24-يونيو-2020

الديبلوماسية التونسية اليوم في أضعف حالاتها

مقال رأي

 

لا شك أن الثقل الديبلوماسي لأي دولة يتأتى من وزنها الاقتصادي والعسكري، ومن موقعها الجغرافي، علاوة على وزنها التاريخي والحضاري. وبالنتيجة لم تكن تونس في تاريخها الحديث ذات ثقل ديبلوماسي فاعل. ولقد توفرت لتونس مناسبات عدة لتعزز حضورها الديبلوماسي سواء عند حيازتها لمقعد غير دائم بمجلس الأمن الدولي كما الحال في أيامنا هذه، أو خاصة لما انتقل المقر الرئيسي للجامعة العربية إلى تونس لمدة عشر سنوات كاملة، ومن ثمة تعيين المرحوم الشاذلي القليبي أمينًا عامًا للجامعة العربية الى حدود سنة 1990، أو كذلك لما احتضنت تونس مقر منظمة التحرير الفلسطينية صائفة 1982 إثر العدوان الصهيوني على بيروت وتواصل ذلك على امتداد ما يزيد عن عشر سنوات.

رغم أن تونس لم تكف عن ادعاء الحياد فإن الوقائع ظلت دائمًا تثبت العكس

اقرأ/ي أيضًا: ​عيد الآباء والخبز الحافي

ولقد كانت الرياح الديبلوماسية مواتية أيضًا، بعيد نجاح الثورة التونسية، وتمكنها من ولوج النادي الديمقراطي العالمي، وما رافق ذلك من زخم وألق وتقدير على المستوى العالمي، ولعل التفاعل التاريخي للبرلمان الأوروبي مع خطاب الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي سنة 2013 يعد أكبر شاهد على مدى تعاطف كافة أطياف القارة العجوز مع كانت تمثله ثورة تونس من أفق وأمل. كل تلك الفرص ذهبت أدراج الرياح وبقيت الديبلوماسية التونسية تراوح مكانها.

ورغم أن تونس لم تكف عن ادعاء الحياد، فإن الوقائع ظلت دائمًا تثبت العكس. فعلى الرغم من أن الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة حرص على الانخراط مبكرًا في حركة دول عدم الانحياز التى أسسها نهرو وتيتو وعبد الناصر خلال مؤتمر باندونق سنة 1955، كي تنأى بمنخرطيها عن الحرب الباردة بين حلفي الناتو ووارسو، فإن تونس لم تكن واقعيًا على الحياد بل إن البعض يعتبر أنها لم تخرج مطلقًا من مظلة الحماية الفعلية الفرنسية والأمريكية في مواجهة المخاطر التي كانت تمثلها الجارة الجنوبية ليبيا، من ذلك أن الأسطول الفرنسي كان قد توجه فعلًا نحو تونس إبان أحداث قفصة 1980 لولا حسم الجيش التونسي للمعركة سريعًا.

كما أن ملابسات إقالة مندوب تونس المنصف البعتي مؤخرًا تؤكد أن الديبلوماسية التونسية زمن رئاسة قيس سعيّد لم تتخلص من المظلة الأمريكية، فالبعتي لم يفعل سوى ما هو أدنى من أفق تصريحات الرئيس حول القضية الفلسطينية حين قال إن التطبيع خيانة عظمى، ووصف صفقة القرن بأنها "مظلمة القرن".

وأضاف البعتي في حواره مع التلفزة الوطنية (عمومية) "فلسطين ليست ضيعة أو بستانًا حتى تكون موضع صفقة، وحق فلسطين لا يسقط بالتقادم". فمشروع القرار المجهض إذًا تضمن إدانة صريحة لمشروع القرن وهو ما يتلاءم منطقيًا مع المزاج الرسمي والشعبي وفي المقدمة مزاج الرئيس ذاته.

حادثة الإقالة تؤشر إلى مدى الارتباك الذي تعيشه الديبلوماسية التونسية في أيامنا، فلقد أصبحنا أمام جزر ديبلوماسية متنافرة ومتناقضة، بل ومتصارعة أحيانًا، جزيرة يتزعمها الرئيس، وأخرى يقودها وزير الشؤون الخارجية، وثالثة يسيرها رئيس البرلمان.

لا شك أن الديبلوماسية التونسية هي اليوم في أضعف حالاتها منذ تأسيسها بعيد الاستقلال

اقرأ/ي أيضًا: عندما يجدف البرلمان بعيدًا عن بر الأمان

وقد ساهمت فوضى التصريحات الصادرة عن أكثر من طرف في مزيد الإرباك للموقف التونسي وآخرها حرب اللوائح الطاحنة في مجلس نواب الشعب، إضافة إلى الاصطفافات الواضحة لكل طرف مع جهات إقليمية بعينها ومجاهرته بالعداء للجهة المقابلة، فمن هو "تركي الهوى" يرفض الجنة إذا ما عرضتها الإمارات أو السعودية، ومن هو متيّم بالمحور المقابل أصبح من الطبيعي أن يرفض رفضًا قاطعًا تمرير الاتفاقيات التنموية مع كل من تركيا وقطر. وفي المحصلة، تجدنا في الأخير أعداء لمجمل دول العالم إذا اتبعنا أهواء الطوائف السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. إنها ديبلوماسية كل المشاكل (نقيض لسياسة صفر مشاكل)، وفي النهاية مصلحة البلاد والعباد هي ما سيضيع في زحمة غبار المعارك الإيديولوجية الطاحنة.

لا شك أن الديبلوماسية التونسية هي اليوم في أضعف حالاتها منذ تأسيسها بعيد الاستقلال، وهو ما يفسر حضورها بالغياب في القمة الصينية الأفريقية الأخيرة، وقبلها قمة برلين حول الملف الليبي، وكذلك الشأن في قمة دافوس. ولعل الحضور الباهت والمثير للجدل لقيس سعيّد في زيارته الأخيرة لباريس يؤكد عمق أزمة ديبلوماسية تونس.

تحولات جيوستراتجية عميقة تشهدها المنطقة ودول عدة تسابق الزمن لتعيد ترتيب أولوياتها في ضوء المعطيات الجديدة على الأرض، بوصلتها الوحيدة هي المصلحة وشعارها مقولة برنارد شو "إن الدبلوماسية هي الفن الذي يجعلك تقول لكلب شرس يا لك من كلب لطيف حتى تجد فرصة لالتقاط قطعة من الحجر".

أما ديبلوماسية الهواة في تونس الحبيبة فهي تجاهد في معاداة كل أصناف الكلاب دون أن تتمكن من التقاط حجر واحد.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الحكومة بين الصراع الليبي والاعتذار الفرنسي

ليلة البرلمان الطويلة.. هل أصبحت حكومة المستحيل؟