المشهد العام في تونس هذه الأيّام أقرب ما يكون إلى ما يمكن نعته بالبرود الشعبي قياسًا إلى حرارة الأحداث السياسية وتواترها ودقتها، فبعد أن كان جلّ المواطنين يهتزّون مساندة أو سخطًا بُعيد كلّ تصريح من هذا السياسي أو ذاك، وبعد أن كان الغالبية لا يُفوّتون سجالًا إيديولوجيًا دون الخوض فيه استحساناً أو استهجانًا، بعد هذه الحماسة التي طغت في المنابر والأسواق والساحات والبيوت ودور العبادة وعلى منصات التواصل الاجتماعي، أدركنا حالة من الصمت الغريب الذي لا يتناسب مع تطوّرات تاريخية مفصلية سيكون لها أثر بعيد المدى في حاضر البلاد ومستقبلها داخليًا وخارجيًا.
المشهد العام في تونس هذه الأيّام أقرب ما يكون إلى ما يمكن نعته بالبرود الشعبي قياسًا إلى حرارة الأحداث السياسية وتواترها
ففي بضعة أسابيع، تمّ الاستفتاء على دستور جديد والمصادقة عليه، وجرت الانتخابات التشريعية في تونس في طوريها الأول والثاني انبثق عنها مجلس نيابي، وحُلت المجالس البلدية، وطُرح الشأن التونسي في أكثر من محفل دولي رفيع المستوى، جرى هذا كلّه تزامنًا مع استفحال الأزمة الاقتصاديّة وتواصل الجائحة المناخية ممثلة في انحباس الأمطار وشحّ المياه.
وممّا زاد في أسباب الإثارة تصريحات رئاسيّة وبيانات رسمية في غاية الخطورة غالبًا ما تتزامن مع تحقيقات وإيقافات وتهم جنائيّة طالت نقابيين وأمنيين ورجال أعمال ومديرين عامين ومسؤولين من الصفوف الأولى وشملت خاصّة عددًا مهمًا من القيادات الحزبيّة المعارضة ذات المنزلة الاعتباريّة والتاريخية والنضاليّة لدى أنصارها. في ظلّ هذا كلّه بقي المواطن التونسي ساكنًا صامتًا كأنه غير معنيّ لا تحركه غير شؤونه الخاصّة و"خبزه اليومي".
لا شكّ أنّ فئة كبيرة لم تكُفّ يومًا عن إبداء مواقف واضحة حاسمة صارمة من هذا المشهد المثير، لكنّ حجم هذه التفاعلات بصرف النظر عن موقعها من السلطة يظلّ ضعيفًا كميًّا ونوعيًّا، فقد عجزت المعارضة عن التجييش كما عجز الرئيس التونسي قيس سعيدّ عن التحفيز على المشاركة السياسيّة، فما الذي يفسّر الصمت الجماعي في واقع خِلافي يحثّ على القلق والحيرة والمحاجّة والمناظرة و"التدافع" الفكريّ والخطابي؟
ما الذي يفسّر الصمت الجماعي في تونس منذ فترة في واقع خِلافي يحثّ على القلق والحيرة والمحاجّة والمناظرة و"التدافع" الفكريّ والخطابي؟
- الحكيم والشيطان الأخرس
الجهل والخجل والخوف والرضا وبعضُ درجات الاكتئاب وأشكالٌ من التجمّل أو التعبّد أو التأمّل...هذه جملة من الحالات والوضعيات النفسيّة والطقوسيّة والذهنيّة التي تحثّ على الصمت، ويكون فيها السكون مباحًا ومحمودًا أحيانًا، وقد حفلت المدوّنة الفكريّة والأدبيّة بنصوص انبنت على دعوات إلى التزام الصمت وقامت على عروض لفضائل السكوت منها قولٌ يُنسب إلى لقمان يخاطب ابنه ناصحًا: "يا بُنيّ إذا افتخر الناس بحسن كلامهم، فافتخر أنت بحسن صمتك"، ومنها كذلك في باب الحكمة "الندم على السكوت خير من الندم على الكلام"، في المقابل تلهج أصوات الرافضين الساخطين والمتمرّدين في كلّ الأزمنة بعبارات تحرّض على النقد والاحتجاج من قبيل "الساكت عن الحقّ شيطان أخرس".
الحِكمُ والأقوال المأثورة تتسم بالتجريد، وغالبًا ما ترقى إلى مرتبة الإطلاقية والكونية والخلود، فتحظى بالقبول والانتشار الواسع شأنها شأن المعادلات المنطقيّة والرياضياتيّة، غير أنّ الملفوظات المتصلة بثنائيّة الصمت والكلام لم تدرك هذه المرتبة، فقد ظلّت موضوع اختلاف، لذلك تواصلت المقالات والأطروحات حول المفاضلة بين هذين السلوكين المتضادّين أشهرها رسالة لأبي عثمان الجاحظ ( 165ه 255ه)، فيها فضّل صاحبُ "البيان والتبيين" الكلام على الصمت، وقدّم حججًا متنوعة وعميقة منها قوله: "لو كان الصمت أفضل والسكوت أمثل لما عُرف للآدميين فضل على غيرهم ولا فُرِّق بينهم وبين شيء من أنواع الحيوان.. مع أنّي لم أُنكر فضيلة الصمت، ولم أُهجّن ذكره إلّا أنّ فضله خاص دون عام وفضل الكلام خاصّ وعامّ".
الكلام كما يتّضح من خلال هذا الشاهد لا تقتصر قيمته على الوظيفة النفعية التواصليّة فبه تتحقّق هُويّةُ الإنسان ومدنيّتُه. ولا عجب أن يُفضّل أبو عثمان الكلام على الصمت، فهو من أعلام المنزع العقلي ومن رموز مذهب المعتزلة الذي يتمسّك أصحابه بجملة من المبادئ أهمها العدلُ وتقديم الرأي على النقل والتمسّك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
- صمت الخوف وصمت الرضا
المفاضلة بين الصمت والكلام كما يتّضح من خلال الأمثلة المذكورة لم تكن مجرّد مسألة لسانيّة أو سلوكيّة أو ثقافيّة، فهي قضيّة ذات مرجعيّة سياسيّة ومذهبيّة، فقد اهتدى بعض الدارسين إلى أنّ التحريض على الكلام وتمجيده غالبًا ما يصدر عن المدافعين عن الحريّات في المقابل تنتشر الأقوال الممجدة للصمت في فترات الاستبداد والخوف.
في أزمنة القمع غالبًا ما يميل الحاكم إلى التضييق على حرّيات التعبير، فيلجأ المواطن إلى التزام الصمت حتّى في المواقف التي تهتزّ لها مصلحة الوطن ومستقبله
هذه الأطروحة لا تخلو من وجاهة ففي أزمنة القمع غالبًا ما يميل الحاكم إلى التضييق على حرّيات التعبير، فيلجأ المواطن إلى التزام الصمت حتّى في المواقف التي تهتزّ لها مصلحة الوطن ومستقبله، وذلك خوفًا على حياته ورزقه واستقراره الأسريّ، لكن هل تنطبق هذه المعادلة على التونسيين بعد عشرية 2011-2021 التي يراها خصومها سوداء مأسويّة ويعتبرها المشدودون إليها آية من آيات الديمقراطية والحريّة؟
المشهد السياسي التونسي يبدو فريدًا مركّبًا شديد التعقيد خاصّة بعد المسارات التي اختارها رئيس الجمهورية قيس سعيّد منذ 25 جويلية/يوليو 2021، لذلك عزّ إخضاعه إلى القواعد العامّة والمعادلات الجاهزة، فمن المؤكّد أنّ السكوت عن الإجراءات الرئاسيّة ينطوي في جانب منه على مساندة شعبيّة من فئات عديدة، فالصمت عربون الرضا وعلامة القبول، ولا شكّ كذلك أنّ الخوف قد يكون عاملًا معطّلًا للتعبير الحرّ والفكر النقدي والتفاعل الصادق العفوي مع الأحداث السياسيّة، والدليل أنّ الدراما الرمضانية قد كشفت أنّ التونسي لم يفقد لسانه، فها هو يخوض في كلّ صغيرة وكبيرة حول الممثلين والسيناريوهات والقضايا المطروحة في "فلوجة" و"الجيل الأحمر" وغيرهما من الأعمال الدرامية والكوميديّة الرمضانيّة ويصوم عن الكلام إذا تعلّق الأمر بالشأن السياسي والحقوقي.
لكن المشهد التونسي المعقّد يجعلني رغم هذه المعطيات الواضحة لا أطمئنّ إلى التفسير الذي يصل "الصمت الشعبي" وصلًا آليًّا إمّا بالرضا أو بالخوف، فهذه المعادلة تظلّ في رأيي قاصرة على استيعاب فئات كبيرة من الصامتين، فبعضُ المؤشّرات تؤكّد أنّ دوافعهم إلى الإعراض عن الخوض في مواضيع الديمقراطية والحريّات تبدو لعمقها وخصوصيّتها في حاجة إلى التفكيك المركّز بعيدًا عن الأحكام المسبقة، كما يتّضح في الفقرات التالية.
- صمت التأمّل والمراجعة
تميّز المواطن التونسي بعد الثورة باندفاع فائق غير مسبوق في إبراز تفاعله مع الشأن العام، فأقبل على العمل السياسي نقدًا ودعمًا وانخراطًا ومعارضة وتأسيسًا وانتخابًا واحتجاجًا ومواجهة وصدامًا أحيانًا، هذا المجهود الانفجاريّ الاستثنائيّ، أرجعه البعض إلى ضرب من التعويض عن "كبت شعبي" دام عقودًا قبل الثورة، وهو ما جعل المواقف والانتماءات انفعاليّة عُصابية متهافتة مفتقرة في الغالب إلى الفهم والتقصّي وحسن التدبير والاختيار الحرّ الواعي المسؤول، ومتى كان الاختيار غير مسؤول كان الدفاع عنه غير مأمول.
ظلّت "الأصوات السياسية" في تونس على امتداد عشر سنوات تقريبًا تحرّكها في الغالب الأعمّ النعرات الإيديولوجية والمغالطات والأفكار الجاهزة
ظلّت "الأصوات السياسيّة" على امتداد عشر سنوات تقريبا تحرّكها في الغالب الأعمّ النعرات الإيديولوجية والمغالطات والأفكار الجاهزة، ولأنّ الخيبات من أوكد المحفزات الحاثّة على المراجعات، ولأنّ التونسي قد نال من هذه الخيبات الكثير، ولأنّه لم يكن قادرًا على استيعاب السياسة بما هي عالم قُلَّبٌ حُوَّلٌ، ولأنّ المشهد قد اختلط وارتبك حدّ الغموض والإبهام فلا ثبات فيه ولا وضوح ولا صدق ولا استمراريّة، فقد لاذ المواطن بالصمت صمتًا يشدّه إليه ضمير سياسي يدفعه دفعًا إلى التأمّل والمراجعة حتّى لا تتكرّر أخطاء الأمس القريب وفواجع الأمس البعيد ( تسعينيّات القرن السابق).
بلغت خيبات "عامّة المسيّسين" مرتبة الفواجع والصدمات وهو يعاين قاعدة "تواطؤ الأضداد" تتجسّد أمامه بعد كلّ نازلة وقبيل كّل انتخابات وبعدها، إسلاميّ يعانق تجمّعيًا في حفلات توافقية ويساريّ يتقرّب إلى رأسماليّ متوحشّ في مجالس تشاركيّة، وأنصار قيس سعيّد وداعموه في رئاسيات 2019 يتحوّلون إلى خصوم له بعد مدّة وجيزة من بلوغه القصر، وهؤلاء الذين سخروا منه وترفعوا عنه بات الكثير منهم من المدافعين عن مساراته، وقياديٌّ من النهضة يقول فيها ما لم يقله "وَطدّيٌّ" في إسلاميّ، وشخصيات سياسيّة عَدّت الغنوشي وأنصاره إرهابيين ودونت مواقفها بأصوات من ذهب "قوقوليّ" لا تصدأ ولا تُمحى فهي كالوشم في ظاهر منصات التواصل الاجتماعي، فإذا هي اليوم معه في "جبهة خلاص" مؤلّفة قلوب قادتها.
كمّ هائل من التقلّب في المشهد السياسي التونسي طيلة العشرية الماضية قد تراه النخبة مقبولًا جائزًا مباحًا لكن المواطن البسيط يحتاج إلى تفسير طويل ليستوعب ما استغلق عليه
هذا الكمّ الهائل من التقلّب قد تراه النخبة مقبولًا جائزًا مباحًا لكن المواطن البسيط يحتاج إلى تفسير طويل ليستوعب ما استغلق عليه، فهاهو يلجأ إلى سلوك الهجر الجميل والإعراض عمّا يُريب، فما عاد قادراً على الاصطفاف من جديد في نصرة هذا ومعاداة ذاك، فتتوتر بسبب لونه الحزبيّ علاقته بجيرانه وزملائه في العمل وأقرانه وبعض أفراد أسرته ثمّ يرى زعيمه يعانق خصيمه ويرى من كانت تجمعهم صلة رحم حزبية يتسابقون في نشر غسيلهم الداخليّ في منابر الأعداء والمناوئين، ألا يعدّ هذا دافعا قويًا جادًّا إلى الصمت، صمتِ التأمّل والمراجعة لا صمتِ الخوف أو الرضا؟
- صمت الفاقة والزهد والاكتئاب
الكلام في السياسة والخوض في مسألة الحريّات قد يتحوّل إلى علامة من علامات الترف والرفاهية والتفضّل، فالهموم اليومية والضائقة الماديّة من شأنها أن تجعل المواطن كما تحدّثنا في مقامات سابقة عاجزًا عن الخوض في الشأن العامّ، فمتى فعل ذلك صار مثله كمثل الدّابة الجائعة إذا صاحت سقطت اللقمة من فمها.
وقتُ المواطن التونسيّ بات مستنزفًا في المواصلات وذهنُه تؤرقه الخصومات الصغرى المتواترة والخلافات اليوميّة المتكرّرة مع العطّار والخضّار والتاكسيست ورفقائه في النقل العمومي وزملائه في العمل ومزاحميه في المستشفيات، هذا إن لم تكن له شجارات مزمنة مع الأقربين من جيرانه وأفراد أسرته، أمّا جسدُه فقد أنهكته الفوضى في العمل والطريق والبيت والسوق والمأكل غير الصحّي ولم يقدر على معالجته فاختار التقشّف في زيارة الطبيب واقتناء الأدوية، لم ينحنِ رأسُ هذا المواطن المنهَك وعنقُه وظهرُه طاعة أو خوفًا إنما هو في هذا الهوان من فرط الهموم، فلا تراه يرفع رأسه إلا وهو يدعو الله مناجيًا راجيًا من السماء خلاصًا فردّيًا.
الكلام في السياسة والخوض في مسألة الحريّات قد يتحوّل إلى علامة من علامات الترف والرفاهية والتفضّل لدى البعض
صمتُ هذه الفئة من المواطنين يبدو في حاجة إلى دراسة معمّقة من ذوي الاختصاص لعلّ أقدرهم الباحثون في علم النفس الاجتماعي، لكنّ الانطباع الذي لا نستطيع إنكاره هو أننا إزاء حالة هي أقرب إلى صمت الفاقة ( الفقر والعجز والحاجة) وصمت الزهد وصمت الاكتئاب، اكتئاب ساهمت فيه جوائح وبائيّة ( كورونا) ومناخيّة واقتصاديّة وأخلاقيّة..
خصاصة فاكتئاب فزهد من آياته الفيسبوكيّة تواتر نشر أقوال أعلام من المتصوّفة، ومن علاماته الطقوسيّة الدينية الإقبال غير المسبوق على دور العبادة لصلاة التراويح في هذه الليالي الرمضانية، ( 1443ه -2023م )، ولسان حال كلّ واحد منهم يقول: "اللهم إنّي أشكو إليك ضعف قوّتي وقلّة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين".