مقال رأي
هل تعيش حركة النهضة التونسية آخر أزمان تماسكها؟ مأتى السّؤال القديم المتجدّد أشكال من التّوتّر بين عدد من قياداتها ابتدأت مع تحديد القائمات التّشريعيّة صيف 2019، واحتدّت مع هزيمة مرشّحها للانتخابات الرئاسية في دورها الأوّل عبد الفتّاح مورو في سبتمبر/أيلول من السّنة نفسها، وعادت لتطفو على السّطح من جديد مع مسار المفاوضات لتشكيل حكومة جديدة.
الحقيقة أنّ حركة النّهضة قدّمت عبر تاريخها نموذجا نادرًا في وحدة الصّف، استمرّ في أزمان الاستبداد، واستمرّ في أزمان الانتقال الديمقراطي. فلقد عايشت هذه الحركة داخلها باستمرار صراعات وتجاذبات، وكانت تدور على مسائل مختلفة، منها أساسًا مسألتان هما الخط الأيديولوجي والأداء السّياسي. لكنّ الخلافات داخلها هذه الأيام تجري على مسألة أخرى هي الفساد من حيث هو ممارسة داخلها، والتّطبيع معه من حيث هو علاقة بغيرها من الفاسدين.
يمكن للمراقب أن يتساءل إلى أيّ حدّ يمكن لمثل هذا التّضامن داخل حركة النهضة أن يستمرّ؟ وإذا حدث انشقاق ماذا تكون دلالاته؟ وما الأسس التي على أساسها يقع؟ وفي ما تتمثّل آفاقه الممكنة؟
اقرأ/ي أيضًا: الغنوشي والأحزاب.. تركته يقبّلها فقام ليوصد الباب
ليس جديدًا في الساحة السياسية التونسية اتّهام النّهضة بالفساد، لكن منذ 2011، تاريخ صعود الحركة أوّل مرّة إلى الحكم، كانت التّهم تأتيها من خارجها. هذه الأيّام صارت التّهم توجّه إليها من داخلها، والمتّهمون ليسوا أشخاصًا من الصّفوف البعيدة، بل من القيادات كمحمد بن سالم، ومن سكرتير رئيس الحركة نفسه زبير الشهودي.
ففي بيان وجّهه الى الرّأي العام، ونُشر في مواقع عدّة بتاريخ 17 سبتمبر/أيلول 2019، تحدّث زبير الشهودي عن ثلاث رسائل يريد تبليغها، واحدة منها وجّهها لمن سمّاهم إخوانه "في حركة النهضة الغالبية الخلص منهم دون الأقلية الفاسدة والمفسدة"؛ ودعا فيها رئيس الحركة راشد الغنّوشي إلى "اعتزال السياسة وأن يلزم بيته ومحرابه ويُبعد صهره رفيق عبد السلام وكل القيادات الذين دلّسوا إرادة كبار الناخبين في إقصاء مباشر لكل المخالفين في الرأي من نساء وشباب وقيادات تاريخية". وفي الأيّام نفسها، وبتأثّر من إقصائه من رئاسة قائمة زغوان للانتخابات التّشريعيّة، تحدّث القيادي محمد بن سالم عن "مرتزقة" داخل النّهضة، وتحدّث عن "مطبّعين مع الفساد داخل النّهضة".
لم يعد خافيًا قبل هذه التّصريحات وبعدها وجود شقّين على الأقل داخل حركة النّهضة، شق راشد الغنّوشي وصهره رفيق عبد السلام وحلقة ضيّقة من المقرّبين إليه، وشق آخر ليست له هوية واضحة، ولا شخصية قيادية جامعة. لكن ممّن يُعبّرون عنه بدرجات متفاوتة من الوضوح عبد اللطيف المكّي ومحمد بن سالم وعبد الحميد الجلاصي . والشّقّان، رغم خطورة بعض الاتّهامات لم يبلغا إلى حدّ الآن مرحلة القطيعة. وما يزال الشّق الغاضب، فيما يبدو تحت حرج تاريخ طويل من التّضامن التّنظيمي الحزبي، أسهم في تقويته واستدامته قمع بلا رحمة في دولة الاستبداد، وحرب سياسيّة إعلاميّة بلا توقّف في أزمنة الانتقال الديمقراطي. لكن، يمكن للمراقب أن يتساءل إلى أيّ حدّ يمكن لمثل هذا التّضامن أن يستمرّ؟ وإذا حدث انشقاق ماذا تكون دلالاته؟ وما الأسس التي على أساسها يقع؟ وفي ما تتمثّل آفاقه الممكنة؟
المتغيّر هذه المرّة أنّ الصراع داخل حركة النّهضة يجري ضمن سياق دقيق من ملامحه أمران نراهما هامّين، الأوّل وجود الغنّوشي في رئاسة البرلمان والثّاني حسابات المؤتمر المقبل
إنّ حدوث انشقاق في حركة النّهضة حدث ممكن دائمًا، وكانت له عبر تاريخها سوابق منطلقها سبعينيات القرن العشرين، وخروج احميدة النيفر مع المجموعة التي تسمّت بعد ذلك "الإسلاميّين التقدميين"، وكانت لها مجلة معروفة بعنوان "15*21"، وصدر لها في الثّمانينيات من القرن الماضي كرّاسان صغيران للتعريف بأفكارها الدّائرة أساسًا على نقد هيمنة الخط الإخواني وأدبيّاته على فكر الحركة التي كانت تسمّى "الاتّجاه الإسلامي" حينها. وعرفت النّهضة بعد الثورة خروجًا دون ضجّة كبيرة لأمينين عامّين من أمنائها هما حمادي الجبالي، أوّل رئيس حكومة بعد انتخابات المجلس الوطني التّأسيسي (2011)، وزياد العذاري الذي شغل خططا وزاريّة متعدّدة في السّنوات الأخيرة. وعرفت أيضا عددا من الاستقالات الأخرى لأسباب مختلفة.
يحلو لراشد الغنّوشي التّذكير بالكثير من الوثوق وشيء من التّعالي أنّ حركة النّهضة تحكمها المؤسّسات، لذلك "كلّ مَن خرج على المؤسسات مهما كان حجمُه سيجد نفسه في الفراغ". غير أنّ المتغيّر هذه المرّة أنّ الصراع داخل حركة النّهضة يجري ضمن سياق دقيق من ملامحه أمران نراهما هامّين، الأوّل وجود الغنّوشي في رئاسة البرلمان صحبة كتلة اختارها من الموالين له، وكان اختياره تمّ بعد تغيير القائمات المنتخبة جهويًا. ومثّل السّبب الأهمّ في تفجير الأزمة الداخلية. والثّاني حسابات المؤتمر المقبل، ولن يكون الغنّوشي إثره مجددًا رئيسا للحركة إلّا بإجراء تغيير للقوانين الدّاخليّة، وهو أمر مستبعد، وله مخاطر ليس هيّنا إغفالها.
اقرأ/ي أيضًا: هل أوقعت هذه العناصر حركة النهضة في المحظور؟
هذا يعني أننا عمليًا قد نكون أمام نهضتين طوال السّنوات المقبلة بغضّ النّظر حدث انشقاق أم لم يحدث، نهضة مقرّها الرّئيسي البرلمان، ولها وزن سياسي مهم في سياق نظام شبه برلماني، ولها بسبب علاقات الغنّوشي الدّولية والإقليميّة وزن مالي واعتباري مؤثر غاية التّأثير؛ ونهضة ثانية هُزمت في معركة اختيار القائمات، وغير ذات تأثير في القرار المركزي للحركة، والأرجح على الظّن أنّها بسبب صراعها مع رئيس الحركة غير ذات قدرات مادية وحضور إقليمي ودولي. وإذا حدث الخروج في مثل السّياقات التي وصفنا، نظنّ أنّه سيكون من البدء محكوما بهذا التّفاوت في موازين القوى. وربّما استحضار الغاضبين داخل حركة النّهضة لهذا الأمر، إضافة إلى حسابات أخلاقية لا يُمكن نفيها جملة هي التي أجّلت خروجهم مرارًا، وقد تؤجّله مجددًا.
يوجد أمر آخر يصعّب فعلًا خروج الشقّ الغاضب من النّهضة، ويجعل هذا الخروج إن حدث لا يتجاوز الضّجّة الإعلاميّة التي سيحدثها، وهو أنّ أصحاب هذا الشّق لا يقدّمون فيما يُعرف عنهم من تاريخهم السّياسي الطّويل شيئًا إضافيًا قياسًا إلى ما يقدّمه الغنّوشي ومن معه، فلا لهم أطروحات إيديولوجية خاصة أو أدبيّات يُعرفون بها، ولا لهم سياسيّا غير مؤاخذات عامة لا يمكن أن تكون أفقًا لمشروع جديد، في سياق انتقال ديمقراطي منهك بتخمة من العناوين التي غطّت تقريبًا كل ممكنات التّعبير السّياسي.
يوجد أمر آخر يصعّب فعلًا خروج الشقّ الغاضب من النّهضة وهو أنّ أصحاب هذا الشّق لا يقدّمون فيما يُعرف عنهم من تاريخهم السّياسي الطّويل شيئًا إضافيًا قياسًا إلى ما يقدّمه الغنّوشي ومن معه
فمعظم ما يصدر عنهم لا يخرج عن كونهم يرفضون الطّريقة التي تمت بها التّوافقات مع الجهات السّياسيّة الممثّلة للمنظومة القديمة منذ انتخابات 2014، دون أن يضعوا تلك التّوافقات في ذاتها محلّ مساءلة جذريّة. وهم في تلميحاتهم، والقليل من تصريحاتهم يعارضون هيمنة الشّيخ راشد الغنّوشي، واستبداده بالقرار داخل مؤسّسات حركتهم صحبة المجموعة المضيّقة المقرّبة منه. ولا يُعرف لهم عدا ذلك مشروع سياسي ذو ملامح. فهم، إن جاز وصف ملامحهم السياسية محتجّون، وليسوا قيادات تأسيسيّة يمكن أن يرى فيها الإسلاميون الغاضبون داخل النّهضة وخارجها أفقا لعمل سياسي ذي وزن، وذي قدرة على التّأثير في مصائر البلاد. مع ما يمكن أن يكون بينهم من تنافس مكتوم.
هذا يجعلنا أمام احتمالين كلاهما في الحقيقة محدود الأثر، الأوّل انشقاق لقيادات غاضبة لكنها لا تزن الكثير رغم مواقعها القياديّة الحالية، وعلامة من علامات خفّة وزنها أن نهضويّي البرلمان، وباستثناء متغيّرات جوهريّة في علاقتهم بالغنوشي لا يُتوقّع أن تكون منهم كتلة تمثّل الغاضبين. والاحتمال الثّاني تأجيل الانشقاق، والعمل على افتكاك مقاليد الحركة بعد المؤتمر المقبل المتوقّع في ماي/آيار سنة 2020. وهذا الأمر، إن حصل لا يغيّر الكثير فيما يتعلّق بمستقبل القيادات الغاضبة، فبحسابات المال والعلاقات المحلّيّة والإقليميّة لن تكون بين أيديهم إلّا حركة فقيرة، معظم رصيدها المالي والسّياسي الاعتباري موجود مع النّهضة الأخرى المقيمة بالبرلمان.
لسنا ندري هل القيادات الغاضبة حسبت حساباتها، وآثرت الاستمرار في إرسال الرّسائل المشفّرة بين الفينة والأخرى، وآثرت في الوقت نفسه الاستمرار في إنشاء مسافة نقديّة داخل وحدة الصف. الأقرب نعم، وإلاّ فما الذي يفسّر أن تتحدّث عن فساد وتطبيع معه، وإدارة سياسيّة سيّئة وزبونية، ثم تستمرّ في مؤاخذات كلاميّة غير متبوعة بشيء عملي. ربّما الأمر الوحيد الذي قد يقدم تفسيرًا لذلك هو الخوف من أن يجدوا أنفسهم في الفراغ.
اقرأ/ي أيضًا: