18-أغسطس-2020

نحن إزاء حكومة قيس سعيّد وليس المشيشي إلا واجهة (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

مقال رأي

 

يوم استقالة إلياس الفخفاخ يوم 15 جويلية دوّنت في السياق التالي: "مثلما كررت مرارًا، لن يوجد منتصرون حتى لو أوهمت ماكينات الأحزاب قواعدها بغير ذلك. النتيجة صفر. وأكبر الخاسرين السياسة والأحزاب. المبادرة ستعود للرئيس، وهذه المرة من الممكن أن لا تكون حكومة سياسية. وفي كل الحالات إن لم يصوت البرلمان عليها فنحن إزاء إعادة الانتخابات، والجميع سيشرب العلقم حينها بدرجات". هذا التوقع لا يعكس رغبتي بل وصف ما كنت أرى وقوعه. احتقر البعض قيس سعيّد ونظر لـ"عقل الدولة" وأعتقد أن الرجل سيرضخ ببساطة لإرادة تحالفات برلمانية ذرائعية ووقتية. لكن خلاصة الأحداث أراها سيئة ليس فقط على قيس سعيّد كما سأبيّن بل على التوازنات التي تمثل شرط الديمقراطية ومن ثمة التنمية في البلاد.

هناك بعض "الداعمين" الآن للحكومة "المستقلة تمامًا"، لكنهم سيتخلون عنها في أول منعرج هام مثلًا إزاء خريف أو شتاء اجتماعي صعب، وهو أمر متوقع

حكومة المشيشي ستمر لكن لأنها بأرجل من طين، أي بدون أي هوية سياسية فارقة، لن تبقى طويلًا، وكلما بقيت كلما خلقنا شروطًا متجددة لأزمة قادمة. وبالمناسبة، هناك بعض "الداعمين" الآن للحكومة "المستقلة تمامًا"، لكنهم سيتخلون عنها في أول منعرج هام مثلًا إزاء خريف أو شتاء اجتماعي صعب، وهو أمر متوقع. لا يمكن أن نتوقع من المنظمة النقابية القادمة على مؤتمر فيه تنازع حول "التمديد" و"البقاء"، ومن ثمة أهمية الدفاع عن الشغالين، أن نرى نقابيين يرون أن الرئيسي هو الدفاع عن "حكومة الرئيس"، وأن الثانوي هو العامل الاجتماعي.

اقرأ/ي أيضًا: التوازن الجديد بين قيس سعيّد والأحزاب

لنكن واضحين من البداية نحن إزاء حكومة قيس سعيّد وليس المشيشي إلا واجهة. درس معي رئيس الحكومة المكلف (سنة الباكالوريا في معهد الزهراء سنة 1993) وأعلم من مصادر مختلفة عن سيرته في مؤسسات الدولة ما بعد الدراسة وأيضّا بعد الثورة، من ديوان نائلة شعبان وزيرة المرأة في حكومة المهدي جمعة ومدير ديوان وزير النقل محمود بن رمضان في وزارة النقل ثم الأهم في الأشهر المكثفة القليلة في وزارة الداخلية. إننا ازاء شخصية ضعيفة تهتم بتشكيل شبكات لوبيات الإدارة، وهو يطبق التعليمات ليس إلا، بما في ذلك ربما ورقة الاستقالة المسبقة الجاهزة قبل التكليف. تعليمات الرئيس، لكن أيضًا مديرة الديوان. هذه المرة قرر قيس سعيّد المغامرة إثر خيبات الأمل من الائتلافات الحزبية حتى التي اعتبر نفسه متعاطفًا معها، فهو قرر أن "يذهب وحيدًا".

يمكن أن تكره التحزب والأحزاب وتعتبرها آيلة إلى الزوال مثلما يؤمن الرئيس. لكن لا يمكن، إن كنت رئيسًا ومعنيًا بتشكيل الحكومات ومن ثمة الحكم أن تكره السياسة. وأصل السياسة في كل السياقات هو التقليل من الخصوم وتوسيع دائرة الأصدقاء. ما يفعله قيس سعيّد عبر تركيبة الحكومة القادمة وهويتها هو عكس السياسة. كان أمام قيس سعيّد، ومثلما أشرت سابقًا، خيار الحفاظ على صلة مع العائلات الحزبية ومن ثمة إيجاد حالة وسط تحفظ صلة الرحم مع الوسط البرلماني-الحزبي. لكن ما حدث هو قطيعة رسمية مع هذا الإطار، وإيجاد حكومة "مستقلة تمامًا" رسميًا لكن تنهل من محض الإدارة ومن ثمة "الدولة العميقة"، حيث لا يوجد في أحسن الاحوال إلا حالة تبلد إدارية، وحيث لا يوجد في أسوأ الحالات إلا "غواصات" منظومة ما قبل الثورة. من الطرافة أن من استعمل تعبير "الغواصات" للتحذير من مسار تشكيل الحكومة هي عبير موسي رمز المنظومة القديمة، في حين أن من يحسن الغوص في الإدارة هي المنظومة التي أنجبت عبير موسي ذاتها.

أصل السياسة في كل السياقات هو التقليل من الخصوم وتوسيع دائرة الأصدقاء. وما يفعله قيس سعيّد عبر تركيبة الحكومة القادمة وهويتها هو عكس السياسة

لا يمكن أن تنجز حكومة الغوص في التقاليد والإدارة، إصلاحات أو إنجازات من أي نوع في وقت يحتاج فيه الوطن إلى أقصى الإصلاحات والإنجازات لتجاوز واحدة من أكبر الأزمات. ومن مفارقات الدهر أن الرئيس الذي يتحدى كل المنظومة بقديمها وجديدها ينهل تحديدًا من "أعماق أعماق الدولة". إن الرئيس الذي يردد أساسًا "الشعب يريد" ينهل أساسًا من رمزية وطموح النظام الرئاسي الذي حلم به الباجي قائد السبسي وعجز عن تفعيله. لكن المثير للانتباه والأخطر أن الرئيس وهو أكثر طرف منتخب يحظى بمصداقية شعبية، في كل الاستطلاعات المنشورة وغير المنشورة، يراهن تمامًا وبكليته على الحكومة "المستقلة تمامًا". بهذا المعنى فإن فشل الحكومة، وهو أمر لا يمكن أن يكون مستحيلًا إزاء نسبة نمو عشرين في المائة تحت الصفر، يعني فقدان الناس لمنسوب كبير من الثقة ليس في قيس سعيّد فحسب بل الأهم في مبدأ الانتخاب والشرعية والمشروعية معًا.

يمكن أن تتركك الأحزاب تمر، لكن ستنتظرك في أول قانون للمالية. ستنتظرك في مشاريع قوانينك. أن تكون قويًا الآن لا يعني أنك تملك بلا نهاية أوراق اللعب. موازين القوى تتغير حسب الأفعال والنتائج. والسياسة نتائج أولًا وأخيرًا. لا يمكن في وضع الأزمة الخانقة المتوقعة أن نتمنى فشل الحكومة القادمة. لكن ذلك أمر هيّن أمام احتمال فشل الديمقراطية ومن ثمة الوطن. لا يزال أمام قيس سعيّد إمكانية التدارك، ولن ينقذ نفسه فحسب في هذه الحالة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

خيانة الإمارات واختبار سعيّد.. في ضرورة الإدانة

المساهمة الاجتماعية.. إلى متى الاستنزاف الإجباري؟