مقال رأي
أنا هنا، لن أكون محللًا سياسيًا، ولا باحثًا في علم الاجتماع السياسي، ولا منظرًا، أريد فقط أن أتكلم وأن أقول ما أريد قوله كشاهد على ما حدث أواخر ديسمبر/كانون الأول 2010. فلا تعتبر ما أكتبه مقالًا بل مجرد خواطر لا تخضع لميكانزمات التحليل، ولا للنقد العلمي الممنهج.
الثورة، باعتبارها فعلاً أدبيًا جماعيًا، هي مقابل للفعل الأدبي الفردي (الأخلاق)، أي أنها تمثل ما يقوم به الإنسان لممارسة رغبته في الرفض، والتعالي والحلم. ولكنني، بعدسة المراقب من بعيد، أرى كالعادة انقسام الناس المتجدد سنويًا كل ديسمبر/كانون الأول، الكثيرون يشتمون البوعزيزي ومن أنجبه، متناسين أن البوعزيزي لا دخل له لا من قريب ولا من بعيد فيما حدث سنتي 2010 و2011، بل ان الاجتماع الشعبي الذي انعقد أمام مقر السلطة (الولاية) كان هو الشرارة الفعلية والقرار الجماعي للقيام بتمرد.
الثورة، باعتبارها فعلاً أدبيًا جماعيًا، هي مقابل للفعل الأدبي الفردي (الأخلاق)، أي أنها تمثّل ما يقوم به الإنسان لممارسة رغبته في الرفض، والتعالي والحلم
يقوم الناس هنا بشتم كل ما علاقة له بالاصطلاح الثوري من الجانب اللغوي، كلمات "الثورة"، و"الانتفاضة"، و"الياسمين"، و"ثورة الحرية والكرامة" إلى آخره، كلها تثير امتعاضهم وتسبب لهم عدم الارتياح، وهذا طبيعي، لأنها تلمس ثوابتهم.
أساس هجوم الناس هنا ليس أخلاقيًا البتة بل هو ذو مرجعية اقتصادية، من كان متمعّشًا من النظام السابق/الحاضر ومن كان محافظًا على الهدنة الاقتصادية مع النظام القمعي بمقاربة العمل مقابل العيش وتوفير الحاجات الاقتصادية الأساسية، في ظل علاقة عبودية ممأسسة، أحس بالفزع بتغيير العلاقات الكلاسيكية مع السلطة السياسية بعلاقة مهتزة فيها تأصيل للاحتجاج والرفض، وأصبح معيار نجاح الثورة من عدمه هو ما تحققه من إنجازات اقتصادية، وهو للأسف مغالطة كبيرة دوغمائية صرفة.
اقرأ/ي أيضًا: عبير موسي.. أذلها نظام بن علي وأكرمتها الثورة
لنواجه الأمر بالحقيقة التاريخية: طالما كانت الثورات التي تجلب التغييرات الكبيرة تاريخيًا منعرجًا لحروب أهلية ومجاعات، مثلما حدث في روسيا وفرنسا وألمانيا. لم تعد الثورة ولو يومًا واحد بالرخاء، بل هي تغيير جذري لموازين القوى لا أكثر. بالتالي، فإن الربط السطحي بين الثورة، والوفرة الاقتصادية هو غير ذي معنى، وهو سلاح من أسلحة البروباغندا طالما استعمله الثائرون بعد وصولهم للسلطة.
وهو ما جعل الناس حاليًا في تونس في حالة من الشتات بين النتيجة التي يتوقعونها وبين الواقع، وضياع مساحة الأمان الضيقة مع نظام كان لا يقل وحشية عن النظام الحالي في النهب والسرقة والمحاباة والتعذيب والقمع، بل إنه نجح اليوم في إعادة إنتاج نفسه في صور مختلفة عبر نفس رجالاته الموجودين في كافة مناصب الدولة من الوزارات والسلطة التشريعية (الوزراء بن سالم، وشلغوم، والعبيدي وغيرهم). النظام موجود ولا يزال قائمًا ولا يغيب عنه إلا رجل واحد لم تكن له إضافة كبيرة على الساحة السياسية سوى الصورة العامة للعموم، فنظام بن علي أقوى من بن علي نفسه.
إن الربط السطحي بين الثورة والوفرة الاقتصادية هو غير ذي معنى، وهو سلاح من أسلحة البروباغندا طالما استعمله الثائرون بعد وصولهم للسلطة
يوجد، في المقابل، من قاموا بالتحرك فعلًا والذين يقودهم الوازع الأدبي الكبير (السياسة)، قلت السياسة هنا لا الثورة، لأن الثورة بطبيعتها فعل سياسي صرف نابع عن محركات أدبية/ أخلاقية، من الإنسان الذي كان يعاني من كوجيتو مجروح على حد قول فتحي المسكيني، أي هوية مجروحة، تجعله لا يسأل نفسه "من أنا؟" بقدر ما يريد مواجهة الله الجديد في العالم، الدولة، بعد موت إله الأديان الكلاسيكي وغيابه عن السلطة المباشرة وتحوله الى أداة سياسية طيعة للتجييش.
هؤلاء الثوريون فعلًا، والذي رأيت منهم الكثير في سيدي بوزيد حين كنت موجودًا في الجهة كامل النصف الثاني من شهر ديسمبر/كانون الأول 2010، أو في صفاقس يوم الإضراب العام، أو في تونس العاصمة أثناء اعتصام القصبة، يعانون أزمة هوية مجروحة الآن أيضًا، لأننا لم نواجه الحقيقة عراة وهربنا منها دومًا: ثورة ديسمبر/جانفي فشلت، كما فشلت ثورات عديدة في التاريخ لأسباب واضحة وسهلة التفسير.
اقرأ/ي أيضًا: مراكمات الثورة التونسية.. ثورة "الرمال المتحرّكة"
فشلت الثورة بسبب الغياب الكامل لقيادة فعلية، وضعف الانتظام، والعشوائية، والتشتت بعد هروب بن علي، وترك الزمام لقوى سياسية لم تكن تزن شيًئا على الساحة للعب بمصير حراك شعبي كامل، والجبن الكبير والخوف من القوى التي تمردت أن تكمل مسيرة التمرد عبر أدوات ثورية أخرى: السيطرة على السلطة، وافتكاكها، وإقصاء القوى المضادة للثورة، ومسك زمام الأمور، والتحلي بالشجاعة التاريخية التي غابت بالنهاية.
ستولد القيادات، ستُخلق، سيغادر الناس المقاهي ولعب الورق، وسيواجهونكم، وستكون النتائج مختلفة كثيرًا
فراكمت لنا نظامًا مشوهًا، بين إسلاميين تعطشوا للسلطة طويلًا ونظامًا سابقًا أعاد إنتاج نفسه بالتحالف مع اليمين الإسلامي، روّج لنا أسطورة الانتقال الديمقراطي السلمي الجميل المُرضي للغرب، أي تحويل الثورة الى مؤسسات، إلى إدارة بيروقراطية بشعة، إلى ملفات، ومكتب ضبط، وانتظار، وهيئات ودوائر، وجعلت من كل ما حصل أضحوكة، وانطلت حيلة القوى الخارجية علينا، كي نظل في منطقة البين بين، فلا نحن نثور فعلًا، ولا نحن قاعدون.
ما أعتبره أهم من كل ذلك هو ما يحدث في عقول التونسيين الآن والذين يجهلون قيمته للأسف: القدرة على التفكير، وعلى التساؤل، وعلى طرح سؤال الهوية، وعلى السب، والشتم، والرفض، والنزول للشارع، وعلى التحرك، والغناء، وإقامة العروض الفنية دون حدود بل وكسر الكثير منها، ذلك هو الوازع الأدبي الحقيقي للتغيير، لا وازع قفة البيض وزيت الزيتون والطماطم والفلفل.
تزرع كل الثورات حتى بعد فشلها جذامير تواصل التحرك: ثورة 1905 فشلت فشلا ذريعًا في روسيا لكنها نجحت نجاحًا ساحقًا سنة 1917، هل ترى كم الفارق؟ اثنا عشر سنة كاملة، وإن غدًا لناظره لقريب، ستولد القيادات، ستُخلق، سيغادر الناس المقاهي ولعب الورق، وسيواجهونكم، وستكون النتائج مختلفة كثيرًا.
اقرأ/ي أيضًا: