مقال رأي
باستثناء مؤشرات مترددة من الطرف الداخلي الوحيد القادر مستقبلًا على تعديل بعض التوازن مع قيس سعيّد، لاتزال الأطراف الغربية (أمريكية-أوروبية) هي المعنية أساسًا بإحداث ضغط على الرجل. من الواضح أن مصدر قلقه الوحيد هو هذا الضغط بما يفسر تركيز ردوده العلنية هناك. غير أن المتابع بدقة للضغط الغربي يمكن أن يرى أننا لسنا بصدد ضغط ذي أثر حاسم ويستهدف مباشرة مفاصل حساسة حتى الآن باستثناء الإنشاء السياسي.
مثلًا حصيلة جلسة الاستماع في الكونغرس ليست تصعيدية، لأن تكليف لجنة الاعتمادات للخارجية الأمريكية لكتابة تقرير للإجابة (في نهاية الأمر) عن سؤال أن "ما حدث انقلاب أم لا؟"، يعني أن الإجابة معروفة. والإجابة موجودة في بلاغات الخارجية الأمريكية في الأسابيع الماضية والتي تتعامل مع الأمر الرئاسي 117 كأمر واقع.
باستثناء مؤشرات مترددة من الطرف الداخلي الوحيد القادر مستقبلًا على تعديل بعض التوازن مع سعيّد، لاتزال الأطراف الغربية هي المعنية أساسًا بإحداث ضغط عليه. من الواضح أن مصدر قلقه الوحيد هو هذا الضغط بما يفسر تركيز ردوده العلنية هناك
عمومًا الموقف الأمريكي مثلما وصفته سابقًا: إقرار بالأمر الواقع لكن مواصلة الضغط (مع الأوروبيين) خاصة عبر ورقة صندوق النقد من أجل: أولًا، تسقيف زمني. ثانيًا، إجراء حوار قبل الاستفتاء والانتخابات المبكرة. وهو موقف متماهٍ مع بلاغ مجلس وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي أول الأسبوع.
اقرأ/ي أيضًا: واشنطن: الاعتراف بالأمر الواقع ومواصلة الضغط..
قرار البرلمان الأوروبي الذي تم التصويت عليه الخميس يتميز بلهجة أكثر تصعيدًا، لأننا في النهاية بصدد برلمان بتوجهات مختلفة، ولا يعبر ضرورة عن توجه السلطة التنفيذية لبرلمان دولة مركزية. بالمناسبة، للبرلمان الأوروبي صلاحيات تسمح له بإحداث لجان تحقيق وحتى تعديل وضع "الشريك المميز" لكنه لم يفعل.
يبقى أننا لسنا بصدد سلوك سلبي. ترقب ومتابعة لصيقة لتونس وهدفان أساسيان: أولًا، إلزام قيس سعيّد بإعلان جدول زمني واضح لانتخابات جديدة حتى لو سبقها استفتاء. ثانيًا، أن يكون المسار الانتقالي في سياق حوار تقليدي مع النخبة.
من الواضح أن الأطراف الغربية التي لم تتعامل بجدية مع سعيّد واستفاقت متأخرة، ترتاب منه كثيرًا خشية توجهه نحو نظام سياسي لا يتلاءم مع المرجعية التقليدية للديمقراطية الليبرالية
من الواضح أن الأطراف الغربية التي لم تتعامل بجدية مع سعيّد واستفاقت متأخرة، ترتاب منه كثيرًا، وعمومًا لا تفهمه بما فيه الكفاية، وفي حيرة: إن ضغطت أكثر من اللازم عاند أكثر، وإن أرخت الحبل تمادى في مساره المنفرد. الريبة خاصة من نقطتين: نظام سياسي لا يتلاءم مع المرجعية التقليدية للديمقراطية الليبرالية. وتأكيد على "دور اجتماعي للدولة" وهي فلسفة لا تتلاءم كثيرًا مع النظرة الليبرالية للمنتظم الغربي.
في كل الحالات، نحن إزاء تحدٍّ لتصور كامل، وفي الصراع الإيديولوجي المتصاعد بين نموذج غربي وآخر صيني-روسي (مشابه تدريجيًا للسجال الإيديولوجي للحرب الباردة)، تصبح تونس قطعة مهمة، إضافة إلى موقعها المهم في ضبط الهجرة وموضوع مكافحة الإرهاب. لهذا يجب توقع تصاعد الضغط. وتبدو المحطة القادمة المفاوضات المقتربة مع صندوق النقد. من غير الواضح هل ستترك الأطراف الغربية المسألة للتقنيين أم ستضع شروطًا سياسية. بدون خطة "إصلاحية" ليبرالية على أربع سنوات هل ستمتنع عن التدخل السياسي لدعم الإقراض؟ الخط الثنائي مع السعودية والإماراتي لا يمكن أن يكون إلا حلًّا مؤقتًا إن صح.
نحن إزاء تحدٍّ لتصور كامل، وفي الصراع الإيديولوجي المتصاعد بين نموذج غربي وآخر صيني-روسي، تصبح تونس قطعة مهمة، إضافة إلى موقعها المهم في ضبط الهجرة وموضوع مكافحة الإرهاب
في كل الحالات نحن إزاء أسئلة غير معتادة في علاقة بالتموقع ضمن الإطار الغربي ومسألة السيادة. وقد مررنا منذ أسبوع بذكرى جلاء القوات الفرنسية. عندما قرر بورقيبة خوض معركة بنزرت كان من الواضح أن موازين القوى ليست في صالح تونس، جيشها الوليد صغير الحجم وضعيف الخبرة، متطوعون غير مجرَّبين وضعيفو التسليح، في مواجهة جيش فرنسي لا يزال حينها من أقوى الجيوش في العالم.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "النخيل الجريح".. درس المثقف الانتهازي
من الناحية العملية الحسابية كانت معركة خاسرة، وفعلًا تكبدت تونس أرواحًا عديدة. لكن سياسيًا كانت معركة رابحة لأنها ضمنت تحالفًا دوليًا (كانت الولايات المتحدة من أهم عناصره في إطار تحولات النظام الدولي من التمركز الأوروبي متعدد الأقطاب إلى نظام القطبين والحرب الباردة) دفع عبر مجلس الأمن لفرض نقاش أممي عنوانه الجلاء، وفرض مفاوضات أدت يوم 15 أكتوبر إلى الجلاء. في حالات محددة يكون خوض المعركة العسكرية حتى إن كانت خاسرة شرطًا لنصر سياسي.
في سياق مرحلة العولمة تغير معنى السيادة ولا يمكن اعتبار معنى السيادة في الستينات قادرًا على الصمود في السياق الراهن، حيث لا يمكن لأي دولة احتكار عناصر القوة في مجالها الترابي
كان الجلاء شرطًا أساسيًا للحصول على استقلال ناجز، ومن ثمة لاستكمال السيادة على الأقل في شكلها القانوني الرسمي، وبمعناها السياسي. غير أن الهيمنة الاقتصادية الفرنسية لم تنته. وكانت معركة الجلاء الزراعي فيما بعد شرطًا آخر لاستكمال السيادة الفعلية. ورغم ذلك بقي النفوذ الفرنسي قويًا بسبب الميزان التجاري غير المتوازن العائد لقرون وليس لعشرات السنين.
معركة الجلاء تطرح علينا دروسًا مهمة في موضوع السيادة، خاصة أننا إزاء رئيس يعتبر المسألة السيادية عنصرًا أساسيًا في خطابه:
- يمكن أن تكون ضعيفًا وبمعايير القوة المادية صغيرًا لكن ذلك لا يعني أنك لا تستطيع أن تخوض معارك من أجل استكمال السيادة.
- لكن عندما يخوض الضعيف معركة السيادة لا يخوضها بدون خطة وبدون تجميع أوراق تسمح له بتعديل موازين القوى. معركة السيادة ليست خطابًا بل هي شروط موضوعية.
- في سياق مرحلة العولمة تغير معنى السيادة ولا يمكن اعتبار معنى السيادة في الستينات قادرًا على الصمود في السياق الراهن، حيث لا يمكن لأي دولة احتكار عناصر القوة في مجالها الترابي خاصة منها عناصر القوة الناعمة (الإعلام، الثقافة..).
لكل قرار وسياسة ثمن. فهل لدى سعيّد الأوراق اللازمة لمعركة سيادة و"تحرير وطني"؟ وهل يمكن طرح سقف السيادة وسقف الدين الخارجي للبلاد الذي فات كل الحدود؟
- الديمقراطية والسيادة: سيادة الشعب هي المعنى الأساسي للديمقراطية. عندما تم خوض معركة الجلاء كان البعد الديمقراطي غائبًا إذ احتكر حزب محدد أو مجموعة فيه مدرات الدولة والمجال العام ومنع ذلك تمحيصًا جديًا للاستعدادات للمعركة، وربما ساهم في ازدياد عدد الضحايا. الديمقراطية الفاسدة التي جربناها في العشرية الأخيرة شوهت القيم الديمقراطية الفعلية وزادت في ضرب السيادة، إذ أصبحت مجرد عملية انتخابية في نطاق نخبة وظيفية لنخبة الريع. وسيكون استمرار الانفراد بالسلطة والحكم الاستثنائي (خاصة بدون تسقيف زمني) سببًا إضافيًا لمزيد ضربها.
- من حق الشعب السيد على نفسه مناقشة ومساءلة شراكاته الاستراتيجية، لكن هل تسمح تحولات النظام الدولي الحالي بذلك (ببساطة هل الصين مهتمة مثلًا بخوص صراع منافسة في شمال إفريقيا، هل ذلك من أولوياتها)؟ هل الانتقال من مجال النفوذ الغربي إلى المجال الشرقي (الصيني-الروسي) سيحصن سيادة الشعب/الديمقراطية أم يقوضها؟ هذه أسئلة لا يمكن أن يجيب عنها في كل الحالات شخص واحد، وإلا نحن لسنا إزاء شعب سيد نفسه، بل يخضع لسيادة شخص واحد.
معركة الجلاء كان أبطالها في الأغلب مجهولين. نسيهم التاريخ. بورقيبة كان مهندسها السياسي، لكنه لم يكن بطلها الوحيد.
من المثير وربما الدافع للفخر أننا كنا بصدد معركة سيادة و"تحرير وطني" مثلما يؤكد قيس سعيّد. لكن لكل قرار وسياسة ثمن. فهل لديه الأوراق اللازمة لذلك؟ وهل يمكن طرح سقف السيادة وسقف الدين الخارجي للبلاد الذي فات كل الحدود؟ سنرى، قريبًا ولن ننتظر كثيرًا.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"
اقرأ/ي أيضًا: