مقال رأي
- تحب طبيب يداوي ولا سبيطار ما يداويش
- نحب "رخصة علاج"
هو ليس شعارًا في تحرك احتجاجي، إنما هو الخبز اليومي في حياة بطل الفيلم "محمد رمزي حمزة" الذي اختار هذه الكلمات لتكون همزة الوصل بينه وبين جمهور الفيلم الوثائقي "رخصة علاج" المشارك في المسابقة الرسمية لأيام قرطاج السينمائية.
"رخصة علاج" هو فيلم وثائقي طويل للمخرج الشاب "هيفل بن يوسف" وهي المشاركة الرابعة له في برمجة أيام قرطاج السينمائية والأولى في المسابقة الرسمية للأفلام الوثائقية الطويلة، حيث اختار المخرج في هذا العمل إماطة اللثام عن معاناة أصحاب متلازمة توريت (Tourette Syndrome).
"رخصة علاج" هو فيلم وثائقي طويل للمخرج هيفل بن يوسف، حصد تنويهًا خاصًا من لجنة الأفلام الوثائقية الطويلة في اختتام أيام قرطاج السينمائية في دورتها الـ33
تعد هذه المتلازمة من الأمراض النادرة، إذ تتمثل في جملة من الحركات والعبارات البذيئة اللاإرادية التي تسيطر على تصرفات الفرد وهو ما يجعله مختلفًا في نظر الآخر.
ومن المهدئات المستعملة في هذه الحالات المرضية النادرة نجد "القنب الهندي" الممنوع قانونًا في تونس. لذا، فحكاية بطل الفيلم تكمن في مفارقة بحثه عن علاجه الذي أساسه القنب الهندي في ظل دولة "يهدد" سلمها الاجتماعي الاستهلاك الشخصي للقنب حتى وإن كان هذا الاستهلاك لغاية العلاج.
ولتسليط الضوء أكثر على هذه الحالة، تابعت كاميرا المخرج مختلف جوانب حياة "محمد رمزي حمزة" في رحلة دامت سنة ونصف من التصوير والتوثيق والبحث في خفايا الشخصية، فمحمد رمزي لم يكن تلك الحالة الاجتماعية التي تستوجب التعاطف لمدة ساعة من العرض، بل هو شخصية مركبة ومعقدة بعض الشيء، تخلق داخل الشخص المقابل لها نوعًا من السخط الاحتجاجي على تعامل أجهزة الدولة التونسية مع أصحاب هذه المتلازمة.
وما نلمسه قبل الخوض في غمار رحلة الفيلم، هو الجسر التواصلي الذي نشأ بين المخرج وجمهوره، والذي يظهر من خلال أول مصافحة لصناع العمل مع الجمهور منذ العرض الأول، وقد كان هذا العرض في قاعة سينما مدار بقرطاج حيث بقي الجمهور مشدودًا للعرض حتى بعد انتهاء الفيلم، ودام التصفيق المتواصل لدقائق، أما العرض الثاني فقد كان بمسرح الجهات بمدينة الثقافة بالعاصمة، وقد صنع الجمهور الحدث فيها عندما حوّل الخلل التقني الذي حصل إلى وصلة فنية.
فقد انقطع بث الفيلم لمدة ربع ساعة لعطل ما بالقاطع الكهربائي حسب توضيح المسؤولين فيما بعد، لكن هذا لم يدفع الجمهور للمغادرة، بل واصلوا التصفيق وغناء بعض الأغاني كأغنية "يا أم السواعد سمر" وأغنية "لن يمروا" وهي من الأغاني التي تتغنى كلماتها بتونس وجمالها رغم المصاعب التي تمر بها.
أماط فيلم "رخصة علاج" اللثام عن معاناة أصحاب "متلازمة توريت"، وهي من الحالات المرضية النادرة التي نجد من بين مهدئاتها "القنب الهندي" الممنوع قانونًا في تونس
وجدير بالذكر أن العروض الثلاثة كانت بقاعات عرض ممتلئة، وهذا دليل على الثقة التي خُلقت بين المخرج هيفل بن يوسف وجمهور الأيام منذ المشاركات الأولى في الدورات السابقة التي كانت خارج المسابقات الرسمية، على عكس فيلم "رخصة علاج" الذي أدرج في مسابقة الأفلام الوثائقية مع ما يقارب 20 فيلمًا وثائقيًا آخر.
اختار مخرج الفيلم إثارة القصة من عدة جوانب مختلفة في معالجته للموضوع، كالجانب الاجتماعي والجانب الحقوقي، كذلك الجانب الفني الذي تحمله الشخصية في ثناياها، فانطلق بتصوير اليومي في حياة محمد رمزي، فهو شاب ثلاثيني يسكن رفقة عائلته في منطقة باب الخضراء بالعاصمة، انقطع باكرًا عن الدراسة أو بالأحرى تم إيقافه عن الدراسة ظنًا منهم أنه يتعمد النطق بكلام منافٍ للحياء وسط القسم فتم طرده. أي أن النواة التربوية لم تستوعب المرض العصبي النادر لمحمد رمزي، وكان هذا الرفض الرسمي الأول من هياكل الدولة -ربما- لتتوالى عمليات الرفض من العمل، إلى الرفض من الحياة الاجتماعية لتصل إلى رفض مطالب رخص العلاج التي تقدم بها إلى هياكل وزارة الصحة.
وقد نظمت أحكام القانون عدد 54 لسنة 1969 المؤرخ في 26 جويلية/ يوليو 1969 المتعلق بتنظيم المواد السمية في العنوان الرابع للقانون الأحكام الخاصة بمواد الجدول «ب» إسناد الرخص العلاجية، لكن المقاربة الزجرية التي تتبناها السياسة الجزائية للدولة منذ مطلع التسعينات -أي منذ سن قانون عدد 52 لسنة 1992 المتعلق بالمخدرات- هي التي تمنع من التمتع بالرخص العلاجية في حالة محمد رمزي والحالات المشابهة له، إلى جانب بيروقراطية الهياكل الإدارية، رغم أن المطالب المودعة في وزارة الصحة في عدة مناسبات كانت معززة بملف صحي وتقارير طبية تثبت جدية المطلب، فإن سلطة الإشراف لم تحرك ساكنًا ولم ترد جوابًا لا بالرفض ولا بالقبول.
ورغم أن الدستور والتشريعات الدولية ترعى الحق في الصحة والحق في الحياة الكريمة، فإن التوجه الزجري للدولة في علاقة بمكافحة المخدرات هو ما يشكل عائقًا أمام الحق الكوني في العلاج والصحة.
تابعت كاميرا المخرج مختلف جوانب حياة "محمد رمزي حمزة" في رحلة دامت سنة ونصف من التصوير والتوثيق والبحث في خفايا الشخصية
وبالتالي فإنّ هذه الازدواجية في القوانين بين تشريع يقنّن الرخص العلاجية، وتشريع يجرّم القنب الهندي واستعمالاته، ضاع حق محمد رمزي في العلاج. فاتجه إلى خلق طرق بديلة بالتوازي مع نضاله اليومي لافتكاك حقه في رخصة العلاج.
فمحمد رمزي رفقة بعض من أصدقائه من النشطاء في مجال حقوق الإنسان، بصدد الإعداد لجمعية تُعنى بالعلاج بالقنب الهندي. هذا من جهة، أما من جهة أخرى فقد توجه محمد رمزي إلى التكوين في المسرح العلاجي، ونجح في العمل على مسرحيته الخاصة التي يروي فيها تفاصيل حياته، وقد قام بعرضها في المهرجانات الصيفية، وفي تعبيره عن نشاطه المسرحي يقول محمد رمزي: "المسرحية توفى على الركح، أما مسرحية حياتي مازالت متواصلة" في إشارة إلى مواصلته في رحلة بحثه عن "رخصة علاج".
بين ازدواجية في القوانين والتشريعات، يقنّن بعضها الرخص العلاجية، ويجرّم بعضها القنب الهندي واستعمالاته، ضاع حق محمد رمزي في العلاج
ومن ضمن الأنشطة التي يقوم بها بطل الفيلم، نجد التنكر في شكل شخصيات كرتون أو في شكل مهرج بغاية التنشيط في المناسبات الخاصة لكسب قوته اليومي أو بغاية الهروب من الواقع وتقمص أدوار الدمى، فذلك يخفف عليه موجة التنمر التي يتعرض إليها.
إلى جانب رصد محاولات محمد رمزي حمزة في خلق الفارق في حياته، فقد سلطت كاميرا المخرج الضوء أيضًا على الجانب القانوني والحقوقي لوضعية محمد رمزي، وذلك بتعزيز الفيلم بشهادات من القاضي عمر الوسلاتي والطرح الإصلاحي الذي يدافع عنه كذلك بحضور قيس بن حليمة رئيس حزب الورقة وعضو ائتلاف "الحبس لا".
كما تعرض هيفل بن يوسف إلى حالة أخرى بحاجة للعلاج بمادة القنب الهندي وهي حالة الشاب هيثم عمامو والذي يعاني من مخلفات حادث قديم، حيث أن المسكنات الطبية مثل "الترامادول" قد سببت له مضاعفات كاضطراب في التركيز على عكس "الماريجوانا" الطبية التي استعملها أثناء فترة علاجه بالخارج.
كل هذه الجوانب إذًا، ساهمت في نحت النجاح الذي حققه الفيلم الوثائقي "رخصة علاج" في أولى عروضه في برمجة أيام قرطاج السينمائية وفي المسابقة الرسمية، فهو مبنيّ على قضية إنسانية، ويفسر مدى التزام المخرج وارتباطه بقضايا شعبه وبالمتغيرات السياسية والاجتماعية بالبلاد وخارجها، ووعيه بالقوانين الواجب تغييرها والتي صارت تهدد كافة أبناء وبنات الشعب التونسي، وعلى سبيل الذكر لا الحصر نذكر بقضية المخرج عصام بوقرة ضحية القانون عدد 52 والذي يقبع في سجن إلى لحظة كتابة هذه الأسطر.
ما ساهم في نجاح الفيلم الوثائقي "رخصة علاج" هو أنه مبنيّ على قضية إنسانية، ويفسر مدى التزام المخرج وارتباطه بقضايا شعبه وبالمتغيرات السياسية والاجتماعية بالبلاد
مواكبة هيفل بن يوسف لقضايا شعبه والتزامه بها، تظهر منذ أول الفيلم، وتحديدًا من جملة الإهداء "هذا العمل إهداء إلى كل من لايزال يقاوم في هذا البلد" فالفن مقاومة والتزام، والمطالبة بالعيش بكرامة هو مقاومة، والمطالبة بالحقوق الأساسية كالحق في الصحة والحق في العلاج مقاومة، "وببساطة، مواصلة العيش في بلاد صارت المواطنة فيها عملة نادرة هو بحد ذاته فعل مقاومة".
كل هذه المقومات التي توفرت في الفيلم وفي مخرجه، هي التي ساهمت بالتالي في تتويج العمل بتنويه خاص من لجنة الأفلام الوثائقية الطويلة والتي تسلمها المخرج هيفل بن يوسف صحبة بطل الفيلم محمد رمزي حمزة في اختتام أيام قرطاج السينمائية يوم السبت الفارط بمدينة الثقافة.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"