مقال رأي
أصبح الحديث عن الاستبداد أو تركيز نظام استبدادي محل انقسام داخل الساحة السياسية والإعلامية في تونس كأغلب المبادئ والقيم والمفاهيم التي تمثل مرتكزات الأنظمة الديمقراطية، فكيف يمكننا الحديث عن استبداد بالمعنى التقليدي للتجربة التي عاشتها تونس على مدى عقود من نظام الرئيسين الراحلين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، والحال أن تغييرات حصلت في الأفكار وفي الممارسات وأساسًا على مستوى العالم أدت في الأثناء إلى ثورات وأنتجت جيلًا جديدًا من الشباب الذي يريد أن يتحرك بحرية ودون قيود؟
لم تكن الإيقافات الأخيرة التي شملت معارضين من كافة الأطياف السياسية إلا دليلًا على أنّ مرحلة إثبات جيل جديد من الاستبداد في تونس قد بدأت
ولا يمكن أن تكون الإجابة على سؤال كهذا دون التمعن فيما يحدث في تونس منذ تمكن الرئيس التونسي قيس سعيّد من السيطرة على أغلب السلطات بيده بعد 25 جويلية/يوليو 2021، إذ أصبح للرئيس الذي انتخب من جزء هام من الناخبين إمكانيات التفرد بإدارة السلطة بعد إلغائه للسلطة التشريعية المتمثلة في مجلس نواب الشعب وحله للمجلس الأعلى للقضاء وإلغاء الحركة القضائية وهي مؤسسات مدرجة في تقاليد النظام السياسي التونسي.
وحتى تكتمل الصورة وضع الرئيس دستورًا جديدًا كتبه بنفسه وصادق عليه جزء من الناخبين في استفتاء، وأنجز انتخابات تشريعية قاطعتها أغلبية الجسم الانتخابي المسجل لدى هيئة الانتخابات المعينة من الرئيس.
ليس هذا في نظر من يساندون توجه سعيّد من الاستبداد في شيء لأنه في نظرهم يمثل "تصحيحًا لمسار الثورة وتقويمًا لاعوجاج الانتقال الديمقراطي الفاشل"، وقد يكون ذلك سليمًا في حال ما تم كل هذا التغيير في سياق من الوضوح والتشاركية والأهم من هذا في مناخ سليم من الحريات السياسية والاتفاق العام على الخطوات التي يجب الذهاب فيها حتى بين الرئيس وجزء هام من الطبقة السياسية التي ساندت انقلابه على المنظومة السياسية التي كان جزءًا منها.
لكن مع مرور الوقت أصبح واضحًا في ذهن الأغلبية من الطبقة السياسية أن ما حدث ليس بقرار لتصحيح مسار فيه تعثرات بل افتكاك للسلطة لإرساء نظام سياسي واقتصادي "جديد"، وهو ليس بالجديد من الجدة ولكنه نظام من الجيل الجديد لأنظمة الاستبداد.
استوعبت الأنظمة الاستبدادية بدهاء أسباب انهياراتها المدوية في فترة الثورات وبدأت تعود باستعمال نفس أسلحة هزيمتها
إن الأنظمة السياسية هي مثل أي زرع يمكن أن تموت بمجرد أن تفتقد إلى كل أساسيات الحياة وكما أن مرحلة الانتقال الديمقراطي في تونس وصلت إلى مرحلة كانت تحتاج فيها إلى مزيد من الرعاية ودعمها بمغذيات جديدة تدفع للإيناع والإثمار، تحتاج الأنظمة الاستبدادية إلى مرحلة من الإنبات والرعاية حتى تنتج شوكها وحتى يمكنها أن تجرح كل من يحاول أن يقترب منها. ولعل نبتة قيس سعيّد لم تستغرق الكثير من الزمن حتى تبدأ في إصابة كل من يحاول أن يلمسها أو يحتك بها. ولم تكن الإيقافات الأخيرة التي شملت معارضين من كافة الأطياف السياسية إلا دليلًا على أنّ مرحلة إثبات جيل جديد من الاستبداد في تونس قد بدأت.
ولعلنا نجد صعوبة في إيجاد هذا الوصل بين المتناقضات التي يتحجج بها من يدافع على مسار الرئيس التي تربط ممارسة الحرية في الفضاء العام كالتظاهر والحديث في الإعلام والكتابة على منصات التواصل الاجتماعي ونقد الحكومة والرئيس بالحديث عن الاستبداد.
وفي الحقيقة ليس هذا بالتناقض بل هو تأقلم الأنظمة الاستبدادية مع ميكانيزمات العصر، فالأنظمة السياسية تتغذى من بعضها، فكما أن الديمقراطية التقليدية أصبحت محل مراجعات في العالم في محاولة للبحث عن محركات للدفع داخلها، استوعبت الأنظمة الاستبدادية بدهاء أسباب انهياراتها المدوية في فترة الثورات وبدأت تعود باستعمال نفس أسلحة هزيمتها.
الأنظمة الاستبدادية التي أربكتها في فتراتٍ وسائلُ التواصل الاجتماعي، أصبحت اليوم تعتمدها للتأثير على الجماهير
هذه الأنظمة التي أربكتها في فتراتٍ وسائلُ التواصل الاجتماعي، أصبحت اليوم تعتمد هذه الوسائل للتأثير على الجماهير، كما أنها خلقت لديها مناصرين عبر الصفحات ومجموعات فيسبوك التي تتداول في كل المواضيع التي تعني سياسات الدولة حتى الأكثر خطورة والمتعلقة بالجوانب الأمنية.
وهي جزء من برنامج سعيّد في إلغاء الوسائط التقليدية في التعامل مع الجماهير بما فيها الإعلام كمكوّن قديم أصبح لاغيًا في تفكيره ولا يمكنه أن يقوم بدور إلا في سياق ما تضعه السلطة، وهو نابع من مكونات شخصية قيس سعيّد الذي يدرك جيدًا أن أي انفتاح منه أو من حكومته على وسائل الإعلام يمكن أن يدفعه إلى حيث ما كان يعتبره هو مجالًا للاشتباك مع الآخر ومجالًا ربما لتلويث صورته النقية لدى جماهيره، وهو مكان ملوث تسبب في إضعاف السلطة طيلة السنوات الماضية ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يفتح له الباب من أجل طرح الأسئلة وتقديم الإجابات حول ما ينوي القيام به في القضايا الحارقة التي تواجه المواطن التونسي، وإن كان يبدو للوهلة الأولى أنها فكرة جديدة لكنها فقط تأقلم فكر استبدادي مع عصر الميديا والتواصل الاجتماعي في محاولة لخلق قنوات جديدة للدعاية التي توجه الرسائل دون النظر إلى ردة الفعل أو الانتباه إلى أهمية الأسئلة.
اعتماد وسائل التواصل هو جزء من برنامج سعيّد في إلغاء الوسائط التقليدية في التعامل مع الجماهير بما فيها الإعلام وإن كان يبدو للوهلة الأولى أنها فكرة جديدة لكنها فقط تأقلم فكر استبدادي مع عصر الميديا والتواصل الاجتماعي
وفي الحقيقة هي ليست ممارسة جديدة عند الأنظمة الاستبدادية لأن سعيّد في عمر مكنه من معاصرة أنظمة دكتاتورية، ويبدو أنه استبطن طريقة توجيه الرسائل السياسية التقليدية بغلاف جديد، وهي طريقة اعتمدها الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة من خلال ما كانت تسمى "توجيهات الرئيس" التي كان تبث قبل نشرات الأخبار على التلفزة التونسية وكان بورقيبة، الذي مثّل في ذهنية الشعب آنذاك بمثابة الأب، يقوم بدور "الإمامة السياسية" أو المصلح الذي يحاول توعية شعبه الذي لم يدرك بعد مرحلة الحداثة والتمدن، وكان يعتبر أن شعبه غير جاهز للديمقراطية وأنه ما زال يعاني الأمية، وكان يحاول وفق تقديره للأوضاع آنذاك أن يجره إلى العالم المتحضر.
لكن سعيّد لم يعتمد نفس الطريقة من أجل توعية الجماهير بل من أجل إقناعهم أين يوجد الخير كله وأين يكمن الشر كله، وفيمن تتوفر شروط الصدق والوطنية وفيمن تتخلص ملامح الخيانة والعمالة، وهو ما أصبح يمثل تقليدًا في إيجاد ما يعرف بالعدو المتسبب في عرقلة سير مصالح الدولة وفي التخطيط لتفقير الشعب وآخرها التآمر على أمن الدولة.
ولم يكن من السهل على الكثيرين الانتباه إلى ما يضمره سعيّد من مخططات لوضع أسس جيل جديد من الاستبداد الذي ولد ناعمًا وبدأ يخرج مخالبه المتخفية وراء شعار سلطة الدولة القوية، فغالبًا ما كان يعتمد أسلوب المباغتة في إرساء أركان نظامه، حتى مع الذين استشارهم في مرحلة كتابة الدستور الجديد أخذ منهم الدستور الذي صاغوه وتركه جانبًا وأخرج دستوره الذي سهر ليال يكتبه.
وأسلوب المباغتة في السياسة سلاح تعتمده الدول في المعارك الخارجية وهو يقرب أكثر إلى منطق الحروب وهو فعلًا ما أفصح عنه سعيّد في مناسبات عديدة، فالرجل مؤمن بأنه يخوض حرب تحرير، وفي هذه الحرب يمكن أن يستعمل كل الوسائل حتى ينتصر فيها.
لم يكن من السهل على الكثيرين الانتباه إلى ما يضمره سعيّد من مخططات لوضع أسس جيل جديد من الاستبداد الذي ولد ناعمًا وبدأ يخرج مخالبه المتخفية وراء شعار سلطة الدولة القوية، فغالبًا ما كان يعتمد أسلوب المباغتة في إرساء أركان نظامه
واستعمال المصطلحات الحربية ولغة التهديد والوعيد في مراحل معينة الغاية منه ليس فقط إدخال نوع من الرهبة والخوف لدى خصومه السياسيين، بل أيضًا استعادة شعب الخاضعين لكل ما تقرره السلطة. وهو تقدير يؤكد أن الأنظمة السياسية لا يمكنها أن تولد وتنمو إلا في تربة خصبة من الأنصار الموالين، وهو عامل واقعي، فالجماهير تتفاعل كثيرًا مع خطابات الحروب والانتصارات والمعارك وتبحث عن مخلص من وضع اجتماعي واقتصادي رديء وتكفر بالديمقراطية والحرية حين تفقد عناصر الأمان والحماية.
لقد وضع قيس سعيّد تونس على أعتاب "الجيل الجديد من الاستبداد" المتأقلم مع وسائل العصر المنفتح على العالم، فيمكننا داخل هذا النظام أن نرى الحرية كما تراها السلطة، حرية يمكنك أن تتحدث فيها كما تشاء لكن السلطة ترى مصلحتك أكثر منك، ويمكنك أن تنتقد صباحًا مساءً إجراءات الحكومة ومراسيم الرئيس ولكن لا يسمح لك أن تتجاوز حدودك مع رموز الدولة، وهي في الحقيقة تركيبة غريبة من النظام الرسمي العربي التقليدي على شعبوية على بحث عن زعاماتية، وأقول "غريبة" لأنها استعادة لماضٍ خُيّل لنا أنه انتهى لكنه عاد من جديد كجسم محوّر جينيًا مسلح بواقع الميديا الجديدة.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"