ما إن تزدان السماء بهلال شهر رمضان، يعيش المسلمون في كامل أصقاع الأرض على وقع نفحاته ويتهيّأ كلّ فرد ليعيش أجواءه الروحانيّة ويستغلّ هذه المناسبة ليحيي عادات وتقاليد ألفها واعتاد الامتثال لها.
ولئن كان هذا الشهر موعدًا ينتظر بشوق من قبل ممارسي طقوسه، إلّا أنّ وقعه يختلف عند المسلمين الذين يعيشون في دول غربيّة وأيضًا عند الأجانب المقيمين بدول تلتزم بشعائره. فبينما هناك من يحاول الالتزام بشروط هذا الشهر ويعمل جاهدًا لاستجلاب نسماته في بلاد أجنبيّة، هناك من يعيش ارتباكًا في بوصلة حياته في بلاد إسلاميّة. تناقض حاول رصده "ألترا تونس" من خلال التواصل مع جاليتنا التونسيّة في بعض الدول الاوروبيّة وبعض الأجانب المقيمين بتونس العاصمة.
الأجانب المقيمون في تونس.. هكذا نتعايش مع شهر رمضان
غالبًا ما يختار الأجانب الاستقرار بالضاحية الشماليّة لتونس العاصمة لذلك كان من السهل الالتقاء بالعديد منهم بسوق المرسى خاصّة في الساعات الأولى من النهار. فمنذ دخولك الباب الرئيسي للسوق تلاحظ أنّ عددهم يطغى على عدد التونسيين الذين عادة ما يختارون التسوّق في وقت متأخّر نسبيًا. ولولا أصوات الباعة وخصوصيّة المنتوجات الرمضانيّة المعروضة فقد يهيّأ لك للحظات أنّك دخلت بوّابة دولة أجنبيّة.
يحاول التونسيون المهاجرون استجلاب نسمات شهر رمضان في الخارج بينما يعيش بعض الأجانب في تونس ارتباكًا في بوصلة حياتهم في هذا الشهر
ماريلور ولوتشانو، زوجان من أصول فرنسيّة يتحدّثان لـ"ألترا تونس" عن حياتهما في هذا الشهر، وأفادا أنّهما يحبّان أجواء رمضان خاصّة وأنّها فرصة للتمتّع بالمسامرات الليليّة خاصّة بالمدينة العتيقة. ويؤكّدان أنّهما لا يجدان إشكالًا في ممارسة حياتهم بشكل طبيعيّ. وعمّا يعرفانه عن هذا الشهر يقول لوتشانو: "لديّ فكرة حول شهر رمضان وهو شهر ينقطع فيه الناس عن الأكل من طلوع الشمس إلى غروبها وهو أيضًا فرصة لتلتقي العائلات للاحتفال مساءً".
غير بعيد منهما شابّة كوريّة تحاول أن تستسيغ مذاق زيت الزيتون الذي قدّمه لها البائع محاولًا إقناعها بشرائه. ميغان تحدّثت إلينا وهي تحاول إيجاد كلمات فرنسيّة بصعوبة: "أنا هنا في زيارة لصديق لي ووجدت العيش هنا مختلفًا جدّا. أجد ألوان الخضار مشرقة وتغري بشرائها. كما أنّ الناس طيّبون يحاولون مساعدتك أينما تكون. لذلك أحسّ بالأمان وأنا أتجوّل بمفردي".
لم تواجه الشابة الكورية ميغان أي إشكال في الأكل خلال نهار رمضان
وأضافت ميغان أنّها كانت خائفة ألا تجد مكانًا تأكل فيه لكنّها اكتشفت أن عديد المحلّات مفتوحة ولا إشكال في الأكل في أيّ وقت من النهار، وفق قولها. وقالت محدّثتنا أنها تعرف أنّ "شهر رمضان شهر روحاني عند المسلمين وهو فرصة للتأمل ولأن ينقّي الفرد عقله وقلبه"، على حد تعبيرها.
إبيل (أجنبية مقيمة بتونس): التأقلم مع الأجواء الرمضانيّة يحتاج فقط بعض التنظيم لكن ما يزعج حقًا هو تغير مزاج الناس في نهار رمضان
أبيل، امرأة خمسينيّة تعيش منذ أكثر من عشرين سنة بتونس، تتحدّث عن تجربتها لـ"ألترا تونس" قائلة:" إن إقامتي الطويلة في تونس، جعلتني أتعرّف أكثر عن الطقوس الدينية والعادات في شهر رمضان، وأصبحت بالتالي أتفادى أمورًا كثيرة قمت بها دون سابق معرفة في سنواتي الأولى التي أمضيتها هنا".
وتفسّر أبيل الأمر بأنّ التأقلم مع الأجواء الرمضانيّة يحتاج فقط بعض التنظيم حيث تقوم بتحضير كلّ شؤونها وما يلزمها مسبقًا بالإضافة إلى معرفة بعض المواعيد المهمّة كمواعيد الإدارات والبنوك لذلك لا يزعجها هذا الشهر، على حدّ تعبيرها. وتختم: "ما يزعجني حقّا هو تغيّر مزاج الناس فهم يصبحون أكثر عصبيّة وتكثر المشاحنات والمشاجرات ولكنّي أتفهّم الأمر".
وعلى عكسها، ايزابيل التي لم يمرّ على استقرارها في تونس الستّة أشهر والتي أكّدت أنها تعيش اضطرابًا في نمط حياتها منذ دخول شهر رمضان فهي لا تجد أصدقاءها في مكانهم المعهود والمقهى الذي اعتادت ارتياده لتجرّع قهوتها الصباحيّة مغلق نهارًا. لذلك فهي تجد الأجواء "ميتة" بعض الشيء خاصّة وأنّها لا تفضّل الخروج ليلًا على حدّ قولها.
تنحصر أغلب مشاكل الأجانب في رمضان في مواعيد النقل وصعوبة الحصول على بعض المقتنيات صباحًا وخاصّة الخبز بالإضافة للتجاهر بالإفطار
وعن مدى معرفتها بطقوس شهر رمضان، تقول إيزابيل إنّ الصوم مهمّة صعبة جدًا خاصّة مع حرارة الطقس ولا تفهم لماذا يحرم الناس نفسهم من الشرب خاصّة وتتساءل ماذا يفعل من لا يتمتّع بصحّة جيّدة عندما ينقطع عن الأكل يومًا كاملًا. وتضيف ضاحكة: "يستحيل أن أفكّر في تجربة الأمر وأعتقد أنّه تحدّ كبير للمسلمين".
غير بعيد عن السوق، اعترضنا أمادو ديالو، شابّ من إفريقيا الغربيّة يقطن مع عائلته منذ جانفي/كانون الثاني 2019 بمدينة المرسى، وهو يشاطر إيزابيل الرأي حيث يجد عديد الصعوبات للتأقلم مع نمط الحياة التونسية في شهر رمضان. وأغلب مشاكله تنحصر في مواعيد النقل وصعوبة الحصول على بعض المقتنيات صباحًا وخاصّة الخبز بالإضافة إلى نظرات بعض الناس له عندما يجاهر بالإفطار أمامهم، على حدّ تعبيره.
وجد أمادو ديالو صعوبات للتأقلم مع نمط الحياة التونسية في شهر رمضان
التونسيون المغتربون
يواجه، في المقابل، المغتربون التونسيون تحديًا من نوع آخر من أجل التوفيق بين الحياة اليومية والممارسة الدينية. فإن كانت المواقيت مرتّبة على وقع الإفطار في البلدان الإسلاميّة ممّا يخفّف عن مواطنيها وطأة الصيام ويعطيهم وقتًا لإعداد الإفطار والعيش دون ضغط، فالأمر يختلف بالنسبة للتونسيين في الدول الأجنبية غير ذات الأغلبية المسلمة وبالخصوص في الجانب الآخر من المتوسّط.
يقطن مهدي منذ 11 سنة في بريطانيا، يشاركنا تجربته في الغربة خلال شهر رمضان فيقول: "لقد عشت ثلاث مراحل مختلفة في بريطانيا ولكلّ فترة خصوصيّتها في علاقتها بشهر رمضان المعظّم. فقد كنت متزوجًا من أنجليزيّة ثمّ طلّقتها وتزوجت بعدها بتونسيّة". ويسترجع مهدي ذكرياته مع الانجليزيّة حيث يؤكّد أنه لم يكن يشعر برمضان في تلك الفترة خاصّة وأنّ زوجته لا تصوم فكان رمضان غربة أخرى بالنسبة إليه، على حدّ تعبيره، يقول إنه لم يكن يحسّ بخصوصيّته حتّى أنّه لم يكن يستطيع متابعة البرامج التلفزّية الرمضانيّة.
يواجه المغتربون التونسيون في البلدان الأجنبية تحديًا حقيقيًا من أجل التوفيق بين الحياة اليومية والممارسة الدينية
ويضيف محدّثنا أنّه حاول استدراك الأمر بعد طلاقه وحاول أن يقترب أكثر من الأجواء الرمضانيّة باقتناء هوائي يمكّنه من التقاط القنوات التونسيّة وكان يمضي هذا الشهر في إعداد الأكل التونسي واستضافة بعض الأصدقاء التونسيين ويذهب لمسامرتهم في الليالي الرمضانيّة. لكنّ نكهة البلاد ودفء العائلة كان ينقصه على حدّ قوله.
الزواج بتونسيّة كانت مرحلة مفصليّة في حياة مهدي قائلًا: "رمضان أصبح رمضان بنكته وخصوصيّاته: الشربة، والمسلسلات التونسية، وحلويات السهرة، والتعاون على إعداد الأكل وجلي الأطباق. أجواء السهرة والسحور كلّها أصبحت حاضرة في منزلي وأصبح لرمضان نكهة وطعم".
ويضيف محدّثنا أنّ المنتوجات التونسيّة أصبحت متوفّرة في السنوات الأخيرة كالمشروبات الغازيّة التونسيّة والكسكسي والهريسة مشيرًا إلى أنّه غالبًا ما يسافر إلى تونس ليحضر أغلب مستلزمات الشهر من ملسوقة وشربة وتنّ. "في داري نعيش تونسي" هكذا عبّر مهدي عن حاجته لاستشعار أجواء موطنه في البيت فلا تغيب اللمسة التونسيّة في أركانه وأنّ عائلته تحافظ على اللهجة في محادثاتها اليوميّة.
وعن أبنائه، يؤكّد لـ"ألترا تونس" أنّه يعلّمهم شعائر الصيام ويدرّبهم عليه من خلال صيام نصف يوم مثلما قضت العادة. وحتّى القائمين على مدرستهم يتواصلون معه لمعرفة إن كان ابنه صائمًا أم لا وهذا دليل على مدى احترامهم لشعائر المسلمين على حدّ قوله. ويضيف مهدي: "من المهمّ توريث عاداتنا وتقاليدنا لأبنائنا كي لا تضيع وترسخ عبر الأجيال".
فيما يتأسف محدثنا عن الأجواء الرمضانيّة خارج البيت قائلًا: "رمضان لا يتجاوز أركان البيت فعند خروجك تنقطع تمامًا مع هذا الشهر رغم أنّ المسيحيين يحترموننا إلّا أنك تستشعر غربة المكان والزمان".
وفي خاتمة حديثه، يقول: "تونس تقعد عزيزة وغالية علينا وتقاليدنا يجب أن تتوارث جيلًا بعد جيل"، مؤكدًا أنّ الأجواء الرمضانيّة في تونس استثنائيّة ومميّزة ورغم محاولاته لتجاوز الهوّة إلّا أنّه يفتقد الأجواء قبيل الأذان روائح خبز الطابونة ومذاق اللبن حومته والمسامرة مع الأصدقاء في المقاهي.