31-يناير-2023
البرلمان التونسي

ازدراء ومقاطعة معظم التونسيين لبرلمان سعيّد إنما يترك لطخة على خارطة طريقه هو أيضًا (صورة أرشيفية/ياسين القايدي/الأناضول)

مقال رأي 

 

لم يكن من المتوقع أن تكون نسبة المشاركة في الدور الثاني من الانتخابات التشريعية في تونس مختلفة عن نسبة الدور الأول. البرلمان المسطر حسب الدستور والقانون الانتخابي الذين كتبهما قيس سعيّد منفردًا، ليس في نهاية الأمر إلا برلمانه هو تحديدًا.

ازدراء ومقاطعة معظم التونسيين لبرلمان سعيّد المضمن في دستوره وبطريقة الاقتراع التي لا طالما دافع عنها (الاقتراع الفردي) إنما يترك لطخة على خارطة طريقه هو أيضًا

في تعليقه الأول على النتائج حاول الرئيس أخذ مسافة من البرلمان باستعمال فكرة ربما تكون صحيحة، أي اهتراء صورة مؤسسة البرلمان في أذهان التونسيين، حتى يغطي على بقية الحقيقة، أي أن هذا البرلمان هو أيضًا برلمانه هو، وأن ازدراء ومقاطعة معظم التونسيين لبرلمانه المضمن في دستوره وبطريقة الاقتراع التي لا طالما دافع عنها (الاقتراع الفردي)، إنما يترك لطخة على خارطة طريقه هو أيضًا. ومع كل هذا، يبقى السؤال ما هي استتباعات ذلك السياسية، وخاصة في السياق المالي والاقتصادي للبلاد الذي يقترب بشكل حثيث من الهاوية؟

لنبدأ بأمر أساسي، وهو أن ما حصل أضعف قيس سعيّد. خطوة أخرى نحو اهترائه مثل بقية الطبقة السياسية. فمقابل ترقب كثير من التونسيين أن ينجز اقتصاديًا واجتماعيًا ويكافح الفساد، وترقبهم لـ"المحاسبة"، فإن ما قام به كان تحقيق أحلامه القديمة الدستورية والقانونية، لا غير. سياسة جافة قحطاء بلا روح، تسقط من قصر قرطاج في مراسيم عبر الرائد الرسمي.

ترقب التونسيون منجزًا اقتصاديًا واجتماعيًا ومكافحة الفساد والمحاسبة، لكن ما قام به سعيّد كان تحقيق أحلامه القديمة الدستورية والقانونية، لا غير

في المقابل، سيكون من التوهم الحالم النظر إلى ما حصل كـ"نهاية لقيس سعيّد". في نهاية الأمر هناك مشكل رئيسي لدى جزء واسع من معارضيه وهو العجز والإصرار على العجز عن فهم "ظاهرة" قيس سعيّد.

لا يتعلق الأمر بذكاء مبهر للرجل، بل بتلاقي حالات مصادفة مع خاصيات شخصية فوق حالة عميقة من الكراهية، لتأسيس ديمقراطي وهمي ومخاتل قام بتقسيم الغنائم الرثة تحت عنوان "التوافق" والقتل التدريجي لفكرة الديمقراطية، بمنع تداول حقيقي وانقسام واضح بين الحكم والمعارضة.

تحت عنوان الخوف من "الاستقطاب" تم في نهاية الأمر التأسيس لاستقطاب عميق بين جزء مهم من الشارع وجزء مهم من النخبة. وسمحت المصادفة مع خاصيات الرجل أن يكون معول تلك الكراهية العميقة للتهديم بلا بوصلة.

ما حصل أضعف قيس سعيّد.. في المقابل، سيكون من التوهم الحالم النظر إلى ما حصل كـ"نهاية لقيس سعيّد"

أيضًا، ليس الأمر تعبيرًا عن كراهية عامة للسياسة والانتخابات في ذاتها. تحيل مختلف الاستطلاعات المنشورة وغير المنشورة إلى أنه فعلاً هناك حماس قليل ومتضائل للانتخابات التشريعية في ذاتها ومن ثم حماس أقل للأحزاب، مقابل حماس أكبر وأوضح تجاه الانتخابات الرئاسية والسياسة المشخصنة.

إذًا لسنا بصدد شراهة واسعة في المجتمع نحو الاستبداد المحض، بل حالة انفصامية بين رئيس "حاسم" لكن قابل للمحاسبة عبر الانتخابات. شعور واسع من التردد بين رغبة ديمقراطية و"يد عليا". نعم مؤسسة البرلمان تعاني عن حق وعن باطل وأصبح مضيعة للوقت خوض معركة مكررة حول أيهما أنسب الأنظمة البرلمانية أو شبهها أو الرئاسية لتونس.

هنا يجب أن نتوقف للحظة. الدعوة للعودة للنظام البرلماني أو "رمزية دستور 2014" لا تتجاهل فقط شعورًا تونسيًا عميقًا يربط بين "ديمقراطية" تافهة بلا إنجاز، وهذا النظام والدستور، بل أيضًا تتجاهل موازين القوى.

الدعوة للعودة للنظام البرلماني أو "رمزية دستور 2014" لا تتجاهل فقط شعورًا تونسيًا عميقًا يربط بين "ديمقراطية" تافهة بلا إنجاز وهذا النظام والدستور، بل أيضًا تتجاهل موازين القوى

في النهاية "التوافق" الشللي المعطل للديمقراطية والإنجاز الاقتصادي معًا كان ممكنًا في السياق التونسي الحزبي، ومن أسسه حركة النهضة التي تريد أن تحكم دون أن تحكم. لا يمكن واقعيًا أن يحصل ذلك إلا بمحصلة تحوّل السياسة إلى حالة زبائنية والتداول الانتخابي إلى مسرحية متكررة من استقطابات تسبق الانتخابات وتوافقات شكلية غنائمية بين أقطاب الاستقطاب إثر الانتخابات. فوق ذلك فإن موازين القوى الراهنة التي تجعل قيس سعيّد على ضعفه أقوى الضعفاء لا يمكن أن تفرض خارطة طريق، عدا الأهواء، على قاعدة "عودة رمزية لدستور 2014".

الآن، "سيف ديموقليس"، المالي/الاقتصادي، هو الأكثر إحراجًا وتهديدًا للحالة الشعبوية شبه التسلطية لقيس سعيّد. آخر جانفي/يناير الجاري، زار مدير الخزانة الفرنسية تونس. زيارة مولان، مثلما ذكرت في مقال سابق عن زيارته في ذات التوقيت من العام الماضي، تعني أن "نادي باريس ينادي".

زيارة مدير الخزانة الفرنسية إلى تونس تعني أن "نادي باريس ينادي"

تقرير وكالة بلومبيرغ، الصادر منذ يومين، يورد أن ملف تونس مع دول إفريقية أخرى حالتها التداينية "غير مستديمة" سيتم عرضه على "قمة العشرين" القادمة، ويتم الإشارة إلى "نادي باريس" تحديدًا. التقرير الائتماني لمؤسسة موديز، "أمك صنافة" كما يصفها قيس سعيّد، يشير إلى أنه حتى باتفاق مع صندوق النقد الدولي لن يتحسن وضع التداين.

قيس سعيّد، لكن الأهم، تونس أمام مأزق حقيقي. مأزق معمم، يشق معظم النخبة السياسية، حكمًا ومعارضة، ويشق مختلف الأصعدة. وفي ذات الوقت نحن إزاء حالة يأس وإحباط عامة، لا تعني ضرورة حالة احتجاجية عارمة في الوقت القريب.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"