31-مايو-2024
تحية المدرّس نهاية العام الدراسي في تونس.. فوتوغرافيا الاعتراف

لقد أصبحت للصورة الفوتوغرافية داخل المدرسة عناوين أخرى غير العنوان القديم المتعارف عليه

 

تبقي الفوتوغرافيا إنجازًا بشريًا فارقًا يفوق العقل والخيال والوجدان ويجعل الإنسان في حيرة مطلقة تجاه حركة الكون التي لا تسكن أبدًا وما بات يحدث داخلها من تجاويف فوتوغرافية، حيث إن تسريب الزمن من بين الأصابع دون أن نعرف له توقفًا من قبل، أصبح من الممكن كبحه ولو للحظة عبر كبس زر الآلة الفوتوغرافية العجيبة حتى ندرك بغير التذكّر ما حصل في لحظة ما من حياتنا التي لا تتوقف بالمعنى الفيزيائي للكلمة.

من الفوتوغرافيا المتجددة والتي لا نمل منها، وباركتها مؤخرًا منصات التواصل الاجتماعي، تلك التي نلتقطها عادة داخل المدرسة والمعروفة بصورة القسم أو صورة المدرسة

ومنذ ذلك الحين، أصبحت الفوتوغرافيا جزءًا من الحياة ذاتها وتأكيدًا مرشوقًا على جدار الزمن المستمر بلا هوادة ودونما ضجيج أو توقف، وحقيقتها أنها لا تحاول أن تستعيد الواقع الذي غادر لتوه، بل تتحدث معه وعنه كما هو بكل إخلاص، وتمهلنا بعض الوقت للتأمل والابتسام ودس الصور تحت وسادة العمر لنباهي بها عناد الطريق، وتحولت فيما تحولت إلى وثيقة ينعكس على أديمها الفضي قدرتنا على استيعاب مخاتلات الحياة وترانيم الزمن.

الصورة الفوتوغرافية ومع كل توغل في الزمن، أصبحت تشبه الحالة الممجدة التي يعيشها الإنسان في مواعيد ومواقيت بعينها، فيها من القداسة ومن القدرة على الخوف من النسيان فنجد مثلًا صورة الزواج وصورة العيد وصورة النجاح وصورة التتويج، صورة الانتصار وصورة الوداع وصورة الزلزال وصورة الحرب.. إذ لا محيد عن هذه العناوين فهي قبض متين على لحظة فارقة أو عابثة من مسار الحياة الطويل.

فوتوغرافيا الاعتراف هي تلك الصورة التي يجتمع فيها التلاميذ مع مدرسيهم والمدير والحارس، فتبقى الذكرى متوهجة على الدوام، فكأنما نحمل مرورنا بالمدرسة وشقاوتنا ودموعنا وأفراحنا الصغيرة في صورة

ومن الفوتوغرافيا المتجددة والتي لا نمل منها وباركتها مؤخرًا منصات التواصل الاجتماعي عبر شبكة الإنترنت، تلك التي نلتقطها عادة داخل المدرسة والمعروفة بصورة القسم أو صورة المدرسة وهي تلك التي يجتمع فيها التلاميذ مع مدرسيهم والمدير والحارس، فتبقى الصورة متوهجة على الدوام، نحملها معنا أينما حللنا فكأنما نحمل مرورنا بالمدرسة وشقاوتنا ودموعنا وأفراحنا الصغيرة في صورة.

الصورة النمطية للمدرسة عرفت مع التطور التكنولوجي في عالم التصوير الفوتوغرافي تفجرًا وتغيرًا وخروجًا عن النمطية فأصبحت لتلك الصورة الذهبية المعروفة زوايا أخرى داخل الفصل الدراسي وفي الساحة ومع الأتراب ومع المربين والمدرسين.

 

 

هذه الأيام ونحن نعيش الأيام الأخيرة من العام الدراسي في تونس بكل ما يحوي من حيوية وتوثب وانفعالات، تأتي الفوتوغرافيا لتلخص كل شيء وتقول كل شيء دفعة واحدة: كمية الأحاسيس والعواطف التي تشكلت طيلة العام الدراسي، الحالات الشعرية التي تراكمت داخل المدرسة، الوجوه التي باغتها الرحيل، أفئدة التلاميذ وهي تتنقل من خاطرة إلى خاطرة، قصص الحب التي نشأت لتوّها، الألفة التي سرت بين الأفئدة الصغيرة، حالات الحسرة والانتظار القاسي، شقاوة وقت الراحة.. نعم، لقد أصبحت للصورة الفوتوغرافية داخل المدرسة عناوين أخرى غير العنوان القديم المتعارف عليه.

الصور الفوتوغرافية في هذه الحالات تتحول إلى شهادة وموقف ورحيق زكي الطعم والرائحة ومن ثمة يختصر بهاء أيام العام الدراسي الطويلة في لقطة مكثفة على ورق فضي أو مخزّنة في زاوية ما في ذاكرة الحاسوب أو الهاتف الذكي.

 داخل عالم هذه الصورة الفوتوغرافية المدرسية المكثفة جدًا، انشغل التلاميذ مع نهاية العام الدراسي بزاوية اعتبارية في جغرافيا الصورة المدرسية ألا وهي تكريم المدرّسين

داخل عالم هذه الصورة الفوتوغرافية المدرسية المكثفة جدًا، انشغل تلاميذ الإعداديات والمعاهد التونسية مع نهاية العام الدراسي الحالي بزاوية اعتبارية في جغرافيا الصورة المدرسية ألا وهي تكريم المربين وتحديدًا المدرّسين من معلمين وأساتذة.

"الترا تونس" استطلع أمر هذه الصورة ونقل آراء أغلب الفاعلين والمعنيين والمختصين:

  • التلاميذ: نحن نخلّد مرورنا المدرسي عبر الفوتوغرافيا

"أنور ميغري" تلميذ بالسنة الثالثة علوم إعلامية بأحد معاهد مدينة منوبة بتونس الكبرى يروي كيف اجتمع فريق واسع من تلامذة القسم الذي ينتمي إليه وقرروا تكريم أستاذة العلوم الفيزيائية فجمعوا الأموال واقتنوا باقة ورد وحصة من المرطبات وحلويات ومشروبات وباقة ورد وشهادة تكريم كتبوا على أديمها نصًا شعريًا خطّته زميلة لهم، اعترفوا من خلاله لأستاذتهم بعلوّ أخلاقها وأمومتها تجاههم وحسن معاملتها وقدرتها الفائقة على إيصال المعرفة والعلم. 

تلميذ لـ"الترا تونس": عوّلنا على عنصر المفاجأة في حفل تكريم أستاذتنا، ولن ننسى دموعها وهي بين تلامذتها تتلقى الورد والمحبة

وأضاف التلميذ "أنور ميغري" أن هذا التكريم خضع لسيناريو بعينه حتى قبل أن تصل الأستاذة إلى قاعة الدرس، وعوّلوا على عنصر المفاجأة في حفل التكريم، ويضيف التلميذ أنهم لن ينسوا دموع أستاذتهم وهي بين تلامذتها تتلقى الورد والمحبة. واعتبر التلميذ ذلك اعترافًا منهم لمربية فاضلة وختم بأن الصورة الفوتوغرافية هي التي خلدت تلك اللحظات العاطفية القوية وأبقتها إلى الأبد حتى أنهم قاموا بنشرها على صفحاتهم على منصات التواصل الاجتماعي وحصدت الإعجاب.

التلميذة "لبنى الخالدي" التي تدرس بالسنة الأولى من التعليم الثانوي بمعهد عمومي بجهة باردو بتونس أوضحت لـ"الترا تونس" أنها كانت رئيسة فريق تكريم أستاذ اللغة العربية حيث قرر مجموعة من زملائها من مختلف الأقسام التي يدرّسها الأستاذ، أن يقتنوا لوحة فنية من النحاس من أسواق مدينة تونس العتيقة وباقة ورد، واستقدموا مصورًا فوتوغرافيًا محترفًا، وقاموا بتكريم الأستاذ بحضور مدير المعهد.

تلميذة لـ"الترا تونس": استقدمنا مصورًا فوتوغرافيًا محترفًا وأهدينا لأستاذ العربية صورة مؤطرة كان فيها محاطًا بعدد غفير من تلامذته وهم يغمرونه بالورد

وتحدثت لبنى عن أهمية الصورة لأنها ما سيبقى بعد التكريم، وتم الاختيار على صورة مفعمة بالاعتراف يظهر فيها الأستاذ محاطًا بعدد غفير من تلامذته وهم يغمرونه بالورد. وأشارت إلى أنهم قاموا بتأطير الصورة المثالية وأهدوها للأستاذ في لقاء آخر. واعتبرت التلميذة لبنى أن هذا التكريم هو نوع من الشكر بأسلوب تلمذي.

"كريم السالمي" وهو تلميذ البكالوريا آداب بأحد معاهد الضاحية الغربية للعاصمة تونس، تحدث عن تكريم أستاذهم لمادة الفلسفة مشيرًا إلى أن علاقة قسمهم بهذا الأستاذ فيها عمق إنساني وصفاء خاص، فهم على تواصل معه يوميًا سواء عبر الدروس المباشرة أو عبر منصات التواصل الإجتماعي على شبكة الانترنات، وهو لا يتوانى في مدّ يد المساعدة بدون مقابل وبمحبة المربي للتلميذ، لذلك قرر هؤلاء التلاميذ، إنجاز فيديو على مراحل واستمرت العملية تلك بضعة أسابيع حتى يبقى ذكرى خالدة.

تلميذ لـ"الترا تونس": تكريمًا للأسرة التربوية بالمعهد، قمنا باختيار 100 صورة التقطها التلاميذ أنفسهم وسنعرضها بمعرض للصور الفوتوغرافية في يوم العلم

وأوضح أن المهمة تمت بسلام وكان شريطًا عفويًا حمل لحظات فيها مشاعر قوية لن تتكرر ولن تنسى وسيعرضون الشريط في يوم العلم تحية منهم لأستاذهم. وبيّن التلميذ كريم السالمي أنهم اكتشفوا أن الصورة الفوتوغرافية أبقى وأعمق فقرروا التقاط صورة مع الأستاذ فاختاروا حديقة البلفدير بالعاصمة مكانًا مثاليًا لها واعتبروها صورة عزيزة، بل هي تلخيص لسنة دراسية بأكملها.

التلميذ "أيمن الشملي" يدرس بكالوريا اقتصاد وتصرف بأحد المعاهد الثانوية بالضاحية الجنوبية للعاصمة تحدث لـ"الترا تونس" عن إنجاز قام به تلامذة معهدهم ويتمثل في معرض للصور الفوتوغرافية خاص بتكريم المربين ينوون تنفيذه نهاية العام. وأشار إلى أن الفكرة كان منطلقها حوارات تلمذية داخل المعهد سرعان ما تطورت لجلسات لاختيار مائة صورة التقطها التلاميذ أنفسهم. واعتبر "أيمن الشملي" ذلك تكريمًا للأسرة التربوية بالمعهد واعترافًا بجليل القيم التي قدّموها.

  • الأساتذة: تكريمات تشي بأننا كنا ولا زلنا على الطريق السليمة

بيّن المربي الأستاذ سفيان النفزي من جهته، وهو الذي يدرّس مادة التربية المدنية بأحد معاهد باجة، أنه حظي بالتكريم من طرف تلامذته قبل انطلاق الامتحانات، والتقطوا له صورًا عديدة لكن واحدة فقط رسخت في مخيلته واعتبرها أيقونية حيث يبدو فيها مطوقًا بمحبة التلاميذ.

سفيان النفزي (أستاذ تربية مدنية) لـ"الترا تونس": ظاهرة تكريم الأسرة التربوية من قبل التلاميذ هي ظاهرة صحية وتشي بنوع من التعافي في العلاقة مع المدرسة وتحديدًا مع التلميذ

وأشار الأستاذ النفزي إلى أن ظاهرة التكريم التي شملت الأسرة التربوية من قبل التلاميذ هي ظاهرة صحية وتشي بنوع من التعافي في العلاقة مع المدرسة وتحديدًا مع التلميذ وهي ظاهرة تغني عن العديد من الامتيازات المادية لأن المربي يحيا بالمعنى وبالكلمة الطيبة وفق قوله.

الأستاذة "آمال المرزوقي"، هي أستاذة تدرس مادة اللغة العربية بأحد معاهد العاصمة تم تكريمها مؤخرًا من قبل تلامذتها، تروي ذلك بكل تأثر معتبرة ذلك تتويجًا أدبيًا نبيلًا وراقيًا وفيه اعتراف بمجهودها، لافتة إلى أن التكريم كان خارج المعهد وحضره بعض الأولياء وتحول جزء منه إلى نقاش حول مسائل تربوية تهم العلاقة مع الأستاذ والدرس والمحتوى.

 

 

وأكدت الأستاذة المرزوقي أن الصور الفوتوغرافية التي التقطها التلاميذ وقاموا بتنزيلها على صفحاتهم على منصات التواصل الاجتماعي بكل فخر، فيها تكريم لمسيرتها وإشارة إلى أنها كانت على طريق التربية السليمة.

  • المختص في فلسفة التربية: التلميذ التونسي يبحث عن الأمان عبر ظاهرة تكريم المربين

الأستاذ عماد العباسي المختص في علوم التربية والباحث في فلسفة التربية بالجامعة التونسية أشار إلى أن المدرسة التونسية اتسمت بالكآبة طيلة عقود، وكانت منجذبة لشعار "من جدّ وجد ومن زرع حصد"، قائلًا إن المربين كانوا منشغلين بالتدريس وابتكار أساليب تمرير العلوم والمعارف بعيدًا عن المرح متناسين أن طلب العلم يتطلب المرونة. وعلى حد عبارة علي بن أبي طالب فإن "رأس العلم الرفق".

آمال المرزوقي (أستاذ لغة غربية) لـ"الترا تونس": الصور التي التقطها التلاميذ وقاموا بتنزيلها على السوشال ميديا بكل فخر، فيها تكريم لمسيرتي وإشارة إلى أني كنت على طريق التربية السليمة

وأوضح الأستاذ الباحث، أنّ التلميذ يميل إلى المربي ذي النزعة الإنسانية في تواصله، لذلك تتشكل العلاقة معه على نحو مختلف، ويضيف أنه يمكن تنزيل ظاهرة صور تكريم المربين ضمن هذه العلاقة المختلفة وأيضًا ضمن تحرر التلميذ من أغلال المدرسة الكلاسيكية الطاردة عبر تراتيبها وعاداتها الكلاسيكية.

واعتبر الأستاذ العباسي أن التلميذ التونسي اليوم ينزع إلى تنشيط نفسه بنفسه على المستوى الرياضي والثقافي وحتى في مستويات التواصل وصناعة العلاقات المابينية بما في ذلك العلاقة مع الأستاذ مانح المعرفة وزارع القيم المجتمعية.

عماد العباسي (مختص في علوم التربية) لـ"الترا تونس": التلميذ التونسي اليوم يبحث عن الأمان التربوي فكان تكريم المربين هو بمثابة التكريس لمربع الأمان

وأوضح أن الدراسات التربوية لم تتعمق بعد كمًا وكيفًا في فهم هذه الظواهر وتفكيكها وتثمين المبتكر منها، على غرار ظاهرة التصوير الفوتوغرافي للحظات مفعمة بالعاطفة داخل المدرسة.

وخلص الأستاذ عماد العباسي إلى أن التلميذ التونسي اليوم يبحث عن الأمان التربوي فكان تكريم المربين هو بمثابة التكريس لمربع الأمان.

تبقى ظاهرة تكريم المربين من قبل التلميذ التونسي والنزوع مجددًا إلى الصورة الفوتوغرافية وإعلاء حضورها وترويجها عبر منصات شبكات التواصل الاجتماعي -تخليدًا للحظات بعينها في المسار الدراسي- نوعًا من ربط الوشائج التربوية بأساليب تلمذية خالصة. وهو ما يتطلب بحثًا سوسيو تربوي لعلّنا نخلص إلى مخرجات نرتب من خلالها العلاقات التربوية على نحو مغاير.