04-يناير-2020

تقول صابرين إنها كانت في الرازي دخلته للعلاج ثم هربت إلى الحياة (صورة تقريبية/ getty)

 

ندوب تزيّن يديها الاثنتين تروي بعضًا من قصّتها مع المرض النفسي، وآهات تتخلل كلماتها لتعرّي جراحًا مخفية تحملها روحها وترحل بها من سنة إلى أخرى، وابتسامة صارخة تستهزئ بها من ذكرياتها العالقة بأروقة مستشفى الرازي ومن الجراح ما ظهر منها وما بطن.

بنظراتها وابتساماتها وآهاتها وصمتها الذي يحضر إذا ما سكت الكلام، تروي صابرين لـ"ألترا تونس" حكايا الرازي، حكاية من هنا وحكاية من هناك، تحدّثنا عنها وعن نساء شاركتهن الغرفة حينما استجارت بمستشفى الأمراض النفسية من الوسواس القهري الفكري.

فكرة إقامة صابرين في الرازي لم ترق لعائلتها بل إنهم رفضوها لاعتقاد خاطئ بأن الأمراض النفسية أخت الجنون، ولكنّها على عكس الجميع لم تكن منزعجة

قبل أن تسترسل في البوح بحكاياها، ترفع محدّثتنا أكمام قميصها فيتجلّى لنا آثار رتق جراح أحدثتها في معصميها ذات استسلام لهلوسات المرض، فالفتاة ذات الستة عشر ربيعًا، التي كانت تناجي الله وتشاركه أسرارها، لم تعد تأمنه ولم تعد تعتقد سوى في عقابه الذي سيسلطه عليها في الحياة الدنيا. وخوفها المرضي من الله لا يعترف بحدّ يتمطّط ويتشظّى ليتشكل كل مرّة في هيئة فكرة خانقة قاتلة تأخذها في دروب الموت، فلم تعد الحياة حلوة في اعتقادها وما عادت تتمسّك بتلابيب الأمل، لكنّها باتت تستكين إلى الظلام والوحدة وتترصّد سبيلًا لتتحرر من الحياة، وفق حديثها.

اقرأ/ي أيضًا:  التونسيون يعانون نفسيًا!؟

عزلة وبكاء دون انقطاع وكلمات قليلة تلقيها على مسمع والديها وإخوتها إذا ما ألحوا في السؤال عن حالها تنهل كلّها من معجم الموت والرحيل، والحالة التي ظنّها الجميع عرضية لم تذو وتواصلت لأيام متتالية ولم يعد الحديث يجدي نفعًا وصار لزامًا عليها أن تزور طبيبًا نفسيًا.

في عيادة الطبيبة النفسية، كانت شبه غائبة عن هذا العالم، لا يجيد لسانها إلا نطق الكلمات المتصلة بالرحيل وكل الأسئلة جوابها الموت ولم تفلح الطبيبة في أن تفتك منها حديثًا آخر، فما كان منها إلا أن عجّلت بإرسالها إلى مستشفى الأمراض النفسية والعصبية "الرازي". فكرة إقامة صابرين في الرازي لم ترق لعائلتها بل إنهم رفضوها لاعتقاد خاطئ بأن الأمراض النفسية أخت الجنون، ولكنّها على عكس الجميع لم تكن منزعجة حتّى أنها عادت إلى المنزل لتحمل غطاء وبعضًا من الملابس رتبتها في الحقيبة بكل ما أوتيت من رضا، حسب حديثها لـ"ألترا تونس".

وعن اليوم الموعود، تقول صابرين إنّها لم تكن تفكّر في أي شيء حتّى أنها لم تبال بدموع أمها وأبيها وإخوتها ففي تلك اللحظات لم تكن تفكّر سوى في الخلاص من الفكرة التي تملكتها وتغلغلت في ثنايا عقلها وأرقتها وأقضت مضجعها وبسببها صارت ترى كل الألوان سوادًا.

صابرين لـ"ألترا تونس": أثرت استغراب الممرضات في الرازي لما أبديته من زينة في مظهري

في العيادة الخارجية لمستشفى الرازي، سردت صابرين أفكارها السوداوية على الطبيبة التي بثّت في قلبها الطمأنينة وما انفكت تردّد أن الإقامة في الرازي ليست بالأمر المخجل وأن كل الناس عرضة للأمراض النفسية، وكلامها كان موجّهًا بالأساس لوالدة صابرين التي ذرفت الدمع غزيرًا فيما كانت ابنتها تتحسس الأمل في الشفاء من أفكارها. بعد الحديث مع الطبيبة، حضرت سيارة الإسعاف لتحملها إلى قسم الإقامة حيث ستبيت ليلتها الأولى بعيدة عن عائلتها، وكلما ابتعدت كف أمها التي تلوّح لها من بعيد انكمش قلبها وتسارع نبضه وحينما صارت تلويحة أمها ضبابًا تملّكها الخوف، حسب حديثها.

عن ليلتها الأولى في الرازي، تقول صابرين إنها أثارت استغراب الممرضات لما بدته من زينة في مظهرها، ممرضات فتشن ملابسها وجسدها وقدمن لها زيًا لترتديه لكنها رفضت وارتدت ملابسها الخاصة، وهي تتجه إلى الغرفة حيث تقيم المريضات أخذوا منها هاتفها بحجة أنه يمكن أن يكون عرضة للسرقة.

اقرأ/ي أيضًا: ما حقيقة أزمة الأربعين؟

كلام كثير لفظته الممرضات عن سلوك المقيمات في المستشفى، وعن تصرفاتهن الغريبة أثار الخوف في داخلها لكن ألم الحقنة بدد مخاوفها التي طفت من جديد بعد أن دخلت إلى غرفة باردة جدًّا فيها نساء يضحكن بصوت عال دون سبب واضح لها وبعضهن يكلّمن أنفسهن فيما تحدّق أخريات في نقاظ مجهولة، وفق روايتها. أحاسيس مداخلة تملّكت صابرين حينما تمدّدت في سريرها، ولم تقدر على النوم وهي تلاحق أملًا في الشفاء وتطرد رغبة في البكاء من فرط الخوف والبرد لتنتهي في النهاية إلى تحرير دموعها حينما خنقتها رائحة بول منبعثة من أحد الأسرة، وأغطية المستشفى والأغطية التي جلبتها من المنزل لم تطمس رجفة البرد، كان بردًا يخترق الروح ويستدر الحنين إلى دفء العائلة.

مبتسمة طيلة حديثها وكأنها تثبت لنفسها ولمن حولها أنها تجاوزت ذكريات "الرازي"، تروي يومياتها من الاستفاقة في الساعة السادسة إلا الربع في فصل الشتاء وتناول الفطور الذي لا يعجبها إلى ابتلاع حبتي "الأرغاتيل"  و"الديباكين" فالعودة إلى السرير أو التجوّل في حديقة المستشفى التي تحبّها كثيرًا وتحن إليها. والساعة الواحدة في "الرازي" تعادل الحياة بأكملها فمع تمامها تحلّ عائلة صابرين لتزورها وتحضر لها ما تيسّر من الطعام فهي لا تحب طعام المستشفى، وفي انتظار ذويها الذين لا يتحكمون في دموعهم كلما زاروها، تحادث صديقات عن الأمراض النفسية والأمل.

تعتقد صابرين أنّها بعثت للحياة من جديد بعد تلك التجربة التي يتلبّس فيها الحلو بالمر

وعمّا علق في ذاكرتها من تلك الأيام، تقول إن كل اللحظات راسخة في كيانها لا تتلاشى، فهي تذكر صراخ تلك المحامية التي انتابتها نوبة هستيرية حينما خسرت إحدى قضاياها وبكاء ونحيب امرأة في ساعات الصبح الأولى وصورتها وممرضات يحكمن وثاقها ويحقنها إلى أن استسلمت وأغمضت عينيها مازالت عالقة في ذهنها.

حتّى أن هذه الحادثة أثارت فيها الرعب يومها حتّى تدفق الدم من أنفها ولم تعد تقو على الكلام من فرط الصدمة وصارت تعاني من اكتئاب حاد وأغرقت في البكاء دون انقطاع ولم تعد مهتمة بشفائها من المرض بقدر هروبها من هذا المكان الذي يبعث فيها الخوف. وصابرين تذكر أيضًا صديقتها التي تعاني من اضطراب في الشخصية، والتي دأبت على الحديث معها كلّما زارت المستشفى في حصص المراقبة بعد أن أصرت على مغادرته ووافقت طبيبتها، وتذكر أيضًا تلك المرأة التي كانت تخبئها في حضنها كلما استشعرت خوفًا والمرأة التي وهبتها سيجارة حينما لجأت إلى التدخين ذات ضجر.

من الأشياء التي لا تنساها أيضًا، هي حقنها حينما انتابتها نوبة بكاء في الوقت الذي لا تستوجب فيه حالتها الحقن وهو ما استندت عليه عائلتها في طلب مغادرتها للمستشفى، وحصص الحديث مع المختص في علم النفس لا تنساها وتستحضر تفاصيلها إلى اليوم. والحقنة كانت القطرة التي أفاضت الكأس فهي لم تعد تقو على الحديث ولا المشي وكأن الجبال جاثمة على جسدها فكان أن هربت من العلاج إلى الحياة بعيدًا عن قضبان الرازي واكتفت بزيارات المراقبة التي انقطعت عنها واكتفت بحصة شهرية لدى طبيب نفسي خاص.

"كنت في الرازي.. دخلته للعلاج.. ثم هربتُ إلى الحياة"، كلمات تختزل بها صابرين تجربتها في أروقة مستشفى الرازي حتّى أنها تستحضر أغنية من فيلم "أيام الغضب" التي تتحدّث عن مستشفى الأمراض العقلية وتقول كلماتها " الداخل عندنا مفقود والخارج من هنا مولود"، وهي تعتقد أنّها بعثت للحياة من جديد بعد تلك التجربة التي يتلبّس فيها الحلو بالمر، حسب حديثها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل يكتئب الأطفال فعلًا؟

المختلون في شوارع تونس.. خطر متجول