غيرها من الصور مساءلة أنطولوجية، حول وجودها وماهيتها. ولماذا هي بهذه الهيبة؟

هذه الصورة، صورة العيد، لا ننقاد إليها بالعقل لأننا في زمن "الطوفان البصري" كما يقول رجيس دوبريه. وقد ننجزها بمفردنا بأجود آلات التصوير الفوتغرافي، المسألة ليست مرتبطة بالتكنولوجيا بل هناك إلحاح آخر، هناك أفق ميتافيزيقي يتلبس بالعائلة يوم عيد الفطر، إننا ننقاد إليها بأصوات أخرى تسكننا قد تكون أصوات الأجداد ونداءاتهم الداخلية هي التي تدفعنا نحو ذاك الفعل القديم المستعاد. إنه المقدس يطفو على فكرة تصوير أنفسنا يوم العيد.

صورة العيد لها جماليتها التي تخلقها، ففيها لا نميز بين المتعة والفرحة، بين الخشوع والترفيه. الطفل في هذه الصورة مأخوذ على أجنحة العيد بصخبه ومتعه الطفولية وقيمه المجتمعية ومغمور بما بقي من روائح رمضان، يقف بين لحظتين، لحظة قرص المصور على آلته الفوتوغرافية وانبعاث بهرة ضوء عجيبة (الفلاش) تدوّخ الطفل وترفعه من الواقع إلى اللاّواقع، ولحظة إعجاب الوالدين بطفلهما وهو فوق منصة التصوير.

صورة العيد العجيبة التي تمتد إليها مهجنا قبل أبصارنا هي قبض على المطلق

اقرأ/ي أيضًا: المهن الموسمية في رمضان.. باب رزق

من هنا تتأتى الصورة وتتشكل مضامينها الآنية اللحظوية المباشرة لكنها سرعان ما تتحول إلى خزّان علامات، علامات اجتماعية وأخرى نفسيّة وتاريخية فتتجاوز الزائف الواقعي إلى الفلسفي، فنستنطقها كيفما نشاء. أحيانًا عندما نمسك "صورة العيد " ونتأملها نضحك ملء شدقينا من وقفة أو حركة أو لباس أو مشطة شعر أو شكل حذاء. في تلك اللحظة المفارقة هي تردّ إلينا الزمن، تردّنا إلى أنفسنا، فنختبئ وراء تلك الضحكة المجلجلة.

الفيلسوف الفرنسي "جاك ديردا" عندما قرأ أعمال الرسام الهولندي "فان غوغ" خلص إلى أن تلك الاعمال ليس لها من مرجعيات إلا نفسها. وهذا تقريبًا ما يحدث مع صورة العيد إذ ليس لها من مرجعية إلا نفسها لذلك نحن ننقاد إليها مدهوشين ونعود إليها بعد زمن بنفس تلك الدهشة الطفولية.

هذه الصورة العجيبة التي تمتد إليها مهجنا قبل أبصارنا هي قبض على المطلق. فالزمن هو سيّد المطلق والطفولة هي تجسيد لهذا المطلق. فمن هذا اللقاء بين الزمن والطفولة تنبثق قوى الصورة الخالدة، ناصعة رغم الأبيض والأسود، أبديّة رغم تقليبنا إياها آلاف المرات ورغم إخفائنا لها نعود إلى مكامنها ملهوفين. العقل يعجز أحيانًا عن فك شيفراتها المتجددة،  بالعاطفة وحدها نسائل توهجها الدائم.

في صورة عيد الفطر وحدها ينتصر الجمالي على اللّاجمالي، لا مجال للقبح فيها فكل صورة لها أسرارها التي تخفيها وتخبئ البعض منها للأيام وللأجيال

في صورة عيد الفطر وحدها ينتصر الجمالي على اللّاجمالي، لا مجال للقبح فيها. فكل صورة لها أسرارها التي تخفيها وتخبئ البعض منها للأيام وللأجيال، حتى تبقى حية ومؤثرة كقصيدة شعر خالدة. "أعيش مرة واحدة... لكن إلى الأبد "(قصيد فرعوني).  إنها شعر لا تقرأه الأعين بل تتهجاه الروح.

صورة العيد لها غواياتها الدلالية فنحن لا نكف عن التقاطها والعودة إليها كلما اشتهت العين ذلك من أجل البحث فيها ومذاكرتها ومراجعة الوجوه التي رحلت أو تلك التي فعل فيها الزمن فعله، مدفوعين بلعبة المدّ والجزر اللامتناهية بين الماضي والحاضر...

صورة العيد، إنها لذة الفوتوغرافيا المقدسة تبقى من أغرب الأفعال البسيطة التي نأتيها يوم عيد الفطر. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

وإذا "بوطبيلة" سئل.. بأي ذنب وئد؟

الأعمال الفنية التاريخية: تحريف للتاريخ أو وسيلة لتعميمه؟