مقال رأي
منذ انطلاق الثورة، أسقط الشارع التونسي نهائيًا الرمزية التي كان يمثّلها بن علي بالنسبة للمستفيدين من نظامه: "الأمن والاستقرار" أو القدرة على القمع. لقد كان خطاب بن علي ليلة 13 كانون الثاني/يناير 2011 تحوّلًا في سياسة النّظام تجاه الثورة التونسية وانتقالًا من سياسة الصّدام إلى سياسة الاحتواء، إلّا أنّه كان من المستحيل أن ينتقل بن علي نفسه من خطاب "بكلّ حزم" و"الملثّمين" إلى خطاب "أنا فهمتكم" و"غلطوني" ليصبح، بشكل ما، عقبة أمام هذا التحوّل، وربّما تهديدًا لدوائر النفوذ والمصالح التي نشأت حول نظامه. لذلك يبدو أنّ تاريخ 14 كانون الثاني/يناير 2011 مثّل نقطة التقت عندها مصلحة هذه القوى مع أحد المطالب السياسية المباشرة للثورة التونسية وهو رحيل بن علي وعائلته.
نجح حزب الدستور الحاكم منذ الاستقلال في تونس في الاحتفاظ بعناصر القوة والنظام وبموقعهم في قلب المشهد السياسي بعد الثورة
كان سقوط بن علي، بلا شكّ، انتصارًا للثورة التونسية وإنجازًا لا يحسب لغير الشارع الثائر وشهدائه الخالدين، لكن يبدو أيضًا أنه كان شرطًا ليحافظ الدستوريون (نسبة لحزب الدستور الحاكم في تونس منذ الاستقلال) على ما تبقى بين أيديهم من عناصر القوّة والتأثير، ويحتفظوا بموقعهم في قلب المشهد السّياسي. تمكّنت هذه القوى من التحكّم في العملية السياسية في مراحل دقيقة من تاريخ الثورة التونسيّة ونجحت في نهاية المطاف من العودة لممارسة السلطة بعد انتخابات 2014 ممثلة في حركة نداء تونس والرئيس الباجي قائد السبسي الذي كان رئيسًا لبرلمان بن علي بين 1989 و1994.
دخلت الثورة التونسية، بسقوط بن علي، مرحلة جديدة، لم تعد خلالها حركة الشارع وحدها كافية للتقدّم في اتّجاه استحقاقاتها السياسية والاجتماعيّة. لقد فرض هذا الحدث تحوّلًا في منطق الصراع وفرض على الثورة التونسيّة أن تخوضه بمنطق السّياسة لا بمنطق الاحتجاج وحده. كان الشارع التونسي يحتاج نخبة سياسيّة تحوّل مطالبه إلى مشروع سياسي بديل يمنع الالتفاف ويحقّق الأقصى المطلوب، ولهذا، مثّلت المعارضة التاريخية لبن علي الرّهان المفترض الوحيد للشارع التونسي، لكن في الوقت ذاته، الأداة الوحيدة التي يمكن للدّستوريّين، من خلال توظيفها، احتواء حركة الشارع، ومن ثمّ التحكم في المسار السياسي.
مثلت المعارضة التاريخية لبن علي الرهان المفترض الوحيد للشارع، وأيضًا الأداة الوحيدة التي يمكن للدّستوريّين، من خلالها احتواء حركة الشارع
"استمراريّة الدّولة"
مباشرة بعد هروبه، عملت حكومة بن علي برئاسة محمّد الغنوشي على شرعنة استمرارها في السلطة: قانونيًا، بالتّرويج لمبدأ "استمراريّة الدّولة" وضرورة العمل بالأحكام الانتقالية التي ينصّ عليها الدّستور آنذاك، وسياسيًا، باستمالة جزء من المعارضة التاريخيّة لبن علي للمشاركة في الحكومة. قبل كلّ من أحمد نجيب الشابي زعيم الحزب الديمقراطي التقدمي (الحزب الجمهوري حاليّا) وأحمد إبراهيم زعيم حركة التجديد (حزب المسار الديمقراطي حاليّا) بالإضافة للاتحاد العام التونسي للشغل في البداية، الالتحاق بالحكومة، وكان ذلك مكسبًا مهمّا للدّستوريّين في اتّجاه امتصاص غليان الشارع. غير أنّ رفض بقيّة مكونات المعارضة لهذه الحكومة ثمّ انسحاب الاتحاد العام التونسي للشغل منها أنعش الشّارع من جديد. بلغت حركة الشارع ذروتها خلال اعتصام القصبة 1، ونجحت في إسقاط الحكومة وتشكيل حكومة من المستقلّين، كُلّف، من جديد، محمّد الغنوشي برئاستها وتمسّك بمقعدي الشّابي وإبراهيم فيها.
فشلت حكومة بن علي في الاستمرار بعده، ولكنّ الدّستورييّن نجحوا في تجنّب الانهيار والحفاظ على قيادة المسار الانتقالي وفرضوا الانتقال من داخل منظومة السّلطة باعتبارها مصدرًا وحيدًا للشرعيّة، ومكّنتها مشاركة أحمد نجيب الشابي وأحمد إبراهيم في الحكومة من تقسيم المعارضة التاريخيّة لبن علي وكسر وحدتها، التي كان يعبّر عنها، منذ 2005، "ائتلاف 18 أكتوبر للحقوق والحريّات" بقيادة أحمد نجيب الشابّي نفسه، لتقطع بذلك الطّريق أمام نشأة أيّ شرعيّة سياسيّة بديلة عن سلطة الدّستوريّين في ذلك السّياق الثّوري.
الباجي قائد السّبسي و"هيئة بن عاشور"
عاد الشارع التونسي للحركة باعتصام القصبة 2 مطالبًا بإقالة محمّد الغنّوشي وحلّ حزب الدّستور ومجلس النوّاب وإلغاء العمل بالدّستور وانتخاب مجلس وطني تأسيسي. تزامن ذلك مع توصّل القوى السياسية والاجتماعيّة التي بقيت خارج السّلطة إلى أرضيّة سياسيّة مشتركة تبلورت من خلال "المجلس الوطني لحماية الثورة" الذّي ضمّ العديد من الهيئات الوطنيّة كالهيئة الوطنية للمحامين وجمعيّة القضاة التونسيين والاتّحاد العام التونسي للشغل وطيف واسع من الأحزاب السياسية من مختلف التوجّهات كحركة النّهضة وحزب العمّال الشيوعي التونسي. طالب المجلس في بيانه التأسيسي بالاعتراف به كسلطة قرار تتولى إعداد التشريعات وتراقب عمل الحكومة الانتقاليّة.
مثّل تأسيس"المجلس الوطني لحماية الثورة" فرصة جديّة للنّخب التونسية لإرساء مسار سياسي انتقالي بديل عن المسار الذي كانت تقوده بقايا سلطة بن علي، لكنّها فشلت مرّة أخرى في إدارة الصراع السياسي واستثمار النّجاحات التي كان يحقّقها الشارع بفرض خياراته الكبرى على القوى الممسكة بالسلطة وتحقيق القصبة 2 لمطالبه.
مثل تأسيس "المجلس الوطني لحماية الثورة" فرصة جدية للنخب التونسية لإرساء مسار سياسي انتقالي بديل عن المسار الذي كانت تقوده بقايا سلطة بن علي
حظي تعيين الباجي قائد السبسي رئيسًا للحكومة، آنذاك، بقبول واسع في صفوف الطّبقة السياسية التونسية وهو ما يمكن اعتباره رفعًا للغطاء السّياسي عن الشّارع المتحفّز لمزيد من الحركة. كما نجح الدّستوريّون في الالتفاف على المجلس الوطني لحماية الثورة بإدماج مكوّناته الأساسيّة في "اللّجنة المؤقّتة السامية للإصلاح السياسي" التي أحدثها بن علي واختار رئيسها بنفسه (عياض بن عاشور) وأعلن عنها في خطاب 13 كانون الثاني/يناير 2011، مقابل تغيير اسمها ليصبح "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثّورة والإصلاح السّياسي والانتقال الديمقراطي".
رغم الزّخم الذي شهده الشارع التونسي في تلك الفترة والنجاحات التي حقّقها، أظهر الدّستوريّون قدرة عالية على المناورة، وقلّصوا خسائرهم، وحقّقوا ما فشلوا فيه مباشرة بعد رحيل بن علي، أي احتواء حركة الشارع من خلال تجريده من كلّ امتداد سياسي، بعزله عن النّخب السّياسيّة التي يمكن أن يراهن عليها لبناء البدائل واستيعاب الجميع، تقريبًا، في مسار يتحكّم فيه رجال بن علي أنفسهم. كان ذلك "الاستقرار" ضروريًا لتوفير مناخ ملائم يسمح للدّستوريّين، بعد زلزال الثّورة، بإعادة ترتيب أوراقهم وصناعة رمزيّة سياسيّة جديدة تمثلت في الباجي قائد السبسي، الذي سيكون رافعتهم للعودة للحياة السّياسيّة بعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، بإعادة إنتاج حزب الدّستور (حركة نداء تونس) وقيادة المعارضة ثم تولّي السّلطة.
بعد زلزال الثورة، مثل "الاستقرار" مناخًا ملائمًا سمح للدستوريين بإعادة ترتيب أوراقهم وصناعة رمزية سياسية جديدة تمثلت في الباجي قائد السبسي
حركة نداء تونس
بعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي (تشرين الأول/أكتوبر 2011)، نجح الدستوريّون في اختراق المشهد السّياسي الناتج عنها، من بوّابة المعارضة هذه المرّة، واعتمادًا على رمزيّة الباجي قائد السّبسي. وظّف الدّستوريون الارتباك الذي كان يعتري أداء حكومة الترويكا، وبطء تقدّم أشغال المجلس الوطني التأسيسي، وحالة انعدام الاستقرار الاجتماعي وصعود ظاهرة الإرهاب، لتبرير عودتهم للمشهد السياسي بتشكيل حركة نداء تونس في حزيران/يونيو 2012.
أخرجت الاغتيالات التي شهدتها تونس سنة 2013 والأزمات السياسيّة النّاتجة عنها الدّستوريين من عزلتهم بفضل التّحالفات المهمّة التّي جمعتهم ببقيّة مكوّنات المعارضة ذات الرّمزيّة (أساسًا الحزب الجمهوري ثم الجبهة الشّعبيّة). لقد وفّرت تحالفات "الاتحاد من أجل تونس" (كانون الثاني/يناير 2013) و"جبهة الإنقاذ الوطني" (تموز/يوليو 2013) الغطاء السّياسيّ والأخلاقيّ الذي مكّن الدّستوريّين من الاندماج بشكل جيد في المشهد السّياسي، والتحرّك في مساحات أوسع، ثم من قيادة المعارضة، مستفيدين بشكل كبير من الرّصيد الرّمزي والنّضالي الذي كانّ يمثّله حلفاؤهم من المعارضين التاريخيين لبن علي.
العودة إلى السّلطة
توّج الدّستوريّون مسارهم بفوز حركة نداء تونس بالانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة أكتوبر-نوفمبر 2014 والتّي قاطعها الشّباب. وتمكّنوا، علاوة على ذلك، من تشكيل حكومة بقاعدة برلمانيّة مريحة (أكثر من 80%)، بعد التّحالف مع حركة النّهضة مقابل تمثيلية ضعيفة جدًا مقارنة بحجمها البرلماني، وهو ما جنّب الدّستوريين، خلال عودتهم للسلطة، وجود معارضة سياسيّة قويّة، أو حتّى، قوّة تعديليّة جديّة من داخل السّلطة، ومنحهم فرصة لإعادة التجذّر في السّلطة وتسوية ملفّاتهم العالقة، كما عبّرت عنه بشكل واضح المبادرة التشريعيّة الأولى لرئيس الجمهوريّة خلال صائفة 2015 باقتراح "قانون المصالحة الاقتصاديّة"، الموجّه لتسوية ملفات رجال الأعمال والموظفين السّامين في الدّولة المتّهمين بالفساد خلال فترة حكم بن علي.
مثّلت النخب المعارضة التاريخيّة لبن علي، بلا استثناء، نقطة ضعف الثورة التونسيّة، ولم يرتق أداؤها السّياسي لحجم اللّحظة التاريخيّة التي مثّلها هروب بن علي في 14 كانون الثاني/يناير 2011. فشل السّياسيّون في الاستثمار الأمثل للمنجزات التي كان يحقّقها الشباب التونسي من خلال الشّارع، وترك أداؤهم المرتبك والضّعيف، في مختلف المحطّات، مساحات واسعة للدّستوريّين، سلك من خلالها هؤلاء مسارهم للالتفاف على الثورة التونسيّة، وتحويل وجهة العمليّة السياسيّة بعيدًا عن شعاراتها، ثمّ العودة للسّلطة.." لتحقيق أهداف الثورة" التي أنتجتها حصيلة سياساتهم لأكثر من ستّين عامًا، وكان أحد شعاراتها المركزيّة "يسقط جلّاد الشعب... يسقط حزب الدّستور".
مثّلت النخب المعارضة التاريخيّة لبن علي، بلا استثناء، نقطة ضعف الثورة التونسيّة، ولم يرتق أداؤها السّياسي لحجم اللّحظة التاريخيّة
رغم التغيير الذي أحدثته الثورة في بنية النظام السّياسي التونسي، فإنّها لم تتمكّن، حتّى الآن، من كسر العلاقة القويّة للدّستوريّين بالدّولة والمجال السّياسي حولها وكل ما ارتبط بها، منذ الاستقلال وأثناء بناء الدّولة، من عناصر القوّة وأدوات التّأثير. لم تضع ثورة 17 كانون الأول/ديسمبر 2010 نهاية للمسار الذي أسّس له الدّستوريّون منذ قيادتهم للحركة الوطنيّة والكفاح من أجل الاستقلال ثمّ حوّل دولة الاستقلال إلى مجال حصريّ لهم باعتبارهم "آباءها" و"آباء التّونسيّين" لا أحد مكوّناتها، أو بشكل ما، إلى مؤسّسة تابعة للحزب الدّستوري، في ظلّ نظام حكم شموليّ، اتّسم بالاستبداد والفساد، واستمرّ لأكثر من ستّين عامًا.
في المقابل، نجح الدّستوريّون، بفضل ما أبدوه من قدرة عالية على المناورة وضعف أداء بقيّة الأطراف، من الحفاظ على الأرض التي كانوا يقفون عليها، ومن دلالات ذلك نجاحهم في استعادة وتوظيف رمزية الحبيب بورقيبة في محاولة لتحريف مضمون الثورة التونسيّة في اتّجاه اعتبارها إعلانًا لنهاية حكم بن علي لا "دولة الدّساترة". يبقى في النّهاية أن نطرح السّؤال حول ما يمكن أن توفّره الديمقراطية من شروط البقاء بالنّسبة لهذه الفئة السّياسيّة التي تتغذّى على السّلطة، مجرّدة من عناصر بقائها التقليدية: الاستبداد والفساد، وحول حجم الفرصة المتاحة أمامهم لبناء جيل قيادي جديد بعيدًا عن الطّاقم القيادي البورقيبي.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"