منذ بداية الأزمة الصحّية بانتشار وباء كورونا، بدا واضحًا للحكومة وللتّونسيّين أنّ أبهظ الأثمان التي سيتوجّب على التونسيّين دفعها بمعزل عن تطوّر الوباء سلبًا أو إيجابًا هو الثّمن الاقتصادي الاجتماعي.
ففي كلّ الأحوال وبمعزل عن فاعليّة الحجر الصحّي، وحتى لو تقرّر رفعه تدريجيًا، فإنّ الهزّة الاقتصاديّة العنيفة قد وقعت ومن الصّعب تلافي آثارها الاجتماعيّة غير المسبوقة: انهيار السياحة والتّصدير وإغلاق المطاعم والمقاهي كفيل لوحده بكارثة للعمّال غير المهيكلين وعائلاتهم والذين يُقدّر عددهم ب 28 في المائة من اليد العاملة النّشيطة وفق تقديرات عام 2018.
اقرأ/ي أيضًا: الدولة والملكيّة والحرب على الكورونا.. أسئلة تونسية
وإذا كانت الحكومة قد بادرت باتّخاذ جملة من الإجراءات الاقتصاديّة والاجتماعيّة منذ الأسبوع الأوّل لإعلان الحجر، فإنّ فاعليّتها ودرجة تماهيها مع مُقتضيات المرحلة يبقى موضع تساؤل. وإلى حدّ كبير، يمكن القول إن الحكومة من زاوية دعم الشرائح الاجتماعية الأكثر هشاشة والمؤسّسات الاقتصاديّة بدت رهينة منطق بيروقراطي تقليدي في ظرف استوجب ولا يزال إجابات غير تقليدية.
صندوق الشّؤون الاجتماعية في مواجهة أزمة غير تقليدية
في مواجهة إغلاق الأنشطة الاقتصاديّة وتوقّف كلّ نواحي الحياة الاجتماعية، بدا أنّ الحكومة قد التجأت إلى معايير الاستهداف الاجتماعيّ وقواعد البيانات المُعتمدة تقليديًا من طرف الإدارة التونسيّة. ونقصد بالاستهداف الاجتماعي ما تطوّر منذ الاستقلال في تونس من مناهج وآليات لتطوير سجلاّت الشّؤون الاجتماعيّة والعائلات المحتاجة للدّعم أو العلاج المجاني.
تؤدّي الأزمة الحالية إلى تغييرات عميقة في خطّ الفقر وتوسّعه، إذ من ناحية عمليّة سيؤدّي الإغلاق إلى سقوط جزء من الطبقة الوسطى في وضع الفقر
وتاريخيًا، لعبت السلطة المركزيّة دورًا رئيسيًا في احتواء الهشاشة الاجتماعيّة عبر سياسة تمحورت حول ممثلي الدولة في المحلّيات (العُمد والمعتمدون) الذين يتبعون وزارة الداخليّة من جهة، والأخصائيّين الاجتماعيّين الذين يتبعون لوزارة الشؤون الاجتماعيّة من جهة ثانية. وفي ردّها على الأزمة الاجتماعيّة غير المسبوقة، اعتمدت الحكومة على قواعد البيانات التي تشكّلت طوال العقود الماضية في كلّ من وزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة الداخليّة. إذ تمّ إقرار مساعدات نقديّة استثنائيّة للمنتفعين ببرنامج العائلات المعوزة والذي يشمل 260 ألف عائلة وتمّ تعميمه على المُنتفعين ببطاقة العلاج المنخفضة والذين يقدّر عددهم بما يقارب 620 ألف شخص، وهو ما يعني أنّ عدد المُنتفعين المحتملين ببرنامج الدعم الحكومي الحالي قد يناهز المليونين والخمسمائة ألف تونسي.
وإذ يبدو هذا البرنامج للوهلة الأولى طموحًا فإنّ بلورة الإجابة الاجتماعية العاجلة من داخل الصندوق الإداري البيروقراطي قد ينطوي على إخلالات منهجية وسياسيّة عميقة نذكر منها أساسا ما يلي:
- لا تشمل هذه البرامج وقواعد البيانات التي تستند إليها شريحة واسعة من المواطنين غير المشمولين ببرامج التغطية الاجتماعيّة والذين قد يناهز عددهم المليون وفق تقديرات مركز البحوث والدراسات الاجتماعية التابع لوزارة الشؤون الاجتماعيّة.
- تؤدّي الأزمة الحالية إلى تغييرات عميقة في خطّ الفقر وتوسّعه، إذ من ناحية عمليّة سيؤدّي الإغلاق إلى سقوط جزء من الطبقة الوسطى في وضع الفقر والحاجة ولن تستطيع أيّ من هذه البرامج تحديدهم أو استهدافهم.
عن ضرورة إجابة اجتماعية غير تقليدية
في مواجهة إخلالات قواعد بيانات وزارة الشّؤون الاجتماعيّة وقصورها عن الإحاطة بالضحايا الاجتماعيين لأزمة الكورونا يمكن افتراض إمكانيّات تحيين قواعد البيانات دوريًا. عمليًا لن تكون هذه الفرضيّة غير ممكنة وتكفي بهذا الصّدد الإشارة إلى عجز الحكومات التونسية المتعاقبة منذ سنوات عن إنهاء مشروع المُعرّف الوحيد لكلّ مواطن تونسي والذي يشمل الوضع المهني والجبائي والعلاقة بصناديق الحيطة الاجتماعية.
اقرأ/ي أيضًا: سكان الأرياف.. "كورونا" ضاعفت معاناتهم وعمّقت عزلتهم
في هذه المرحلة الحرجة لا يمكن التّعويل على الجهاز الإداري لتدقيق واستكمال قواعد البيانات في أجل قريب، وما قد يستوجبه الوضع هو قلب منطق السياسة الاجتماعيّة التونسيّة رأسًا على عقب. وقد يعني ذلك إدارة الأزمة الاجتماعيّة وفق آليّتين رئيسيّتين: اعتماد الاستهداف الجغرافي كبديل للاستهداف الاجتماعي وتحديد خطّة واضحة للمساعدة النقديّة تمتدّ إلى بداية السّنة المقبلة.
ونعني بالاستهداف الجغرافي تعميم الحقّ في المساعدات النقديّة الطّارئة على كلّ متساكني الأحياء والمناطق الهشّة اجتماعيًا بمعزل عن خلفيّة الأفراد. ويمكن أن تنطلق خطّة المساعدات من البلديّات الأكثر هشاشة لتشمل البقيّة تدريجيًا وذلك بالاعتماد على مؤشّرات التّنمية الجهويّة.
ويمكن الاعتراض لكون بعض متساكني المناطق الأكثر هشاشة من موظّفي الدّولة أو أولئك الذين لا يحتاجون للمساعدات، ولكنّنا نرجّح بأنّ ارتفاع كلفة الاستهداف في الحدّ الأقصى أقلّ من كلفة توتّر اجتماعي وأمني إن طالت الأزمة لا سيّما في المجالات الحضريّة. ويمكن أن يساعد هذا الاستهداف الجغرافي في التقدّم سريعًا في استكمال قواعد البيانات الاجتماعيّة واستكمال بيانات المُعرّف الاجتماعيّ الوحيد بما يؤدّي إلى تخفيض كلفة الإنقاذ الاجتماعي وتطوير جودة الاستهداف بتقدّم الزمن.
ما قد يستوجبه الوضع هو قلب منطق السياسة الاجتماعيّة التونسيّة رأسًا على عقب
أمّا الآليّة الثانية، فتتمثّل في تحديد المساعدة النّقديّة وتوزيعها بمنهجيّة أكثر فاعليّة. فمن زاوية تحديد قيمة المساعدة، يمكن الاعتماد على التّجارب الدولية المقارنة في حالات الكوارث الطبيعيّة، ويمكن أن تكون القيمة نسبة مئوية (10 في المائة مثلًا) من الناتج المحلي الإجمالي الشهري للفرد، أي ما يعادل 70 دينار للفرد طوال استمرار الحجر الصحي والأزمة المقترنة بها.
أمّا من حيث التّوزيع، فيجب التّفكير في فروع بنوك القطاع الخاصّ والبريد وذلك بالتّنسيق مع البلديّات التي تتمتّع بأدقّ قاعدة بيانات وطنيّة تونس وهي الحالة المدنيّة التي تسجّل الولادات والوفيّات والزيجات، وهي أكثر دقّة بأشواط من سجلاّت وزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة الداخليّة. وعلى المدى المنظور وفي حال تواصلت الأزمة لا قدّر الله قد يكون من المفيد التفكير جدّيًا في تطوير وسائل الدفع عبر الهواتف المحمولة بالتعاون مع شركات الاتّصالات.
حتما ستعني هذه الإجابة الاجتماعية غير التقليدية عبئًا ماليًا غير تقليديّ في أزمة لم تشهدها تونس منذ استقلالها، لكنّ هندسة هذه الإدارة الاجتماعيّة لا يجب أن تخضع لأي اعتبار مالي وهو ما يفتح الباب أمام أسئلة تاريخيّة حول إجابات ماليّة غير تقليديّة أيضًا قد يكون تفصيلها موضوع مقالات قادمة.
اقرأ/ي أيضًا: