"الكار" في اللهجة التونسيّة كلمة من معانيها الحرفة ومن مرادفاتها الوظيفة والمهنة و"الصنْعة"، ويُرجِّح جلّ الباحثين أنّ أصل لفظ "كار" فارسيّ، وتحضر هذه الكلمة بنفس المعنى في اللهجة المصريّة، وللتحقّق من رافد هذه المفردة يمكن الاستئناس بكتاب "المحكم في أصول الكلمات العاميّة" لصاحبه أحمد عيسى (القاهرة، 1939، ص. 182) كما يمكن العودة إلى معجم "الكلمة الأعجميّة في عربيّة نفزاوة" للجامعي والباحث التونسيّ إبراهيم بن مراد.
وخرجت كلمة "كار" من حيّزها المعجميّ الضيق لتتّخذ دلالات شتّى وأبعادًا مختلفة منها ما يعرف بـ"عداوة الكار" أي التباغض والضغينة بين أصحاب المهنة الواحدة، وقد ترجم التونسيون هذه العلاقة المشحونة حسدًا وحقدًا وكراهية بمَثل شعبيّ موجز مفاده "صاحب صنعتك عدوك".
خرجت كلمة "كار" من حيّزها المعجميّ الضيق لتتّخذ دلالات شتّى وأبعادًا مختلفة منها ما يعرف بـ"عداوة الكار" أي التباغض والضغينة بين أصحاب المهنة الواحدة
هذا ما يفسّر الخلاف داخل العديد من القطاعات بين أبناء "الكار" الواحد سواء في التجارة أو الفنّ أو الإعلام أو الرياضة أو التعليم أو غيرها من الحرف والمهن، ويتخذ هذا الخلاف درجات متنوّعة وألوانًا مختلفة أدناها الجدال والسّجال وأخطرها المطاردة والقتل وتتوسّطها الوشايات والدسائس والعراك والتهم الكيديّة والتحريض والانتقاد أو ما يسمّى "التنبير" في اللهجة التونسيّة أي التركيز على عيوب الخصم.
كما يتّخذ هذا العداء ألوانًا خاصّة متميّزة طريفة مثل "الكلاش الموسيقي" بين مطربي الراب، ويهدف في الغالب إلى الاستخفاف بمواقف الغريم وإنتاجه الفنّي، وهو أسلوب أقرب ما يكون إلى الهجاء بين الشعراء القدامى، ومنهم الثالوث الأمويّ المشهور جرير والفرزدق والأخطل الذي عرف بخرق كلّ الضوابط الأخلاقيّة في تبادل السباب ومختلف ألوان التحقير.
من الكلاش والتنبير إلى الطعن والتقتيل
لا يحتاج الباحث إلى نظر معمّق واستقصاء طويل للتحقّق من أوكد أسباب هذا الضرب من العداوة، ذلك أنّ الأنانيّة والنرجسيّة والجشع والحرص على احتكار السوق وتأميم الربح والاستئثار بالمصالح والمكاسب كلّها عيوب من شأنها أن تساهم في جعل "عداوة الكار" تتخطّى درجات التنبير والتنابز لتدرك بعدًا أشدّ حدّة وعنفا ودمويّة أحيانًا، ألم يقتل أحد باعة الدجاج بالمروج الثالث بولاية بن عروس، في جويلية/يوليو 2016، كهلًا يمتهن نفس المهنة، فيتَّمَ أبناءه بسبب التنافس على كسب ودّ الزبائن، إذ عمد القتيل حسب شهود عيان إلى التخفيض في السعر، فرأى القاتل في ذلك ما يمكن أن يحدّ من كسبه، فكانت النتيجة شجارا بين صاحبي نفس " الكار" أفضى إلى هلاك أحدهما.
اقرأ/ي أيضًا: الانتخابات الرئاسية: ترشحات تتنافس على نفس الخزان الانتخابي.. من سيستفيد؟
قد يدّعي البعض أنّ أساليب الشجار بين أصحاب نفس "الكار" تختلف من مهنة إلى أخرى، فيتجسّد ذلك من خلال الهجاء بين الشعراء والكلاش بين مطربي الراب والتنبير بين الرياضيين والدسائس بين الموظفين والشجار والضرب والقتل بين أصحاب الحرف البسيطة والمهن التي لا تحتاج إلى علوم دقيقة ومعارف عميقة.
هذا التقييم ينطوي على رؤية معياريّة للمهن تفضي إلى تعسّف في تصنيف أشكال فضّ الخلافات، فهؤلاء يرفعون الحناجر قدحًا وتشنيعًا، وأولئك يشهرون الأقلام ذمّا وهجاء، وتلك الفئة تجنح إلى الآلات الحادّة طعنًا وتقتيلًا. لكنّ الواقع يثبت أنّ المنتمين إلى كار المهن النبيلة قد يكون انخراطهم في الجريمة أكثر من عامّة المهنيين والحرفيين حسبُهم أن يوظفوا القتلة المأجورين أو "البانديّة" والبلطجيّة (باللهجة المصريّة) لتأديب خصومهم، يتّضح هذا خاصّة في ما يمكن تسميته على سبيل المجاز "الكار السياسيّ".
السياسة مورد كسب وحصانة
ترسّخ في أذهان عامّة الشعب أن السياسة في بعض الديمقراطيّات العربيّة ومنها تونس لم تعد سبيلًا إلى التنوير والإصلاح والتغيير، وثبت للمتابعين أنّ عددًا من رجال الأعمال يُقبلون على هذا النشاط رغبة في تمرير بعض القوانين التي تخدم مصالهم، وتبيّن للخبراء أنّ رهطًا من المجرمين والمزوّرين والمتهرّبين من الضرائب يتوخّون كلّ الطرائق من أجل بلوغ منصب سياديّ يمكّنهم من الحصانة ويحميهم من التّتبعات الجنائيّة.
وتَحَقَّق الجميع أنّ بلوغ السلطة عبر الصناديق بات يدرّ على النائب أو الرئيس مزايا ماديّة واعتباريّة كبرى له ولعائلته، لذلك تراجعت في تونس صورة السياسيّ المطارد والمحاصر والسجين واقترنت بالساسة شبهة الناهبين والمتحيّلين والسّراق، وهي الكلمة التي شكّلت مع مفردات أخرى إحدى الشعارات الهامّة في الثورة التونسيّة "التشغيل استحقاق يا عصابة السراق".
تشتّت "الرفقاء" وتنازع " الإخوة" فولّد ذلك صراعات حول الأحقيّة بالموروث الحزبي واللون السياسيّ أو ما سمّاه ناجي جلّول في حديثه عن الانشقاقات بين الندائيين "الباتيندا"
هذا التحوّل في مقاصد العمل السياسيّ جعل هذا النشاط الفكريّ والنضاليّ والميدانيّ مطيّة للكسب الماديّ السريع، فبات العمل الحزبيّ ضربًا من ضروب المهن أو الوظائف، ولم يسلم مناضلو الفترتين البورقيبيّة والنوفمبريّة من هذه اللَّوثة، فقد عدل جلّ المنخرطين في "الكار السياسيّ" عن المبادئ الإنسانيّة والقيم الوطنيّة، فانتشرت السياحة الحزبيّة، وأصبحت الولاءات مرتبطة بالمصالح، فانتهى الأمر إلى ألوان جديدة من التقارب منها ما يندرج ضمن ما يسمى "تواطؤ الأضداد". ونلمس ذلك في التحالف بين حزبين متباينين تباين الخطّين المتوازيين، فإذا بالمنافع والأرباح كفيلة بتفنيد المعادلات الفيزيائيّة والاجتماعيّة والنفسيّة، ألم تر كيف ساهمت المكاسب المشتركة في التقريب بين النداء والنهضة بعد انتخابات 2014، فذابت جبال الجليد التي نحتتها خلافات إيديولوجيّة ومواقف ثأريّة وتواريخ دمويّة.
مقابل هذا التناسب القائم على التقابل نشأت ضروب من العداء والتنافر بين ذوي اللون السياسيّ الواحد، فتشتّت "الرفقاء" وتنازع "الإخوة"، فولّد ذلك صراعات حول الأحقيّة بالموروث الحزبي واللون السياسيّ أو ما سمّاه ناجي جلّول في حديثه عن الانشقاقات بين الندائيين "الباتيندا"، فوقع تغير اجتماعيّ سياسيّ حزبيّ عنوانه تحوّل العداوة من " الكار" المهنيّ إلى "الكار" السياسي أي اللون الحزبيّ الواحد.
انكسار الأنساق وتشتّت الإخوان والرفاق
بلغ عدد المتطلّعين إلى قصر قرطاج ستّة وعشرين مترشّحًا للانتخابات الرئاسيّة السابقة لأوانها (15 سبتمبر/ أيلول 2019)، ورغم اتّصاف عدد منهم بالتفرّد والخصوصيّة فإنّ جلّ المتابعين يقسّمون هؤلاء الطّامعين في الرئاسة إلى ثلاثة تيّارات: إسلامييين ويساريين ووسطيين، هذا التقسيم يبدو متعسّفًا نسبيًا، غير أنّه سريع السريان على الألسن ويسير العلوق بالأذهان، ففي خضمّ هذا التفكّك والتشتّت أصبح الناخب في أمسِّ الحاجة إلى أحكام قطعيّة حتّى إن كانت غير دقيقة، فهو "ابن عوائده" على حدّ تعبير ابن خلدون مشدود إلى التقسيمات التقليديّة والتصنيفات النمطيّة.
غير أنّ هذا الناخب الميّال إلى التبسيط والتسطيح ومنتهى الوضوح كلّما تخطّى حرجًا في الفهم وقع في حرج أشدّ وأخطر، فقد انتظر أن ترتكز الحملات الانتخابيّة على تلك المعارك الإيديولجيّة بين الإسلاميين من جهة واليساريين والوسطيين من جهة أخرى، فإذا به إزاء خطابات ما عادت تخضع إلى الأنساق الصلبة المألوفة، وإذا الخلافات والصراعات تتخذ طابعًا أفقيًا تتفجّر بين أطراف تنسل من رحم واحد.
هذه المآلات جعلت المسافة بين اليساريّ واليساريّ أبعد أحيانًا من المسافة بين اليساريّ واليمينيّ
اقرأ/ي أيضًا: السيكولوجية الجماهيرية وصناعة الزعيم
فعلى اليمين، يهتك حاتم بولبيار سرّ حركة النهضة التي انسلخ منها حتّى قال القائل على لسان ابن الرومي الشاعر العبّاسيّ "عدوك من صديقك مستفاد..." ثمّ أضاف "إذا انقلب الصديق غدا عدوّا ** مُبينا والأمور إلى انقلاب" (الديوان، منشورات، مكتبة الهلال ، بيروت 1991، ص246)، أمّا في الوسط فقد نحا "أبناء الباجي وورثته المتخاصمون " منحى صداميًا تشكّل من خلال اتّهامات أبسطها المحسوبيّة والمحاباة وأخطرها التخطيط للانقلابات. وأمّا على اليسار فقد قال حمّة الهمّامي في منجي الرحوي ما لم يقله فيه أكثر الإسلاميين تشدّدًا، وذلك في سياق معركة الجدارة بتمثيل الجبهة الشعبيّة في الانتخابات الرئاسيّة، في المقابل تعهّد الرحوي بأن لا يسلّم الجبهة الشعبيّة إلى رفيقه السابق.
هذه المآلات جعلت المسافة بين اليساريّ واليساريّ أبعد أحيانًا من المسافة بين اليساريّ واليمينيّ، ففقدت الحدود صرامتها وصلابتها، وأصابها ضرب من التداخل والانكسار، وهو ما نبّه إليه ونظّر له حسن حنفي المفكّر المصريّ منذ ما يزيد عن عقدين في بعض مؤلّفاته منها "قضايا معاصرة في فكرنا المعاصر" و"التراث والتجديد".
المستفيدون من تطاعن ذوي القربى
أفضت "عداوة الكار السياسيّ" والفُرقة بين ذوي اللّون الإيديولوجيّ الواحد إلى نتائج هامّة وخطيرة كان لها صدى في صفوف الأحزاب والشخصيات والناخبين، نذكر منها أربعًا:
النتيجة الأوّلى تتّصل بتراجع الاستقطاب الحادّ بين التيارات السياسيّة التقليديّة، فخفّ التجاذب بين اليمين واليسار، وكادت تختفي ثنائيّة التكفير والتخوين التي هيمنت على مناكفات هذين التيّارين منذ عقود، فأثّر ذلك في بعض مضامين الدعاية الانتخابيّة، إذ لم تعد متمحّضة للمُناصر المؤيّد تأييدًا متعصّبًا، بل باتت تستهدف فئات أخرى أوسع، منها المحايدين والمعتدلين والمعرضين عن التجارب السابقة والراغبين رغبة تلقائيّة صادقة في الاطلاع على البرامج والإصلاحات المراد تنفيذها من هذه الجهة أو تلك، فنمَت فنون السؤال والإنصات والحوار حتّى أثمرت مناظرات لا تخلو من فوائد رغم بعض الاحترازات.
أفضت "عداوة الكار السياسيّ" إلى تراجع الاستقطاب الحادّ بين التيارات السياسيّة التقليديّة، فخفّ التجاذب بين اليمين واليسار، وكادت تختفي ثنائيّة التكفير والتخوين التي هيمنت على مناكفات هذين التيّارين
النتيجة الثانية ترتبط بإجماع المتابعين على تشتّت الأصوات داخل كلّ عائلة سياسيّة تشتّتًا ينذر بالحسرة والخسران، فتعالت أصوات براغماتيّة داعية إلى توحيد الصفّ حاثّة على تنازل مجموعة من المرشّحين لفائدة مرشّح واحد حرصًا على ضمان أوفر سبل النجاح، وتواترت تلك الأصوات في شكل رسائل ومبادرات ونداءات بيد أنّها لم تثمر، وجوبهت بالعناد وتضخّم الذات.
النتيجة الثالثة تتجلّى في حيرة الناخب إزاء شخصيّات تكاد تتماثل رؤية ومرجعيّة وخطابًا ومقامًا، وهو ما خلّف تردّدًا. وإذا كان التّردّد في السلوك اليوميّ مضيعة للوقت وغُلًا للإرادة، فإنّ التردّد على عتبات صناديق الاقتراح مدعاة إلى العزوف عن التصويت، وهو ما أكّده رفيق سكري في كتابه "دراسة في الرأي العام والإعلام والدعاية" نقلًا عن بعض البحوث الأمريكية، فيكون المواطن على هذا النحو قد تخلّص من "قلق الندرة" في عهود الاستبداد، فوقع في "قلق الكثرة" والتشابه في زمن الحريّة، وكلاهما قد يتسبّب حسب بعض الاختبارات النفسيّة والأطروحات الفلسفيّة في تعطّل العزم والاختيار والقرار.
النتيجة الرابعة التي أفضى إليها الضرب الجديد من العداوة السياسيّة تمثّلت في تخلّص بعض الشخصيّات والأحزاب من الضغط النقديّ المركّز، فتحوّل المنصف المرزوقي على سبيل المثال إلى أيقونة سياسيّة عند خصوم الأمس ومناوئيه والمستخفّين به والساخرين منه، وقد تداول أنصار هذا المرشّح مقطعًا من فيديو فيه مديح لرئيسهم المنشود من قبل رضا بلحاج القيادي السابق بنداء تونس وبعض الإعلاميين والمنشطين منهم توفيق بن بريك ونوفل الورتاني وعلاء الشابي.
في نفس السياق، شكّلت المعارك بين الأحزاب المتجاورة فكريًا وإيديولوجيًا متنفّسًا للإسلاميين، إذ توزّعت الطاقة النقديّة والشحنة العدائيّة على أطراف شتّى، مصداقًا لذلك قال عبد الحميد الجلاصي القيادي بحركة النهضة في حوار مع "ألترا تونس" أنه "فِي هذا الوضع الجديد تصبح كل الالتقاءات والتحالفات ممكنة ولكن على أساس برامج وخيارات وليس على أساس مرجعيات" وهو ما قد يؤشر الى تحولات جذرية قادمة في مورفولوجيا المشهد الحزبي، فقد انتهى على حدّ تعبيره "زمن الفرز الثنائي: النهضة والآخرون أو الآخرون والنهضة".
هذه النماذج والأمثلة التي عرضناها حول انكسار الأنساق الإيديولوجيّة بمناسبة السباق الانتخابيّ تعدّ مؤشّرًا على تحوّل قد يرقى إلى قطيعة سياسيّة ثقافيّة ومعرفيّة، لكنّ الأمر يحتاج إلى اختبارات أخرى، فقد تعُود سنّة الاصطفاف الإيديولوجيّ إلى الظهور بحدّة في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسيّة السابقة لأوانها.
اقرأ/ي أيضًا: