زقاق صغير بين الأنهج المؤدية إلى المدينة العتيقة يضم عشرات محلات بيع الكتب منها المخلّدة للتاريخ والأخرى التي تروي حكايات الأدب القديم منه والحديث، كما تنتشر الكتب على أرصفة الزقاق أيضًا إذ لا يملك بعض الباعة محلًا ليكون الرصيف مكتبة أرضية لعرض آلاف العناوين.
نهج الدباغين هو أشهر الأنهج لبيع الكتب في العاصمة تونس ويحتوي على آلاف العناوين القديمة والحديثة في مختلف الاختصاصات
هو نهج الدباغين، أشهر نهج لبيع الكتب في تونس العاصمة، لا يخفى عن المثقف والطالب أو حتى عن القارئ العادي. ويعود أصل تسمية الشارع إلى سوق دبغ الجلود وبيعها في القرون الماضية قبل أن يتحوّل الزقاق إلى مكان للسكن فقط. ثم بات بعد الاستقلال فضاءً لتجميع الكتب القديمة في تلك المحلات المخصصة سابقًا لبيع الجلود، مما جعله يصبح أشهر سوق للكتب في تونس لاحتوائه على آلاف العناوين القديمة والحديثة في مختلف الاختصاصات.
الأرضية مساحة لعرض عديد الكتب (مريم الناصري/ألترا تونس)
كتب ثمينة بأسعار بسيطة
في إحدى مكتبات النهج، تخال أنّها ليست مجرّد محلّ لبيع الكتب بل أنك في مكان لحفظ الذاكرة، إذ تغصّ رفوفها بمجلّدات وكتب يفوح منها عبق الزمن وتشهد عليها أوراقها الصفراء.
يقف صاحب المكتبة شكري القصيبي ليرصّف كتبه على رف لم يعد يستوعب العدد الكبير من المؤلفات، وهو يقول لنا إن للكتاب "رونقًا خاصًا" في هذا الزقاق الذي يشهد زيارة المئات يوميًا من مختلف الجهات القادمين إلى العاصمة، مبينًا أن بعض الزوار يبحثون عن كتب نادرة قد تكون محفوظة في محل ما، أو بعض الكتب القديمة التي ما عادت لها طبعات جديدة.
يزور نهج "الدباغين" خصوصًا أولئك الباحثين عن الكتب القديمة والنادرة (مريم الناصري/ألترا تونس)
اقرأ/ي أيضًا: "جرجيس تقرأ" و"شانطي المحطة".. شباب يزرع المكتبات من الجنوب إلى الشمال
وأضاف القصيبي، في حديثه لـ"ألترا تونس" أنّ الغزو الالكتروني لم يقض على رونق الكتاب نهائيًا ولا مطالعة الورق وفق قوله، مستدركًا "لكن ذلك لا يخفي تراجع عدد زوار المكان عن السنوات الماضية وتقلصه شيئًا فشيئًا".
ويؤكد محدثنا أنّ لنهج الدباغين زبائن كثر أوفياء للنهج ولبائعي الكتب، "الكلّ يجد ضالته به منذ زمن بين عاشق للأدب والشعر وبين باحث عن كتب التاريخ والحضارات وبين مغرم بكتب العلوم والفلسفة". ويضيف أن السوق يزخر بآلاف العناوين القديمة والجديدة أسعارها غالبًا من دينار إلى خمسين دينارًا، وبعضها لا يوجد حتى في المكتبات الحديثة، وفق تأكيده.
سوق الدباغين.. أرشيف الذاكرة المكتبية
حين تخرج من محل شكري القصيبي وعلى طول نهج الدباغين، تلحظ المولعين بالمطالعة وهم يتفحصون بعض الكتب لوقت طويل، وبضعهم يجلس حتى على الرصيف يقرأ ما جاد به وقت فراغه من حيز للمطالعة، دون أن ينهره بائع الكتب عن ذلك.
يبحث الجميع في هذا النهج عن ضالته بين كتب رُصفت بشكل منتظم، وأخرى تكدست بشكل عشوائي على الأرصفة. هي كتب باللغة العربية وأخرى بالفرنسية وحتى الأنجليزية، دون أن تغيب أيضًا المجلات والصحف بمختلف اللغات، ويعود بعض هذه المؤلفات إلى عقود تليدة ماضية ويقبل عليها خصوصًا طلبة التاريخ.
توجد كتب بلغات عديدة وفي اختصاصات مختلفة (مريم الناصري/ألترا تونس)
يؤكد محمّد فضلي، أحد باعة الكتب في الدباغين، أنّ أغلب العناوين باللغة العربية أساسًا متوفرة في هذا الزقاق، مضيفًا "إن لم يوجد الكتاب فما على الباحث عنه سوى ترك عنوانه ليسجله البائع في قائمة تضم الكتب التي يبحث عنها الزبائن ليتم البحث عنها وتوفيرها".
وأوضح أن البحث عن هذه المؤلفات يأتي من خلال شراء مخزونات دور النشر من الكتب التي لم يتم ترويجها في الأسواق، أو شراء مكتبات قديمة يتخلى عنها أصحابها أو الأبناء بعد وفاة أصحابها الذين قضوا سنوات طويلة في تجميعها.
محمد فضلي (بائع كتب في "الدباغين"): الحركة في النهج باتت ضعيفة وبنسق أقل عن السنوات الماضية لكن لا أعتقد أنّ الكتاب سيندثر
شاهد/ي أيضًا: فيديو: بيت البناني.. مكتبة تراثية من عبق التاريخ
وأضاف محدّثنا وهو يرصف بعض العناوين في رفوف مكتبته، أنّه يعمل منذ أكثر من 15 سنة في بيع الكتب في نهج "الدباغين"، وهي سنوات جعلته وغيره من بائعي الكتب يربطون صداقات مع أساتذة الأدب والتاريخ والطلبة الذين يرتادون المكان بحثًا عن الكتب القديمة. وقال إن بعض الزوار الدائمين باتوا لا يأتون للمكان لقضاء وقت طويل في البحث، وأصبحوا يفضلون الاتصال مباشرة بأحد الباعة وطلب الحاجة إن وُجدت.
ولا ينفي محمّد، في الأثناء، أنّ الحركة في الزقاق باتت ضعيفة وبنسق أقل عن السنوات الماضية، لكن لا يعتقد أنّ الكتاب سيندثر إذ مازال البعض يؤثثون مكتبات منازلهم من هذا المكان البسيط وفق تعبيره.
وفعلًا رغم قدم المكان وشهرته في ببع الكتب، إلا أنّه بات يفتقر إلى كثافة عدد القراء، وهو ما جعل بعض المكتبات تتحول إلى محلات لبيع بعض السلع الأخرى أو مطاعم لبيع الوجبات الخفيفة.
مكتبات الرصيف.. جواهر على الطريق
لا تقتصر مكتبات الرصيف على شارع الدباغين فقط في تونس، إذ تنتشر مكتبات مثيلة خاصة قرب "ساحة برشلونة" بالعاصمة أين تنتشر عشرات المكتبات المتخصصة في بيع الكتب النادرة والقديمة بأسعار بسيطة.
في إحدى تلك المكتبات، كان فاروق، أحد طلبة الآداب، يتصفح بعض الكتب لاختيار إحداها، يتحدث إلينا وهو لا يرفع ناظريه عن تلك الصفحات كأنّه يخشى ضياع فكرة أو فقدان بعض أحرف، قائلًا إنّ هذه المحلات ملاذ أغلب الطلبة الباحثين عن كتب بأسعار بسيطة جدًا.
تضم مكتبات الرصيف مخطوطات وكتب نادرة لا توجد في المكتبات الحديثة (مريم االناصري/ألترا تونس)
ويصف هذه المكتبات بأنها بمثابة الأرشيف الذي يحتوي مخطوطات وكتب نادرة لا توجد في المكتبات الحديثة ولا توجد لها طبعات جديدة، مضيفًا أنّ المطالعة لم تكن حكرًا على الأساتذة والطلبة لكنّها اليوم باتت خاصة بالطلبة والأساتذة وقلّة من المغرمين بالمطالعة أو الشغوفين بتجميع كتب نادرة.
خلال تصفح بعض الكتب بالكاد تجد أوراقها ملتصقة ببعضها البعض بفعل الرطوبة وهي أوراق صفراء ذات رائحة خاصة يكاد مرور الزمن يسرق بعض أحرفها
وخلال تصفح بعض الكتب بالكاد تجد أوراقها ملتصقة ببعضها البعض بفعل الرطوبة، هي أوراق صفراء ذات رائحة خاصة يكاد مرور الزمن يسرق بعض أحرفها، لكنّها كتب لا تنتهى في مكبات القمامة أو في أعماق التنانير لتأكلها النيران، بل يحاول بائعها إصلاح ما يمكن إصلاحه من صفحاتها وإلصاقها لاسيما إذا كانت نسخًا نادرة يصعب إيجادها بسهولة.
وفي بعض الشوارع الأخرى الرئيسية أو الأزقة الفرعية لبعض شوارع العاصمة، تجد عربات صغيرة أو بعض البسط القماشية على الأرض لبيع الكتب، بعضها تبقى طيلة اليوم مهجورة دون أن تصافحها أنامل أي باحث عن المعرفة سوى بائعها الذي يرصّفها على تلك العربة، ولكن تنتهى العديد منها في رفوف عشاق للمطالعة.
اقرأ/ي أيضًا:
الاستثمار في التاريخ والثقافة.. من اسطبلات إلى فضاءات ثقافية
"الكوميكس" أو "لغة الفقاعات".. إبداع يقتات من الهامش الثقافي